في غزة، لا يُستهدف الجسد الفلسطيني وحده، بل يُستهدف كل ما حوله: الأرض، والهواء، والبحر. فالإبادة التي يشنها الاحتلال الإسرائيلي ليست مجرد حملة قتل مباشر وسريع، بل حرب شاملة تطال كل ما يشكّل معالم حياة، حيث حوّل الاحتلال أرض الفلسطيني التي كانت تحتضنه وتطعمه وتؤويه إلى أداة للقتل المؤجّل.
فالتقارير الدولية تحذر من دمار بيئي غير مسبوق قد تنعكس آثاره على صحة السكان لأجيال طويلة. فإسرائيل، عن عمد وبشكل ممنهج، تدمّر البنية البيئية والاقتصادية في غزة. الهواء مشبَع برذاذ القصف والغازات السامة، المياه إما مالحة أو ملوثة بمياه الصرف، والتربة غارقة في المتفجرات والمواد السامة التي تتسرّب إلى باطن الأرض والبحر معاً. ومع انهيار أنظمة الصرف الصحي والنظافة، تنتشر الأوبئة، ويُحاصَر الفلسطينيون بمزيج قاتل من أحدث وأقوى الصواريخ والأسلحة الفتاكة، بجانب السموم والأمراض والحرمان.
ويبدو أنه حتى لو توقفت الحرب، فإن الموت لن يتوقف. إعادة الحياة إلى غزة ستغدو معركة وجود، لا مجرد مهمة إعمار.
فما حجم هذا الدمار؟ وكيف يُضاعف تخريب البيئة منسوب الإبادة، ليس فقط بوصفه كارثة راهنة، بل كخطر ممتد يهدد مستقبل الفلسطيني وجسده وأرضه؟
كيف تقتل إسرائيل الأرض
منذ أن شنّ الاحتلال الإسرائيلي حرب الإبادة على قطاع غزة في أكتوبر/تشرين الأول 2023، أزهق أرواح أكثر من 60 ألف فلسطيني، وخلّف ما يزيد على 160 ألف جريح، في ظل حصار خانق ومجاعة متعمدة تُفرض على السكان المدنيين.
لم تكن هذه المجاعة نتيجة جانبية للحرب، بل أداة رئيسية في استراتيجية تقوم على التدمير الشامل لمقومات الحياة، إذ تبنّى الاحتلال نهجاً ممنهجاً تجاوز القصف والتجويع إلى تفكيك البيئة الحية لقطاع غزة، واستهداف البنية الزراعية والاقتصادية التي تُشكّل عماد العيش اليومي للفلسطينيين. وفي حرب اتخذت طابع الإبادة الشاملة، أصبح تدمير الأرض وتجفيف مصادر الغذاء جزءاً لا يتجزأ من حملة تسعى إلى استئصال شروط البقاء وقطع سُبل الحياة عن شعب محاصر.
فقد أظهرت البيانات الميدانية والأممية أن الاحتلال عمد إلى تدمير واسع للأراضي الزراعية، التي كانت تمثّل ما يقارب 41% من مساحة القطاع (نحو 151 كيلومتراً مربعاً)، وتؤمّن ما بين 20 إلى 30% من حاجات الغذاء لسكانه، بحسب منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (FAO 2024). وقد كشف تقييم جغرافي-مكاني مشترك بين الفاو ومركز الأمم المتحدة للأقمار الصناعية أن أكثر من 80% من تلك الأراضي تعرّضت لأضرار مباشرة حتى أبريل/نيسان 2025، وأن 77.8% منها باتت غير صالحة للزراعة، لتقتصر المساحات المتبقية على 4.6% فقط.
باستخدام صور الأقمار الصناعية عالية الدقة، ومقارنتها ببيانات ما قبل الحرب، وجد التقييم أيضاً أن 71.2% من الصوبات الزراعية (الدفيئات) في قطاع غزة قد تضررت. وشهدت رفح أعلى زيادة في ذلك الضرر، بينما لحقت أضرار بجميع الصوبات الزراعية في محافظة غزة. كما تضرر 82.8% من الآبار الزراعية في جميع أنحاء قطاع غزة. وبلغت هذه النسبة حوالي 67.7% في ديسمبر/كانون الأول 2024.

وقبل أن تبدأ الإبادة في غزة، كانت الزراعة تمثّل نحو 10% من اقتصاد غزة، وتوفّر مصدر رزق مباشر أو غير مباشر لأكثر من 560 ألف شخص، وتشكّل ركيزةً أساسية في تأمين الغذاء المحلي. أما اليوم، وقد سُوّيت الحقول بالركام، وامتلأت بالمياه الملوثة والمتفجرات والمواد الكيميائية، ما ساهم في انهيار النظام الغذائي بأكمله. وبحسب منظمة الفاو، فإن ما نشهده لا يقتصر على فقدان البنية التحتية، بل يمثل "انهياراً كاملاً لشريان الحياة في غزة".
وقدّرت المنظمة في وقت سابق من هذا العام أن الخسائر المباشرة في القطاع الزراعي منذ بدء الحرب تجاوزت ملياري دولار، في حين تحتاج عملية التعافي وإعادة الإعمار إلى ما لا يقل عن 4.2 مليار دولار، وهو رقم يعكس عمق الدمار واستهداف الاحتلال لمصدر القوت والمقاومة معاً.
ويحذّر خبراء الزراعة والبيئة من أن التلوث الناتج عن القصف لا يقتصر على الأضرار السطحية، بل يمتد عميقاً في التربة، بما يهدد مستقبل الإنتاج الزراعي لعقود مقبلة. إذ تحتوي مخلفات المتفجرات على معادن ثقيلة خطرة مثل الرصاص، والزئبق، والنحاس، والكروم، وهي عناصر سامة تترسب في التربة، وتتراكم تدريجياً إلى أن تُفقِدها خصوبتها، فتسمّم النباتات، وتعيق قدرة الجذور على امتصاص العناصر الغذائية، وتحوّل الأرض إلى بيئة معادية للزراعة.
وقد أوضحت دراسات ميدانية أُجريت بعد العدوان الإسرائيلي في عام 2014 أن مساحات واسعة من الأراضي التي طالها القصف أصبحت غير صالحة للزراعة، وتطلّبت برامج إعادة تأهيل مكلفة وطويلة الأمد. أما اليوم، فيخشى مهندسون زراعيون أن تكون تداعيات الحرب الجارية أوسع وأعمق بما لا يُقاس، ما قد يجعل التربة الزراعية في غزة عقيمة لعشرات السنين. أضف إلى ذلك أن أكثر من نصف الآبار الزراعية تضررت أو دُمّرت بفعل التفجيرات وسحق البنية التحتية، ما يعني فقدان الموارد المائية اللازمة للري، حتى لو أُريد إحياء الزراعة.
الأنقاض وتلوّث الهواء
بالإضافة إلى ذلك، تغطي جبال من الركام كل زاوية في قطاع غزة، نتيجة الحرب الإسرائيلية التي دمّرت آلاف المباني وحوّلت المدينة إلى فضاء خانق من الخرسانة والغبار. ففي يونيو/حزيران 2024، قدّرت الأمم المتحدة أن حجم الأنقاض المتراكمة في القطاع بلغ نحو 39 مليون طن – أي ما يعادل أكثر من 107 كغم من الحطام لكل متر مربع واحد من مساحة غزة، وهو رقم يفوق بأكثر من خمسة أضعاف حجم الأنقاض التي خلّفتها معركة الموصل عام 2017، رغم ضراوتها.

لكن هذا التقييم يعود إلى عام مضى. ومنذ ذلك الحين، تستمر الإبادة، وتضاعفت الكارثة. إلا أن حجم الدمار الحقيقي بات اليوم عسير القياس، بسبب الحصار الشامل وغياب أي آليات مستقلة للرصد أو الوصول إلى البيانات.
في هذا المشهد الخانق، لا يقتل الاحتلال بالقصف وفرض التجويع فحسب، بل يمرّر القتل عبر الهواء الذي يتنفسه الناجون. إذ ينتشر في سماء غزة غبار كثيف سام ناتج عن سحق المباني، محمّل بجسيمات خرسانية، ومعادن ثقيلة، ومادة الأسبستوس السامة المتبقية من الأبنية القديمة. وقد أدى استنشاق هذا الغبار على مدار أشهر إلى مشكلات تنفسيّة حادة، خصوصاً في ظل انهيار كامل لشبكات مراقبة جودة الهواء.
ويحذّر البروفيسور ليزلي جوزيف، أستاذ الهندسة البيئية في جامعتي ساوث كارولاينا وبنديكت، في مقال نُشر في مجلة New Lines الأميركية، من المخاطر الصحية الجسيمة الناجمة عن التعرّض المطوّل لمادة الأسبستوس، التي ترتبط بأمراض خطيرة مثل سرطانات الرئة والحنجرة والمبيض، إضافة إلى التليف الرئوي المزمن.
ويشير جوزيف إلى أن جزيئات الأسبستوس متناهية الصغر، ما يجعلها قادرة على البقاء عالقة في الهواء لفترات طويلة، والانتقال إلى مسافات بعيدة، ما يفاقم من خطر الاستنشاق المستمر، خاصة في البيئات المكتظة والمحاصَرة مثل قطاع غزة.
وما يعمّق من الكارثة البيئية والصحية في غزة أن الحصار الشامل، ومنع الاحتلال لوصول الوقود إلى غزة، اضطر السكان إلى حرق النفايات الصلبة والبلاستيك لأغراض التدفئة والطهي. وقد أدى ذلك إلى انبعاث غازات ومركّبات شديدة السُمية، منها: فوسجين، وأول أكسيد الكربون، والديوكسينات، والمركّبات العضوية المتطايرة (VOCs)، والهيدروكربونات العطرية متعددة الحلقات (PAHs) — وهي مواد مصنّفة كمسرطنات عالية الخطورة، تدمّر الجهاز التنفسي والقلب، وتحوّل الهواء إلى أداة قتل مؤجَّل.
وقد أطلقت هذه الحرائق، إلى جانب القصف المستمر، سحباً كثيفة من الدخان السام، ما تسبّب في انخفاض حاد في جودة الهواء. هذا الخليط القاتل من حرق القمامة، والوقود الرديء، وحرائق القصف، غطّى أجواء غزة بدخان أسود كثيف ممزوج بروائح البارود والمواد الكيميائية المتفجرة. وأمام غياب أنظمة الرصد، لا يجد الناس وسيلة إلا أجسادهم التي ترصد الاختناق، إذ يشكون من أعراض تسمم تنفسي حاد: صداع مزمن، تهيّج العينين والحلق، حالات إغماء، وصعوبات متزايدة في التنفّس.
بالإضافة إلى ذلك، يشير البروفيسور ليزلي جوزيف إلى أن الأثر البيئي طويل الأمد للحرب يتجاوز التلوّث المحلي، ليمتد إلى الأثر المناخي العالمي. فبحسب تقديراته، فإن مجموع الانبعاثات الناتجة عن التحضيرات العسكرية، والعمليات القتالية، وما سيتبعها من إعادة الإعمار، قد يصل إلى 32.3 مليون طن من غازات الاحتباس الحراري — وهو رقم يفوق الانبعاثات السنوية لأكثر من مئة دولة.
تراكم النفايات وتلوّث المياه في غزة
مع اشتداد الحصار ومنع دخول الوقود، تعرّضت خدمات النظافة العامة للشلل التام، ما أدى إلى تراكم أكثر من 1,200 طن من النفايات يومياً في شوارع غزة ومحيط المخيمات خلال الأشهر الأولى من الحرب. ومع ضيق مساحة المناطق الصالحة للسكن — التي لا تتجاوز الآن 51 كيلومتراً مربعاً (أي نحو 14% من مساحة القطاع) — باتت مكبّات النفايات تتداخل مع مناطق سكن الغزيين.
وبحسب تحليل أجرته وكالة بلومبيرغ لصور أقمار صناعية عالية الدقة التُقطت في يونيو/حزيران 2025، فإن أكثر من 1 كيلومتر مربع من أراضي القطاع بات مغطى بمكبّات نفايات جديدة، 60% منها تقع على مقربة مباشرة من خيام المدنيين، و15% قرب منشآت المياه والصرف الصحي. ونظراً لمحدودية التغطية الفضائية، يُرجّح أن تكون هذه التقديرات أقل من الواقع.
المياه: من التسمم إلى العطش
في موازاة ذلك، أدى انهيار البنية التحتية نتيجة القصف المستمر للاحتلال إلى تلوّث واسع للمصادر القليلة للمياه المتبقية. فبحسب التقارير، تدفقت مياه الصرف غير المعالجة في الشوارع والحقول، واختلطت بفلزات سامة مثل الرصاص، والزئبق، والكادميوم، المتسرّبة من الذخائر غير المنفجرة وبقايا الألواح الشمسية التي كانت تُستخدم سابقاً لمواجهة الانقطاع المزمن للكهرباء.
وتشير التقديرات إلى أن 97% من مياه غزة باتت غير صالحة للاستخدام البشري، في ظل توقف جميع محطات معالجة مياه الصرف تقريباً، وتسرب المياه الآسنة إلى الخزان الجوفي الثمين. لم يعد أمام السكان سوى استخدام مياه البحر المالحة والملوّثة للاستحمام وغسل الملابس، بل وحتى للشرب تحت وطأة العطش.
وبحسب الخبراء، فقد تلوّثت المياه الجوفية في غزة بمواد متفجرة صناعية مثل TNT وRDX. يُعرف TNT بتسببه بأضرار في الكبد واضطرابات دموية، في حين يهاجم RDX الجهاز العصبي المركزي. وهذه المركّبات الكيميائية تبقى في المياه لسنوات طويلة، ولا يمكن إزالتها إلا عبر تقنيات متقدّمة لمعالجة المياه — وهي تقنيات مستحيلة في ظل الحصار وانهيار القطاع الصحي.
انهيار الصرف الصحي: انتشار الأمراض
مع فرض الحصار الكامل واستمرار القصف العنيف وقطع الاحتلال كل إمدادات الوقود والمياه والكهرباء، تعطّلت خمس محطات رئيسية لمعالجة مياه الصرف، وتوقفت الغالبية العظمى من محطات الضخ. وأصبحت المنشآت الصحية شبه معدومة؛ فبحسب اليونيسف، هناك مرحاض واحد لكل 340 شخصاً، ودُشّ واحد لكل 1,290 شخصاً.
وقد أدّى هذا الانهيار إلى تسرّب كميات كبيرة من مياه الصرف غير المعالجة إلى البحر، وانتشار الأمراض المنقولة بالمياه بشكل غير مسبوق. إذ أفادت وكالة الأونروا أن عدد الإصابات بالتهاب الكبد الوبائي A ارتفع من 85 حالة قبل الحرب إلى 40,000 حالة في يونيو/حزيران 2024، ثم إلى أكثر من 100,000 حالة بحلول أكتوبر/تشرين الأول 2024.

كما وثّقت منظمة الصحة العالمية (WHO) انتشارًا واسعًا لأمراض مرتبطة بالمياه وسوء النظافة، من بينها:
- أكثر من 500,000 حالة إسهال
- 103,000 حالة قمل وجرب
- وعودة مقلقة لشلل الأطفال الذي كان قد اختفى سابقًا من القطاع.
- الطفح الجلدي 12,635 حالة.
- بالإضافة إلى 54,866 حالة عدوى في الجهاز التنفسي العلوي خلال الأسابيع الأولى فقط.
وبالتوازي مع هذا الانهيار البيئي، انهار النظام الصحي بدوره تحت وطأة القصف والحصار. فقد استُهدفت المستشفيات، وتوقفت إمدادات المياه ومستلزمات التعقيم، ما جعل مكافحة العدوى شبه مستحيلة. ووفقاً لمنظمة الصحة العالمية، تفشّت العدوى في جروح المصابين وعمليات الجراحة والولادة، بينما يواجه المرضى كارثة صحية مركّبة، تجمع بين أجساد أضعفها الجوع، وبيئة ملوّثة تُغذّي المرض والموت معاً.
القتل المؤجّل في غزة
حذّرت المهندسة عبير البطمة، منسّقة شبكة المنظمات البيئية الفلسطينية (بينغون)، من أن "الاحتلال الإسرائيلي ألحق الضرر الكامل بكل عناصر الحياة وكل المكونات البيئية في غزة – لقد دمّروا الزراعة والحياة البرية بشكل كامل. ما يحدث هو بلا شك إبادة بيئية، فهو يدمّر البيئة في غزة على المدى البعيد وليس فقط القصير". وأشارت البطمة، إلى جانب عدد من النشطاء البيئيين، إلى أن إسرائيل استخدمت البيئة كسلاح حرب، عبر تجريف الأراضي، وحرقها، وحرمان السكان من مقومات عيشهم الطبيعية.
وقد ذهبت مجموعة البحث المستقلة Forensic Architecture إلى توصيف ما يحدث بأنه "تدمير الأراضي الزراعية والبنية التحتية في غزة هو فعل متعمّد من الإبادة البيئية".
والأخطر أن آثار هذه الكارثة البيئية لا تنتهي بانتهاء الحرب. فبحسب تقديرات ميدانية، أُلقي على غزة منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023 أكثر من 85 ألف طن من المتفجرات، خلّفت كميات هائلة من المواد الكيميائية السامة المزروعة في التربة والمياه، والتي سيظل أثرها لعقود مقبلة. ومن أبرز هذه الملوّثات المعادن الثقيلة كالزئبق والرصاص، كما ذكرنا، التي لا تقتصر آثارها على تدهور الإنتاج الزراعي، بل تتسرّب تدريجياً إلى المياه الجوفية، ومنها إلى السلسلة الغذائية.
وحذّر باحثون من جامعة كاليفورنيا من أن هذا التراكم المزمن للسموم يهدّد الأجيال القادمة في غزة بأمراض خطيرة، تشمل السرطان، وأمراض الكلى، واضطرابات الجهاز العصبي. وقد أشارت تقارير إلى وجود عناصر مشعّة ومسرطِنة مثل اليورانيوم المنضب والفوسفات في تربة غزة، ترسّبت من بقايا المتفجرات، وتختلط اليوم بركام المباني الذي قد يُعاد استخدامه في عمليات البناء مستقبلاً — ما ينذر بكارثة صحية وموت يلاحق الفلسطينيين مستقبلاً.