ضغوط صندوق النقد تُضيّق الخناق على القاهرة.. ومصادر: لا مفر من الإصلاح وبيع الأصول ورقة الإنقاذ الأخيرة

عربي بوست
تم النشر: 2025/07/27 الساعة 11:19 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2025/07/27 الساعة 11:21 بتوقيت غرينتش
مديرة صندوق النقد الدولي ورئيس الوزراء المصري في القاهرة/ رويترز

أثار تأجيل صندوق النقد الدولي للمراجعة الخامسة من برنامج التمويل المخصص لمصر، والبالغة قيمته 8 مليارات دولار، موجة من التساؤلات حول مصير الاتفاق في ظل تعثر تنفيذ الالتزامات المرتبطة بالمرحلة الرابعة من البرنامج.

ويأتي هذا التطور في وقت تواصل فيه الحكومة المصرية انتهاج سياسات تُبقي على دورها القوي في الاقتصاد، عبر منافسة القطاع الخاص، وتأجيل خطوات رفع الدعم، مع التوسع في الاقتراض الخارجي، وسط ارتباك يطغى على برامج الحماية الاجتماعية الموجهة للفئات المتضررة من إجراءات الإصلاح الاقتصادي.

فجوة ثقة بين القاهرة والصندوق

كشف مصدر مطّلع قريب من الحكومة المصرية أن قرار تأجيل المراجعة الخامسة من قبل صندوق النقد الدولي وضمّها إلى المراجعة السادسة يعود إلى وجود فجوات كبيرة في الالتزام بالاتفاق المبرم بين الجانبين، خصوصاً ما يتعلق بتطبيق الشروط المرتبطة بالقرض الذي حصلت عليه مصر العام الماضي.

وأوضح المصدر، في تصريحات لـ"عربي بوست"، أن جوهر الخلاف يتمثل في استمرار أشكال متعددة من الهيمنة الحكومية على النشاط الاقتصادي، رغم مطالبات الصندوق المتكررة، منذ ما يقرب من عقد، بإفساح المجال أمام القطاع الخاص. إلا أن الحكومة، بحسب المصدر، لا تُبدي استجابة فعلية لهذه الدعوات، نظراً لافتقارها إلى الثقة بالقطاع الخاص، وسعيها في المقابل إلى تحقيق أكبر قدر من العوائد عبر بسط نفوذها على الأنشطة الاقتصادية المختلفة.

وأشار المصدر إلى أن صندوق النقد عبّر مؤخراً عن اعتراضات واضحة على ما اعتبره "محاولات التفاف" من الحكومة المصرية، من خلال تأسيس كيانات وهيئات تحمل تسميات مدنية، لكنها تتبع فعلياً للجهات الحكومية بصورة غير مباشرة. هذا النهج، وفق المصدر، قاد إلى مزيد من التوسع في هيمنة الدولة على قطاعات يُفترض أن تكون محفزة لنمو القطاع الخاص.

ولعل إسناد مهام التطوير العقاري في منطقة رأس الحكمة إلى هيئة المجتمعات العمرانية – التابعة لوزارة الإسكان – شكّل إحدى نقاط الخلاف، حيث كان الصندوق يأمل أن تُخصص هذه المنطقة بالكامل للمستثمرين.

وأضاف أن تراجع وتيرة طرح الشركات الحكومية في البورصة مثّل كذلك موضع اعتراض، إلى جانب إخفاق الحكومة في تنفيذ خطط جذب "المستثمر الاستراتيجي" كما كان متوقعاً، في ظل مخاوف متزايدة من تقلبات سعر الصرف، والتعقيدات البيروقراطية التي تعرقل المشاريع الاستثمارية الكبرى.

في السياق ذاته، حذّر صندوق النقد الدولي من أن "سيطرة الدولة على الاقتصاد تعرقل النمو وتمنع خلق فرص عمل حقيقية للقطاع الخاص"، في إشارة إلى ما وصفه بـ"موت السوق واختناق الاستثمار"، فضلاً عن تضخّم الجهاز الإداري على حساب المواطن.

ولفت تقرير صادر عن الصندوق إلى أن مصر أصبحت "رهينة اقتصاد تملكه الدولة وتديره القوات المسلحة"، وذلك في وقت تخطط فيه الحكومة لطرح جزء من أسهم شركتي "وطنية للبترول" و"صافي للمياه" التابعتين للجيش في البورصة، تمهيداً لبيع حصص أقلية.

وأكد التقرير أن هذه الشركات العسكرية، التي لا تدفع ضرائب أو رسوم خدمات، واصلت توسيع أنشطتها خلال العامين الماضيين. وإلى جانب حضورها القوي في قطاعات الصناعة، والخدمات، والتعدين، والعقارات، نفذت عمليات استحواذ لافتة في مجالات الضيافة والطاقة والمرافق والصلب خلال عام 2024.

كما وجّه التقرير انتقادات حادة إلى ما وصفه بـ"التباطؤ" في تنفيذ برنامج التخارج من الكيانات الاقتصادية المملوكة للدولة، محذراً من أن هذا التأخير حرم البلاد من تدفقات نقدية أجنبية كانت ضرورية لدعم ميزان المدفوعات.

وقدّر التقرير تراجع عائدات الخصخصة من نحو 3 مليارات دولار بعد المراجعة الثالثة، إلى 600 مليون دولار فقط بنهاية المراجعة الرابعة للسنة المالية 2024-2025.

الصندوق يشكك في جدوى النموذج الاقتصادي المصري

أوضح نائب برلماني مقرّب من الحكومة، ومطّلع على الملف الاقتصادي، أن تحقيق الأرقام المستهدفة من برنامج الخصخصة، والتي تراهن على جذب استثمارات بنحو 3 مليارات دولار، يبدو أمراً غير واقعي في ظل غياب بيئة استثمارية حقيقية جاذبة في معظم القطاعات. 

واعتبر في حديثه مع "عربي بوست" أن أي رقم من هذا القبيل قد يتحقق فقط من خلال صفقة كبرى شبيهة بمشروع رأس الحكمة، وليس عبر طرح منظم ومتنوع لشركات الدولة كما يأمل صندوق النقد.

وشدّد النائب على أن الحكومة المصرية بالغت في تدشين مشروعات قومية كبرى لم تُحقق العائد المنتظر منها حتى الآن، الأمر الذي انعكس سلباً على ارتفاع الدين الخارجي. كما أن الخطاب الرسمي حول وجود "عوائد اجتماعية وتنموية" لهذه المشروعات لم يعد مقنعاً أمام صندوق النقد، خاصة في ظل ارتفاع معدلات الفقر، واستمرار موجات الغلاء التي أثّرت على معظم فئات المجتمع.

وأشار إلى أن عجز الموازنة العامة يشكّل مصدر قلق إضافي، إذ يُخصص نحو 66% من الموازنة لسداد أعباء الدين فقط، وهي نسبة خطيرة تنذر بتآكل قدرة الدولة على الإنفاق التنموي والاجتماعي. 

واعتبر أن محاولة تعويض هذا الخلل عبر توسيع القاعدة الضريبية قد تكون ذات أثر عكسي، إذ تُثقل كاهل المواطنين وتكشف في الوقت ذاته عن قصور في تنمية الموارد الذاتية للدولة.

وأشار النائب إلى أن من بين أسباب تأجيل المراجعة، ما اعتبره الصندوق "قصوراً في كفاءة شبكة الحماية الاجتماعية"، فبرنامج "تكافل وكرامة" لم يعد يلبّي احتياجات غالبية الفقراء، ويستفيد منه عدد محدود من المستحقين، ما دفع إلى مطالبات بإجراء تعديلات جذرية على سياسات الرعاية الاجتماعية.

وفي السياق ذاته، تسود تساؤلات واسعة داخل أروقة الصندوق حول فعالية إدارة منظومة الدعم، رغم اتخاذ الحكومة خطوات لتقليص دعم السلع والخدمات الأساسية. ويطرح الصندوق علامات استفهام بشأن مصير الأموال التي تم توفيرها من خفض دعم الكهرباء والوقود، وآلية إعادة توجيهها للفئات المحتاجة عبر الموازنة العامة.

وختم المصدر بالإشارة إلى أن الحكومة المصرية ستكون مضطرة خلال الفترة المقبلة لاتخاذ إجراءات إضافية لخفض الدعم، في ظل تفاقم عجز الموازنة، الذي بلغ نحو 1.2 تريليون جنيه في العام المالي 2024/2025، ومن المتوقع أن يصل إلى 1.5 تريليون جنيه في موازنة 2025/2026.

مخاوف سياسية وأمنية

في أحدث توقعاته، رجّح صندوق النقد الدولي أن يسجل الدين الخارجي لمصر 46.6% من الناتج المحلي الإجمالي، ليصل إلى 180.6 مليار دولار خلال العام المالي 2025-2026، قبل أن يرتفع اسميًا إلى 186.6 مليار دولار في العام التالي (2026-2027)، رغم تراجعه كنسبة من الناتج إلى 43.3%.

لكن التقرير حذّر من مسار تصاعدي خطير، مشيراً إلى أن الدين الخارجي قد يتجاوز 202 مليار دولار بحلول عام 2032، وهو ما وصفه بـ"مؤشر خطر" يهدد الاستدامة المالية للبلاد على المدى الطويل.

وأعاد الصندوق التأكيد على أن هيكل الاقتصاد المصري لا يزال "يُدار من أعلى"، في إشارة إلى استمرار هيمنة مؤسسات سيادية لا تخضع للمساءلة أو الرقابة المالية، من بينها الهيئة العامة للبترول (EGPC) وهيئة المجتمعات العمرانية (NUCA)، اللتان تُداران خارج نطاق الموازنة العامة للدولة، وتفتقران إلى الشفافية، ما يجعلهما أقرب إلى "دولة داخل الدولة".

وركّز التقرير على الهيئة العامة للبترول باعتبارها مصدراً رئيسياً للمخاطر المالية، مشيراً إلى أن الضمانات الحكومية الممنوحة لها تمثل نحو 18% من الناتج المحلي الإجمالي، وهو رقم ضخم. كما لفت إلى أن البنوك المحلية باتت تطلب ضمانات حكومية على كل القروض المقدمة للهيئة، نتيجة غياب ضمانة وزارة المالية بشكل مباشر، وهو ما يزيد من هشاشة القطاع المالي.

من جانبه، أفاد محلل اقتصادي مقرّب من الحكومة المصرية بأن هناك اعتبارات سياسية وأمنية تحول دون اتخاذ قرارات جذرية في الوقت الراهن، خصوصاً ما يتعلق برفع دعم الوقود بشكل نهائي. وفي المقابل، رجّح إمكانية استمرار الحكومة في خفض دعم الكهرباء، خاصة بعد نجاحها في تفادي انقطاعات التيار خلال ذروة الصيف هذا العام.

واعتبر المحلل أن التخارج الكامل من الاقتصاد ما يزال مستبعداً في ظل الظروف الإقليمية المتوترة، ورأى أن هذا المسار قد يتم على مراحل طويلة، خشية انعكاساته الاجتماعية والسياسية.

ترقب حذر لإجراءات الخفض والدعم

أفاد مصدر مطّلع بأن الحكومة المصرية قد تلجأ إلى رفع أسعار الكهرباء خلال شهر سبتمبر المقبل، وربما يشمل ذلك أسعار الوقود أيضاً. وفي حال تنفيذ هذه الخطوة، يرجّح أن يُجري صندوق النقد الدولي مراجعته الخامسة في مطلع أكتوبر.

أما إذا فضّلت الحكومة تأجيل الإجراءات لحين تمرير انتخابات مجلسي الشيوخ والنواب، المقررة في شهري أغسطس ونوفمبر على التوالي، فقد تتأخر المراجعة إلى فبراير 2026، ما قد ينعكس سلباً على استقرار الجنيه المصري ويزيد من مخاطر شح العملة الصعبة في البلاد.

وأشار المصدر إلى أن الحكومة تعوّل على انقضاء الظروف التي أعاقت تنفيذ التزامات برنامج الصندوق خلال النصف الأول من العام الجاري، وفي مقدمتها الاضطرابات الجيوسياسية الإقليمية، وتراجع إيرادات قناة السويس.

 بالإضافة إلى تداعيات السياسات التجارية للرئيس الأميركي دونالد ترامب، والتي شملت فرض رسوم جمركية على عدد من الشركاء التجاريين، قبل أن يتراجع عنها لاحقاً، لكن آثارها بقيت حاضرة على مستوى الاستقرار الاقتصادي العالمي، ما أثّر بدوره على تدفق الاستثمارات الأجنبية.

وكشف المصدر عن نية الحكومة تسريع برنامج الطروحات الحكومية، مستهدفة قطاعات متنوعة تشمل الصناعة والدواء والغذاء والعقار والسياحة، على أن يتم اختيار الشركات بناءً على أدائها المالي.

 كما أشار إلى خطة للتخارج من 11 شركة مملوكة للدولة، من بينها بنكان وأربعة كيانات تابعة للمؤسسة العسكرية، من خلال طرحها في البورصة المصرية خلال العام الجاري.

في المقابل، عبّر نائب وزير المالية أحمد كجوك عن تفاؤله بشأن المراجعات المقبلة ضمن اتفاق صندوق النقد، مشيراً إلى أن برنامج الإصلاح الاقتصادي "يمضي بخطى جيدة"، وأن الأرقام المرتقبة ستعزز هذا الاتجاه.

وخلال كلمته في ندوة نظّمها مجلس الأعمال الكندي المصري بالقاهرة، أوضح كجوك أن الحكومة تخطط لإصدار ديون خارجية ميسّرة وطويلة الأجل بقيمة 4 مليارات دولار خلال السنة المالية الحالية.

كما أشار إلى أن النتائج الأولية لموازنة العام المالي المنتهي في يونيو 2025 تظهر تحقيق فائض أولي يفوق 3.5%، إلى جانب نمو في الإيرادات الضريبية بنسبة 35% مقارنة بالعام السابق.

وكان صندوق النقد الدولي قد أعلن في وقت سابق من الشهر الجاري عن قراره دمج المراجعتين الخامسة والسادسة في برنامج دعم مصر، بهدف منح الحكومة مزيداً من الوقت لاستكمال أهداف الإصلاح. ومن المتوقع أن تتيح الموافقة على نتائج المراجعة وصرف الدفعة الجديدة – المقدرة بنحو 2.5 مليار دولار – تغطية جزء من الفجوة التمويلية، التي يُتوقع أن تتراجع بنسبة 49.12% خلال العام المالي 2025-2026 مقارنة بالسنة الماضية.

تحميل المزيد