“أنس الشريف”.. صوت غزة الذي هابه الاحتلال وعجز عن إسكاته إلا بالصواريخ

عربي بوست
تم النشر: 2025/08/11 الساعة 14:01 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2025/08/11 الساعة 14:30 بتوقيت غرينتش
أنس الشهيد وهو يحمل سترة الواقية لزميله مراسل الجزيرة إسماعيل الغول، بعد أن قُتل في غارة إسرائيلية في 31 يوليو/تموز 2024 - رويترز

وُلد أنس الشريف عام 1996 في مخيم جباليا، في زمن كان الهواء فيه مشبعاً برائحة البارود. نشأ بين جولات متلاحقة من النار، حرب تعقبها أخرى، حتى غدت حياته خيطاً مشدوداً بين الصواريخ والدماء.


وفي حرب الإبادة المستمرة إلى اليوم، لم يكن مجرد شاهد على المذبحة، بل كأنما وُكِل بحملها إلى العالم، لا ليستغيث، فقد أدرك أن العالم ترك غزة تُذبح، وإنما ليضع هذا العالم أمام صورته الحقيقية: قاسية، باردة، ومتواطئة.


رفض أن يغادر وهو في عنفوان شبابه، ورفض أن ينجو وحده تاركاً مدينته تُذبح. كان يدرك أنه لن يوقف المذبحة، ويعلم أن الاحتلال، وخلفه أعتى إمبراطورية على وجه الأرض، قد أصدر حكماً بقتله، وأن السلاح الذي ينتظره ليمزق جسده لن يخطئه، فهو من أحدث وأفتك ما أنتجته الحضارة. ومع ذلك، بقي في أرضه التي يلتهمها العالم، حتى حين غدا جسده هزيلاً من الجوع، وقلبه محطماً من فقد كل ما عرفه: البيت، المدينة، الأصدقاء، وحتى الصورة التي كان يحملها للعالم وأحلامه الصغيرة.


ظل واقفاً، وكأنه الفارس الأخير، يجر جسده المرهق وفؤاده الممزق بين ركام مدينته، يوثّق المجزرة تلو الأخرى. فقد أجبرته قسوة العالم على أن يصوّر، كل يوم، أطفال مدينته لا يركضون ويلعبون، بل ما تبقى منهم من أشلاء أمام عينيه، وأن يلتقط صور البيوت التي كانت يوماً بيت أهله وأحبابه وهي على عروشها، وأن يواصل البث بينما صوته مختنق بالرماد والحزن، وفؤاده معلّق على مشانق الفقد والقهر.


ما هذا الرجل؟! ولماذا كان يخشاه الاحتلال فيطارده ليقتله، وهو أعزل لا يملك سوى الحقيقة؟

كيف عرف العالم أنس الشريف؟


أنس جمال الشريف، مراسل الجزيرة في غزة، لم يكن مجرد ناقل خبر، بل كان بشيراً نادراً يأتي أحياناً بأخبار هدنة، ونذيراً دائماً يحذر من مغبة أن نُشيح النظر عن دماء الفلسطينيين التي لا تجف.


فخلال نحو عامين من حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة، صار وجهه جزءاً من الذاكرة اليومية للعالم — وجه يخرج من بين الركام، يلتقط أنفاسه وسط الغبار، ثم يمد صوته كجسر بين غزة المحاصرة وبقية العالم الذي يحاول أن يشيح بوجهه عن المذبحة.

كيف عاش أنس الشريف؟

وُلد أنس في الثالث من ديسمبر/كانون الأول 1996 في مخيم جباليا، في مساحة جغرافية لم تعرف السلام، حيث شهد كل الحروب الإسرائيلية على غزة. فكانت شوارع المخيم الضيقة والسماء الملبدة بدخان الغارات وأصوات الإسعاف المستمرة — كل ذلك كان خلفية طفولته.

درس في مدارس الأونروا ومدارس وزارة التربية والتعليم، ثم التحق عام 2014 بجامعة الأقصى لدراسة الإذاعة والتلفزيون، وتخرج عام 2018. بدأ مراسلاً متطوعاً، وشيئاً فشيئاً حاول أن ينقل واقع الفلسطينيين في غزة تحت الحصار.

أنس الشريف: مراسلاً وابناً وأباً وصديقاً في زمن الإبادة

في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، ومع بدء الإبادة الإسرائيلية على غزة، انضم أنس جمال الشريف إلى شبكة الجزيرة، ليصبح شاهداً يومياً على المجازر. لم يكن يغطي الحرب من بعيد، بل كان يسير في شوارع مدينته، يدفن شهداءها، ويواكب صرخات أمهاتها، وينقل صورة الإبادة كما هي: من المقابر المؤقتة، ومن أبواب المستشفيات التي ضاقت بجرحاها، ومن بين رائحة التراب الممزوجة بالدم.

برز أنس حتى ألفته العيون، وصار وجهاً يعرفه الجميع، فاعتبره الاحتلال خطراً، لأنه لم يكن مجرد شاهد، بل مُساءِلاً. إذ كان يغطي الحرب كمن يكتب مذكراته، إذ لم يضعه القدر مراسلاً فقط، بل ابناً لمدينة تُباد على الهواء، ولم يكن ينقل مأساة "آخرين"، بل مأساة بيته وشارعه وشعبه.

لم يكن أنس عيناً تنقل فقط، بل ذاكرة حيّة للمجازر، وصوتاً يصرّ على إغلاق الأبواب في وجه رواية الاحتلال. في نشرات الأخبار، في المقابلات، وفي البث المباشر من بين الركام، كان يقدم للعالم مشهداً واحداً متكرراً: الحقيقة، مجردة وواضحة، عن الإبادة الجماعية بحق الفلسطينيين في غزة. وكما تقول المراسلة الحربية ماري كولفين: "المراسل الحربي يرسل إلى الوطن تلك المسوّدة الأولى للتاريخ". فماذا عن حرب إبادة في بث مباشر وكأن التاريخ يُبَث من قلب جهنم، حيث الدم طازج والدمار لم يبرد.

إسرائيل لم تُخفِ كرهها له، فاتّهمته مراراً بالانتماء إلى فصائل مسلحة، وأمطرت هاتفه بتهديدات علنية وسرية. لكنه، بعناد لا يليق إلا بمن يرفض الظلم، ظل في الميدان. حتى حين قصفت طائرات الاحتلال منزله في ديسمبر/كانون الأول 2023 وقتلت والده، لم يمهله الحزن طويلاً، فدفنه في ساحة مدرسة تابعة للأونروا، ثم عاد إلى الميدان ليواصل واجبه في نقل المجازر. كان قد شيّع أصدقاءه واحداً تلو الآخر.

في أواخر يوليو/تموز 2025، تلقى أنس الشريف وعدد من الصحفيين الفلسطينيين تهديدات جديدة من جيش الاحتلال الإسرائيلي، ما أثار استنكار شبكة الجزيرة ومؤسسات دولية.

إذ ندّدت المقررة الخاصة للأمم المتحدة المعنية بحرية الرأي والتعبير، إيرين خان، بهذه التهديدات، مؤكدة أنها "تعرض حياته للخطر". ووصفت خان اتهامات إسرائيل للصحفيين بأنهم "إرهابيون" بأنها باطلة، ودعت المجتمع الدولي إلى التحرك العاجل لمنع استهدافهم، معتبرة أن قتل واعتقال الصحفيين ليس سوى استراتيجية لقمع الحقيقة وطمسها.


في مساء 11 أغسطس/آب 2025، كانت خيمة صغيرة قرب مجمع الشفاء الطبي في غرب غزة ملاذاً هشّاً لعدد من الصحفيين. هناك، حيث كانت رائحة الدم تسبق الكاميرات، تحولت الخيمة إلى رماد. بصواريخ إسرائيلية، أُطفئت حياة خمسة صحفيين: محمد قريقع، إبراهيم ظاهر، محمد نوفل، محمد الخالدي، والمصور مؤمن عليوة، وفقاً لمصادر فلسطينية. وكان بينهم أنس جمال الشريف — الصوت الذي لم تستطع إسرائيل إسكاته إلا بقتله.

وصيته

بعد استشهاده، نشر أقارب أنس الشريف وصيته، التي افتتحها بقوله: "إن وصلتكم كلماتي هذه، فاعلموا أن إسرائيل قد نجحت في قتلي وإسكات صوتي."


كتب أنه بذل كل ما يملك من جهد وقوة ليكون سنداً وصوتاً لأبناء شعبه، وأنه لم يتوانَ يوماً عن نقل الحقيقة كما هي، مهما كان الثمن. أوصى بفلسطين، التي وصفها بـ"درة تاج المسلمين" و"نبض قلب كل حر"، ودعا إلى الوفاء لأهلها وأطفالها الذين لم يمنحهم العمر فرصة للحلم أو الأمان.

في كلماته الأخيرة، حثّ على ألّا تُسكت القيود الأحرار، ولا تُقعدهم الحدود، وأن يكونوا جسوراً نحو تحرير الأرض والإنسان، حتى "تشرق شمس الكرامة والحرية على بلادنا السليبة".


أوصى بابنته "شام" التي حلم أن يراها تكبر، وبابنه "صلاح" الذي تمنى أن يكون له سنداً، وبوالدته التي كانت دعواتها حصنه ونور دربه. وأهدى لزوجته، التي فرّقتهما الحرب شهوراً، كلمات وفاء، واصفاً إياها بأنها "ثابتة كجذع زيتونة لا ينحني". واختتم وصيته بالدعاء أن يغفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وأن يكون دمه نوراً يضيء درب الحرية لشعبه وأهله.

في المقابل، وفي بيان فجّ، أقر جيش الاحتلال باستهدافه، ووصفه بأنه "إرهابي متنكر بزي صحفي"، مدعياً — على عادة المزاعم الإسرائيلية في وصم الصحفيين الفلسطينيين قبل قتلهم.

"الإبادة الإعلامية"


باغتيال أنس، ارتفع عدد الصحفيين الذين قتلهم الاحتلال في غزة منذ بدء الإبادة في أكتوبر/تشرين الأول 2023 إلى 238 شهيداً، كثير منهم قتلوا أثناء تغطية الأحداث، والبعض الآخر جراء قصف منازلهم مباشرة. إنها حصيلة غير مسبوقة في التاريخ الحديث لأي حرب أو صراع.

هذا الرقم المروّع يعكس ذروة ما يسميه باحثين بـ"الإبادة الإعلامية" — استراتيجية إسرائيلية ممنهجة لتدمير البنية الصحفية الفلسطينية بالكامل: قتل الصحفيين وأسرهم، محو مؤسساتهم، وملاحقتهم حتى داخل المستشفيات والخيام. الهدف ليس فقط إسكات الأفراد، بل محو الرواية الفلسطينية من جذورها عبر القضاء على الجيل المهني الشاب (20–40 عاماً) الذي يشكل عماد الصحافة في غزة.

ففي دراسة أصدرها مركز الجزيرة للدراسات في يوليو/تموز 2024 بعنوان "الحرب على غزة وهندسة الإبادة الإعلامية للجماعة الصحفية الفلسطينية" أوضحت أن هذا الاستهداف ليس عرضياً، بل عمل محسوباً ومنظماً يندرج تحت مفهوم جديد هو "الإبادة الإعلامية" — أي التدمير الجزئي أو الكلي للجماعة الصحفية من خلال القتل المباشر، إلحاق الأذى الجسدي والنفسي، فرض ظروف معيشية مميتة، تدمير وسائل العمل، ومنع الصحفيين من ممارسة مهنتهم لكشف الحقائق.

المقارنات التي عرضتها الدراسة تكشف حجم الفظاعة: في 210 أيام فقط من الحرب، قُتل 153 صحفياً — بمعدل صحفي واحد كل 33 ساعة — أي ما يعادل 12.75% من صحفيي غزة، وهو رقم لم تبلغه أي حرب، بما في ذلك الحرب العالمية الثانية أو حرب فيتنام أو "العشرية السوداء" في الجزائر.

الأمر يتجاوز استهداف الصحفيين الأفراد إلى محاولة تفكيك نسيجهم الاجتماعي؛ فقد وثقت الدراسة تهديدات إسرائيلية لعائلات الصحفيين، وإجبارهم على النزوح إلى ما يسمى "مناطق آمنة"، قبل قصف هذه المناطق نفسها. هذه السياسة المزدوجة — التهجير ثم القتل — تكشف أن الهدف النهائي ليس فقط كتم الصوت، بل محو الشاهد والذاكرة معاً.

تحميل المزيد