منذ شهور تعاملت معظم وسائل الإعلام الغربية مع المأساة والمجاعة في غزة بصمت بارد، متجاهلة جرائم الإبادة الجماعية التي ارتكبتها إسرائيل، في تناقض صارخ مع خطابها المُعلن حول حماية الحقوق والحريات والدفاع عن المستضعفين.
لكن شيئاً ما بدأ يتغير في الفترة الأخيرة، فبدأت مؤسسات صحفية كبرى، بما فيها تلك المحسوبة على التيار المحافظ، في مراجعة خطابها حيال ما يجري في القطاع، على وقع مشاهد الجوع والانهيار الإنساني الواسع الذي لم يعد بالإمكان إنكاره أو تأطيره ضمن سرديات أمنية وسياسية إسرائيلية.
وقد ساهمت الانتقادات العلنية من الأمم المتحدة وعشرات المنظمات الإنسانية، إلى جانب تصريحات صريحة من حكومات غربية، في زعزعة جدار الصمت الإعلامي. ففي بيان مشترك صدر يوم الاثنين الماضي، وجّه الاتحاد الأوروبي و28 دولة غربية، من بينها بريطانيا وفرنسا، دعوة صريحة لإسرائيل بوقف الحرب فوراً، مستنكرين ما وصفوه بـ "التدفق غير المنتظم للمساعدات". واعتبر البيان أن مقتل أكثر من 800 مدني خلال محاولتهم الوصول إلى الغذاء أمرٌ مروّع لا يمكن تبريره.
هذا التحول – وإن أتى متأخراً – يعكس على ما يبدو حدود القدرة على إخفاء الحقيقة، حين تبلغ المأساة ذروتها أمام عدسات الكاميرا وشهادات المنظمات الأممية.
مجاعة في غزة.. دون إدانة لإسرائيل
نشرت صحيفة The Telegraph البريطانية، ذات التوجه اليميني، تقريراً بعنوان: "جسدها يضعف يوماً بعد يوم.. أطفال في غزة يتضورون جوعاً حتى الموت". يعرض التقرير لقطات من داخل أحد المستشفيات القليلة المتبقية في قطاع غزة، توثّق حالات لأطفال يعانون من سوء تغذية حاد يهدد حياتهم، مشيراً إلى أن بعضهم "يتضور جوعاً حتى الموت". يركّز التقرير بصرياً وعاطفياً على الأجساد الصغيرة التي تنهكها المجاعة يوماً بعد يوم، ويتضمن شهادات لأطباء فلسطينيين يواجهون نقصاً حاداً في الموارد الطبية والغذائية.
وتورد الصحيفة أن وزارة الصحة في غزة — التي تشير إليها باستمرار بأنها "تديرها حماس" — أعلنت وفاة 33 شخصاً، بينهم 12 طفلاً، بسبب الجوع خلال 48 ساعة فقط، في وقت بات فيه الحصار والنقص الحاد في الإمدادات يهددان آلاف الأرواح.
لكن التقرير لا يذكر إسرائيل كطرف رئيس في هذه المجاعة، بل يترك القارئ أمام مشهد إنساني معزول، وكأن المجاعة نشأت من فراغ، لا من حرب إبادة تشنها إسرائيل منذ أكثر من 21 شهراً.
Israel continues to starve the people of Gaza. pic.twitter.com/RPbgi38poc
— TIMES OF GAZA (@Timesofgaza) July 25, 2025
ورغم البعد الإنساني البارز في المادة المصوّرة، يغيب عن تقرير The Telegraph أي ذكر مباشر لمسؤولية إسرائيل عن تدهور الوضع الغذائي في القطاع. تُذكر "إسرائيل" بشكل عابر فقط، دون الإشارة إلى أنها تقصف القطاع بشكل يومي منذ شهور، أو أنها فرضت حصاراً خانقاً على تدفق الغذاء والدواء والوقود، أو أنها دمّرت البنية التحتية والمنشآت الطبية.
كما أن التقرير يتجاهل تماماً ما أكدته مصادر أممية وحقوقية عديدة بشأن استخدام إسرائيل لسياسة التجويع كسلاح في الحرب، ويتغاضى عن حقيقة أن أكثر من 18 ألف طفل فلسطيني قد قُتلوا منذ بدء العدوان، وفق إحصاءات وزارة الصحة — التي تصر معظم الصحف الغربية، وليس التلغراف فقط، على الإشارة إليها بأنها "تديرها حماس".
أما عن صحيفة "وول ستريت جورنال"، وهي صحيفة اقتصادية أميركية ذات توجه محافظ يميني، فقد تناولت المجاعة في غزة في مقال رأي بعنوان "أزمة المساعدات في غزة تخدم حماس فقط"، مقال رأي باسم هيئة التحرير، من زاوية سياسية ضيقة، حيث تطرح أن تفاقم النقص في الغذاء، لا سيما في شمال القطاع، يمنح حماس فرصة لتعزيز موقفها عبر رفض اتفاق وقف إطلاق النار وإلقاء اللوم على إسرائيل.
Opinion | Gaza's Aid Crisis Helps Only Hamas – The Wall Street Journal https://t.co/b0R8nVP8uR
— The Conservative Catholic Journal (@thepathistruth) July 26, 2025
ترى الصحيفة أن حماس توظف الأزمة لكسب تعاطف محلي ودولي دون أن تتحمل مسؤولية إنسانية فعلية، كما تحث الأمم المتحدة وإسرائيل على تجاوز الاتهامات المتبادلة والعمل معاً على "وضع الطعام على الطاولات". ومن ثم، فإن المقال يُقدّم المجاعة بوصفها نتيجة لصراع سياسي غير محسوم، لا كجريمة ممنهجة من إسرائيل.
حين صارت الصورة أقوى من الإنكار
أما في فرنسا، فصحيفة لوفيغارو، المعروفة بارتباطها التقليدي بخطاب يميني متشدد ومواقف داعمة لإسرائيل، خصّصت في عددها الصادر يوم 23 يوليو/تموز مساحة لافتة لتناول أزمة الجوع المتفاقمة في قطاع غزة، من خلال تقرير مصوّر نُشر على منصتها الرقمية بعنوان: "خطر المجاعة في غزة هو نتيجة الحصار الإسرائيلي، كما تؤكد فرنسا".
ورغم الخلفية التحريرية للصحيفة، فقد نقل التقرير تصريحات مباشرة للمتحدث باسم وزارة الخارجية الفرنسية، أقرّ فيها بأن المجاعة المتوقعة في القطاع ليست عرضاً عابراً، بل نتيجة مباشرة للحصار الإسرائيلي المستمر. كما أشار التقرير إلى تنامي الانتقادات الأوروبية والدولية.
بينما خصّصت صحيفة ليبراسيون، ذات التوجه اليساري، صفحتها الافتتاحية يوم 24 يوليو/تموز وعدداً من صفحاتها الداخلية لتسليط الضوء على تفاقم المجاعة في غزة، وارتفاع أعداد الوفيات بسبب الجوع. تضمن التقرير مقابلات مع فلسطينيين يعيشون تحت وطأة الحصار. وعلى صورة صادمة لطفل من مخيم الشاطئ بدت عظامه بارزة بفعل سوء التغذية، حملت الصفحة الرئيسية العنوان: "المجاعة في غزة".
Primeira página do jornal francês Libération pic.twitter.com/vZ7Mww1KNt
— Comunidade Cultura e Arte (@comculturaearte) July 24, 2025
وأضافت الصحيفة: "أكثر من مئة منظمة غير حكومية تحذر من مجاعة جماعية تضرب القطاع، حيث تتزايد أعداد الوفيات نتيجة سوء التغذية، في ظل غياب المساعدات الغذائية التي تمنع إسرائيل دخولها."
وخصّصت لوموند الفرنسية، وهي صحيفة تحاول أن تضع نفسها في الوسط بين التيارات السياسية، صفحتها الأولى لتغطية مجاعة غزة، واختارت صورة مؤثرة لامرأة فلسطينية تحتضن جسد طفلها الهزيل من شدة الجوع، تحت عنوان لافت: "قطاع غزة: ويلات المجاعة".
أشارت الصحيفة إلى أن نحو مئة شخص لقوا حتفهم جوعاً منذ أن فرض الجيش الإسرائيلي حصاراً على دخول المساعدات الإنسانية إلى القطاع. واستعرضت شهادات مؤلمة من سكان غزة، تحدّثوا عن ظروف يومية تُطبق على الحياة: الجوع، غياب الرعاية، وانهيار كل مقومات البقاء. ولفتت لوموندإلى أن "الحكومة الإسرائيلية تتبنى، بشكل متزايد وعلني، استراتيجية تهدف إلى تفريغ غزة من سكانها".
Le titre du @lemondefr devrait être plutôt : Bande de Gaza, les ravages du Génocide pic.twitter.com/p3ISgw5C9J
— Salim DJELLAB (@SalimDjellab) July 24, 2025
تجدر الإشارة إلى أن بعضاً من الصحف الغربية تبدي قدراً معقولاً من الاهتمام بما يتعرض له سكان غزة من إبادة وتجويع ممنهجين، وتسعى إلى إبراز المأساة الإنسانية، بينها صحيفة ذي غارديان البريطانية، ذات التوجه التقدمي، التي خصصت مدونة حية لتغطية الإبادة في غزة، تنشر فيها آخر المستجدات من القطاع.
أما صحيفة إل باييس الإسبانية، ذات التوجه الوسطي الليبرالي، واسعة الانتشار، فقد اختارت صورة تظهر فلسطينيين يصطفون في طوابير طويلة بانتظار الحصول على الطعام في غزة، ورافقتها بعنوان مباشر: "المجاعة في غزة تطلق موجة غضب عالمي"، في إشارة إلى تصاعد الاستياء الدولي من الكارثة الإنسانية المتفاقمة في القطاع.
🗞️ #Portada | La UE se dispone a ceder ante Trump y asumir aranceles del 15%; La hambruna en Gaza desata una ola de indignación global; Una diputada del PP deja todos sus cargos por falsear el currículum, en EL PAÍS este jueves 24 de julio
— EL PAÍS (@el_pais) July 24, 2025
🔗 https://t.co/QVwG9jl2MD pic.twitter.com/WfrTYJP6pQ
في المقابل، غابت أخبار المجاعة في غزة عن الصفحات الأولى للصحف الأميركية البارزة مثل واشنطن بوست ونيويورك تايمز، والتي فضّلت التركيز على ملفات محلية داخلية، متجاهلة تصدير واحدة من أسوأ الكوارث الإنسانية الجارية في العالم اليوم بفعل إسرائيل.في المقابل، غابت أخبار المجاعة في غزة عن الصفحات الأولى للصحف الأميركية البارزة مثل واشنطن بوست ونيويورك تايمز، والتي فضّلت التركيز على ملفات محلية داخلية، متجاهلة تصدير واحدة من أسوأ الكوارث الإنسانية الجارية في العالم اليوم بفعل إسرائيل.