أربكت مقررات جلسة الحكومة اللبنانية التي عُقدت يوم الثلاثاء 5 أغسطس/آب 2025 "حزب الله" وحلفاءه، إذ لم يصدر الحزب موقفًا فوريًا من قرار مجلس الوزراء القاضي بتكليف الجيش إعداد خطة تنفيذية لحصر السلاح بيد الدولة خلال 120 يوماً.
وقد جاء التريّث في إعلان الموقف نتيجة الصدمة التي تلقاها الحزب من مجريات الجلسة، لا سيما في ظل تفاهمات سابقة كان يعتقد أنها ستمنع الوصول إلى مثل هذا القرار، أو ربما انتظارًا لبلورة موقف إيراني رسمي في التعامل مع هذا التحول. وفور تبلّغ الحزب مضمون القرار من حليفه رئيس مجلس النواب نبيه بري، تحرّكت القنوات السياسية بين الطرفين، وطرحت في البداية فرضية مقاطعة الجلسة والتهديد بانسحاب الوزراء الشيعة من الحكومة.
لكن بري، ورغم إبلاغه الحزب بأنه طلب من رئيس الجمهورية جوزيف عون تأجيل طرح بند السلاح، شدّد على ضرورة المشاركة، معتبرًا أن المقاطعة تعني ترك الساحة للخصوم، في وقت تُمارس فيه ضغوط خارجية واضحة على لبنان. وبحسب المعلومات، اقتنع الحزب بهذا الطرح، وأعاد ترتيب موقفه بالتوازي مع كلمة للأمين العام للحزب الشيخ نعيم قاسم، اتّسمت بلهجة حادّة، وحضرها السفير الإيراني في بيروت، مجتبى أماني، كرسالة واضحة للداخل والخارج.
غير أن الصدمة الأكبر تمثلت في إعلان رئيس الحكومة نواف سلام القرار بنفسه، متضمّناً جدولًا زمنيًا واضحًا لتسليم السلاح. الحزب، وإن انسحب من الجلسة، قرر عدم مقاطعة الحكومة نهائيًا، في ما بدا أنه إشارة إلى إدراكه لحجم الضغط الدولي والعربي الداعم لهذا المسار، وعدم رغبته في الانزلاق إلى مواجهة داخلية قد تُفقده شرعية لطالما حرص على الحفاظ عليها في البيئة اللبنانية.
صدمة "حزب الله"
رغم تمرّس "حزب الله" في مواجهة الضغوط الداخلية، إلا أن ما واجهه في جلسة الثلاثاء 5 آب/أغسطس لم يكن تقليديًا. فقرار نزع السلاح أتى منسقًا بين رئيس الحكومة ووزراء "القوات اللبنانية" و"الكتائب"، وبدعم أميركي – سعودي، ما جعله يبدو كخطوة مدروسة ومكتملة الأركان، لا مجرّد ورقة تفاوضية.
وبحسب مصادر مقربة من الحزب لـ"عربي بوست"، فإن الخطورة تكمن، من وجهة نظره، ليس في القرار بحد ذاته، بل في توقيته وسياقه الإقليمي، إذ بات الحزب يرى أن البيئة من حوله تتغير سريعًا وبصورة غير مواتية.
وأضافت المصادر أن الحزب كان، في مراحل سابقة، يستند إلى دعم مباشر من دمشق وطهران، أما اليوم فإن سوريا، بقيادة الرئيس أحمد الشرع، تتّخذ موقفًا متشدداً إزاء أي نشاط عسكري خارج مؤسسات الدولة. وأشارت المصادر إلى أن إدارة الشرع باشرت فعليًا بقطع العديد من خطوط الإمداد العسكرية واللوجستية بين لبنان وسوريا، في ظل تنسيق أمني سوري – عربي يُعتقد أنه يستهدف قدرات الحزب.
وتابعت أن سوريا ما بعد بشار الأسد لم تعد حليفًا مضمونًا، بل باتت تتصرّف وفقًا لمصالحها السيادية الجديدة وتوازناتها المستجدة مع الأميركيين ودول الخليج. وبهذا المعنى، فإن الامتداد الجغرافي الحيوي الذي شكّل أحد أبرز مصادر قوة الحزب – من لبنان عبر سوريا إلى العراق وإيران – أصبح مهدداً ويخضع لرقابة عسكرية مشددة.
واعتبر المصدر أن هذه التحولات الإقليمية لا تقل خطورة، في نظر الحزب، عن التهديد الإسرائيلي المستمر في الجنوب، لتشكّل بذلك بيئة ضغط مزدوجة على خياراته الدفاعية والسياسية.
مراجعة داخلية وتحضيرات للرد
في الكواليس، ووفق المصدر المقرب من الحزب، فإن "حزب الله" و"حركة أمل" بصدد إجراء مراجعة شاملة للخيارات السياسية المتاحة. وقد برز خلال الساعات الأخيرة توجه جدي داخل قيادة الثنائي الشيعي نحو خيار الانسحاب الكامل من الحكومة، بما يشمل استقالة الوزراء الشيعة وتعليق المشاركة في جلسات مجلس الوزراء.
ويترافق هذا السيناريو مع طرح أوسع داخل مجلس النواب لسحب الثقة من الحكومة وتجريدها من الغطاء الميثاقي الشيعي، ما قد يُفقدها شرعيتها الوطنية ويُدخلها في أزمة دستورية خانقة.
بالتوازي، يُناقش في أروقة القرار لدى الثنائي الشيعي تفعيل أدوات الضغط الشعبي المنظّم، من خلال تحريك الشارع في المناطق ذات الغالبية المؤيدة له، وإيصال رسالة واضحة بأنّ أي محاولة لفرض أجندات خارجية أو داخلية على حساب "سلاح المقاومة" لن تمر من دون رد.
وفي هذا السياق، بدأ التداول داخل دوائر مغلقة بفكرة تشكيل جبهة سياسية وشعبية واسعة النطاق، تضم حلفاء حاليين وسابقين، بهدف إسقاط الحكومة أو فرض تعديل عميق في موازين القوى داخلها، في إطار معركة طويلة النفس بدأت فعليًا بعد جلسة 5 آب، ولا يُتوقع أن تتوقف عند حدودها الدستورية.
فرصة نادرة أم مغامرة كبرى؟
قرار الحكومة اللبنانية بتكليف الجيش إعداد خطة لحصرية السلاح بيد الدولة ضمن مهلة زمنية محددة لم يكن خطوة إدارية فقط، بل عكس، بحسب مصادر حكومية لـ"عربي بوست"، تحوّلًا في توجه الدولة نحو فرض سيادتها العسكرية والأمنية على كامل الأراضي اللبنانية، مستفيدةً من لحظة إقليمية يُعتقد أنها مؤاتية لإعادة ترسيم المعادلات.
وبحسب المصادر، يرى رئيس الحكومة نواف سلام أن الوقت لم يعد يسمح بالمراوحة، وأن لبنان بحاجة إلى قرارات حاسمة تضعه على مسار جديد، خالٍ من السلاح غير الشرعي الذي قيد الدولة وأعاق مؤسساتها لعقود.
غير أن هذه الرؤية، رغم جاذبيتها لشريحة واسعة داخليًا وخارجيًا، تضع الدولة أمام اختبار صعب، إذ يُطلب منها التنفيذ من دون امتلاك أدوات القوة الكافية، وفي مواجهة حزب مسلّح ومترسّخ في البنية السياسية والأمنية والاجتماعية اللبنانية.
ويكمن الخطر في أن يتحوّل القرار إلى ورقة ضغط غير قابلة للتنفيذ، أو أن يضع المؤسسة العسكرية نفسها في مواجهة مباشرة مع الحزب. إذ ستجد قيادة الجيش نفسها، عاجلًا أو آجلًا، أمام تساؤلات حاسمة: هل ستنفّذ فعليًا خطة نزع السلاح؟ وكيف؟ ومن دون صدام؟ وهي أسئلة ستُلاحق الحكومة في كل مرحلة من مراحل التنفيذ.
ووفق المصادر ذاتها، أوضح رئيس الجمهورية العماد جوزيف عون، خلال مناقشات جلسة الثلاثاء، أن المهلة التي حدّدتها الإدارة الأميركية لتسليم السلاح من قبل الحزب وباقي الفصائل اللبنانية والفلسطينية "مهلة خيالية"، يصعب على أي قوة داخلية الالتزام بها، نظرًا لافتقار الجيش للقدرات اللوجستية والتقنية اللازمة لتنفيذ الخطة.
اندفاعة مسيحية ودعم سني
خلال الجلسة، برز الدور الهجومي لوزراء "القوات اللبنانية" و"حزب الكتائب"، الذين هدّدوا بالانسحاب من الحكومة في حال عدم إقرار بند حصرية السلاح وفق جدول زمني واضح. هذا التهديد وفّر غطاءً مسيحياً وازناً لرئيس الحكومة للمضي بالقرار، مدعومًا أيضًا من وزراء سنّة وافقوا على الخطة.
وترى القوى المسيحية المعارضة للحزب أن اللحظة مناسبة لإنهاء معادلة التعايش مع سلاح الحزب، الذي تتهمه بتعطيل الدولة منذ اغتيال رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري عام 2005. وتعتبر أن المعركة اليوم هي معركة سيادة، تشكل فرصة تاريخية لإعادة الاعتبار لاتفاق الطائف والدستور.
لكن هذه الاندفاعة لا تخلو من المخاطر، فالسلاح ما زال في مكانه، والحزب لم يُظهر حتى الآن أي استعداد فعلي للتراجع أو التسوية. وبالتالي، يبقى الرهان على الحسم الحكومي رهانًا محفوفًا بالمخاطر، ما لم يُرفق بتسوية إقليمية أو ضغط دولي يفرض على الحزب تقديم تنازلات.
هندسة المرحلة الانتقالية: بصمات سعودية وأميركية
يتفق العديد من الدبلوماسيين على أن ما يشهده لبنان اليوم يحمل بصمات واضحة من الإدارة الأميركية والمملكة العربية السعودية، اللتين تنسّقان خطواتهما بتدرج وهدوء، مستخدمتين أدوات ضغط تبدأ من ربط المساعدات الاقتصادية بالإصلاحات، ولا تنتهي عند التلويح بالعقوبات أو العزلة الدبلوماسية.
وبحسب مصادر دبلوماسية عربية لـ"عربي بوست"، فإن الموفد الأميركي توماس باراك، الذي غادر بيروت فيما يشبه إعلان فشل مهمته، ترك خلفه ورقة نهائية تناقش اليوم في جلسات الحكومة المتلاحقة. وهي الورقة نفسها التي وصفها "حزب الله" بأنها "إعلان استسلام" للسيادة اللبنانية، تتماهى مع الرؤية الإسرائيلية.
في المقابل، شددت الرياض عبر موفدها الأمير يزيد بن فرحان على موقفها الحازم: "لا مساعدات من دون فرض سيادة الدولة". وتُترجم هذه المعادلة تدريجيًا عبر دعم قرار الحكومة وتكثيف الضغوط على حلفاء الحزب لإعادة التموضع. وبحسب المعلومات، أصبحت السعودية اليوم اللاعب الإقليمي الأول في الملف اللبناني، بعد تراجع الدورين الفرنسي والمصري.
ويؤكد المصدر أن الرياض وواشنطن تعملان على تعبئة موقف عربي ودولي داعم للحكومة اللبنانية في معركتها لفرض سيادة الدولة، وتوفير مظلة سياسية وأمنية للمضي في تنفيذ القرار.
سيناريوهات المرحلة المقبلة: بين التصعيد والاحتواء
بالنسبة للسيناريوهات المحتملة، يشير نائب مدير مركز كارنيغي للدراسات الدكتور مهند الحاج علي إلى أن المسارات القادمة مفتوحة على احتمالات متعددة. فالجلسات المقبلة ستشهد مناقشة ورقة توماس باراك، وسط تصعيد مرتقب من قبل الثنائي الشيعي، خصوصاً إذا تم الإصرار على إقرار الورقة بصيغتها الأصلية.
وفي المقابل، قد يلجأ "حزب الله" إلى الانسحاب السياسي أو التلويح به، دون اللجوء إلى الشارع أو المواجهة المسلحة، انسجامًا مع رسائل إيرانية واضحة بعدم دفع لبنان نحو اهتزاز أمني، في ظل تعثر مفاوضات طهران النووية وتصاعد الضغوط عليها في العراق واليمن.