عباس عراقجي.. حين تصبح دبلوماسية “مساومة البازار” وجه آخر للحرب

عربي بوست
تم النشر: 2025/07/02 الساعة 09:11 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2025/07/02 الساعة 10:31 بتوقيت غرينتش
عربي بوست

الحرب، كما يراها المنظّر العسكري الأشهر كارل فون كلاوزفيتز، ليست إلا وسيلة لإجبار العدو على الرضوخ لإرادتك. وإن كانت القوة العسكرية أداة ذلك الإكراه، فالدبلوماسية ليست نقيضاً لها، بل امتداد لها.

في طهران، حيث تتداخل السيادة مع الأيديولوجيا، والواقعية السياسية مع الحسابات العقائدية، برز اسم عباس عراقجي كأحد أعمدة التفاوض الإيراني. مفاوض هادئ يتحرك بدقة وسط شبكة معقّدة من التهديدات والضغوط، لا يرفع صوته، لكن كلماته محسوبة كأنها خطوات في حقل ألغام.

وإذا كانت الحرب الإيرانية مع إسرائيل قد توقفت مؤقتًا، فإن الجولة المقبلة، على ما يبدو، لن تُخاض بالسلاح وحده، بل بالدبلوماسية أيضاً. وقائد أركانها المنتظر؟ عباس عراقجي.

فبالنسبة لعراقجي، التفاوض ليس هدنة من الحرب، بل وجه آخر لها. في كتابه "قوة التفاوض: مبادئ وقواعد المفاوضات السياسية والدبلوماسية"، يصف التفاوض بأنه ساحة معركة حقيقية، لا مكان فيها للارتجال أو المجاملة. كل جولة تتطلب تحضيراً دقيقاً، وكل لحظة على الطاولة قد تُكلف الكثير إن لم تُحسب جيداً. خلف لغته الدبلوماسية المنضبطة، يقف عقل "براغماتي" يُدرك أن الخطأ في التفاوض قد يكلّف أكثر ما يكلّفه الصمت.

من جولات التفاوض حول الملف النووي، إلى وزير للخارجية، راكم عراقجي تجربة خاصة، تشبه تعقيدات بلاده. فمن هو هذا الرجل الذي يمضي إلى طاولة المفاوضات كما لو أنه يدخل معركة؟ وكيف يفهم التفاوض كقوة لا تقل تأثيراً عن المدفع والصاروخ؟

المولد والنشأة

يوصف أسلوب تفاوض الإيرانيين بأسلوب "مساومة البازار"، كما يرويها عراقجي نفسه، إذ يقول، وهو يسترجع ذكرى من طفولته، إن من أجمل ما يتذكره من تلك الأيام هو براعة والدته في المساومة أثناء الشراء، حيث كانت تساوم باستمرار وبصبر.

ويتذكر أنه، حين كان في السابعة أو الثامنة من عمره، سألها: "أياً كان السعر الذي يقوله صاحب المتجر، تقترحين قيمة أقل، ولكن إذا كانت السلعة تساوي ريالاً واحداً فقط، فماذا تقولين له؟" فأجابته: "أطلب سلعتين بريال واحد." يقول إن هذه الإجابة، من وجهة نظره كطفل حينها، كانت صادمة ومليئة بالدهاء!

عباس عراقجي.. حين تصبح دبلوماسية
بازار طهران الكبير – shutterstock

ويبدو أن عراقجي حين يتحدث عن تلك الذكرى، لا يبدو أن الدرس توقف عند حدود الطفولة. فالمهارة التي شاهدها في يد والدته بقيت حاضرة في ذهنه، كجزء من تكوينه لا ينساه. فعلى غلاف كتابه المعنون "قوة التفاوض: مبادئ وقواعد المفاوضات السياسية والدبلوماسية"، يزهو بقدراته كمفاوض إيراني، ذاكراً أحد المواقف التي وقعت خلال ترأسه لمفاوضات الاتفاق النووي، مع ويندي شيرمان، وكيلة وزير الخارجية الأمريكية للشؤون السياسية، والتي أصدرت لاحقًا مذكراتها بعنوان "ليس لضعاف القلوب.. دروس في الشجاعة والقوة والمثابرة".

يقول عراقجي: "في أثناء التفاوض قدمت السيدة شيرمان (وكيلة وزير الخارجية الأمريكية للشؤون السياسية، التي شاركت في مفاوضات الاتفاق النووي الإيراني) إيضاحات كثيرة حول أحد المواضيع الصغيرة التي كانت متبقية، وقالت لي: 'أتوافق؟' قلت: 'نعم، ولكن هناك نقطة صغيرة'. هذه العبارة 'نعم، ولكن…' التي كثيرًا ما كانت تُقال من جانبنا، كانت تُربك الطرف الآخر وتُتعِبه، إذ كنا أحيانًا نتفاوض أيامًا وساعاتٍ حول جزء 'ولكن، هذا…'، الذي كان جزءًا فرعيًّا للموضوع. لكن هذه المرة لم تعد السيدة شيرمان تتحمل، وغضبت وانهارت دموعها بشكل لا إرادي. وكانت تلك هي المرة الأولى التي أرى فيها مفاوضًا يبكي في أثناء المفاوضات".

لعل عباس عراقجي لم يكن يبتكر أسلوبه التفاوضي من فراغ، بقدر ما كان يستدعي إرثًا غُرس في ذاكرته منذ الطفولة. فقد نشأ في بيت محافظ بطهران، وُلِد في الخامس من ديسمبر/كانون الأول عام 1962، لأسرة تعمل في التجارة. كان جده، القادم من أصفهان، واحدًا من كبار تجار السجاد، وحرص على أن تبقى المهنة متجذرة في العائلة. أخوته ساروا على هذا الخط، أحدهم في اتحاد المصدرين، والآخر في اتحاد البائعين. لكن عراقجي، بخلافهم، اختار طريقًا آخر.

لم ينكر هذا الإرث، بل حمله معه بصيغة مختلفة. أدرك مبكرًا أن العقلية التي تنجح في السوق يمكن أن تثمر أيضًا على طاولة المفاوضات. لا يعني ذلك بالضرورة أنه تقمّص دور التاجر في السياسة، بل وظّف منهجيته: الصبر، والحساب، والقدرة على المناورة في المساحات الضيقة.

فقد والده وهو في السابعة عشرة، ثم تزامن تخرجه من المدرسة الإعدادية مع سقوط نظام الشاه في 1979، لحظة مفصلية في تاريخ إيران الحديث. وعندما كان يستعد لاجتياز اختبار دخول الجامعات، اندلعت الحرب العراقية الإيرانية (1980- 1988)، فأُغلقت الجامعات، ووجد نفسه يرتدي الزي العسكري، منضمًا إلى صفوف الحرس الثوري كضابط، لا متفرجًا على التحولات، بل جزءًا منها.

عباس عراقجي.. حين تصبح دبلوماسية
طهران- رويترز

لكن التعليم لم يغِب عن أولوياته، تابع دراسته في جامعة "آزاد إسلامي" الأهلية، وحصل منها على الماجستير في العلوم السياسية، قبل أن يحصل على منحة دراسية رسمية إلى بريطانيا. هناك، في جامعة كينت، ناقش أطروحته في الفكر السياسي، واضعًا قدمه على أرضية معرفية أوسع، ومتجاوزًا الحدود المحلية.

بهذا المسار، لا يظهر عراقجي كمن خرج من السوق إلى السياسة، بل كمن حمل شيئًا من أدوات السوق إلى ساحة أعقد.

مساره الدبلوماسي

كان انتقال عباس عراقجي من مقاعد الدراسة ومكاتب التحليل إلى ميادين العمل الدبلوماسي مسارًا طبيعيًا في ضوء تكوينه وتوجهه. ومع بدايات التسعينيات، بدأ يُترجم رؤيته النظرية إلى أدوار ميدانية. أتقن اللغتين الإنجليزية والعربية، مما سهّل عليه التنقل في محطات خارجية مختلفة، أولها تعيينه قائماً بالأعمال في البعثة الإيرانية الدائمة لدى منظمة المؤتمر الإسلامي في السعودية عام 1994، وهي تجربة مبكرة جمعت بين العمل في دولة جارة، والحضور في منظمة إقليمية حساسة.

لاحقًا، في عام 1999، عُيّن سفيرًا لإيران لدى فنلندا وإستونيا، وبقي في هذا المنصب حتى عام 2003. هناك، على أطراف أوروبا الشمالية، اختبر عراقجي مشهدًا سياسيًا مختلفًا تمامًا عن بيئته السابقة، وأضاف إلى خبرته بعدًا جديدًا في فهم السياسات الغربية. بعد عودته إلى طهران، تولى رئاسة الدائرة الأولى لأوروبا الغربية في وزارة الخارجية، وهو موقع ظل فيه عامًا تقريبًا، قبل أن يُكلف برئاسة كلية العلاقات الدولية، المؤسسة التي تخرّج منها، وبقي فيها حتى عام 2005.

مع وصول منوشهر متكي إلى وزارة الخارجية، جرى تعيين عراقجي مساعدًا له في الشؤون القانونية والدولية. وهنا بدأ حضوره يبرز بشكل أكبر في ملفات التفاوض، إذ شارك ضمن الفريق الإيراني ممثلاً قانونيًا عن الخارجية في المحادثات الدولية. وفي عام 2007، رُشّح سفيرًا لإيران في طوكيو، وتلك المحطة الآسيوية بقي فيها حتى 2011، قبل أن يعود إلى طهران ليتولى معاونية شؤون آسيا في الوزارة.

وفي نهاية عهد الرئيس محمود أحمدي نجاد، وضمن التغييرات الإدارية المتسارعة حينها، عُيّن عراقجي متحدثًا باسم الخارجية في مايو/أيار 2013، خلفًا لرامين مهمانبرست. لم يستمر في هذا الدور طويلاً، فمع تسلّم محمد جواد ظريف حقيبة الخارجية، جرى تعيينه نائبًا للوزير للشؤون القانونية والدولية — المنصب الذي سيبقيه في قلب أهم الملفات، وعلى رأسها الملف النووي الإيراني، حتى عام 2017.

عباس عراقجي.. حين تصبح دبلوماسية
وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي خلال اجتماع مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة – shutterstock

وخلال الولاية الثانية لرئاسة حسن روحاني الذي أعاد تعيين ظريف على رأس وزارة الخارجية، عيّن الأخير عراقجي عام 2017 مساعدًا للشؤون السياسية ومكث في منصبه حتى 2021؛ إذ استقال من منصبه عقب فوز المحافظ إبراهيم رئيسي بالرئاسة عام 2021. لينتقل بعدها إلى المجلس الاستراتيجي للسياسات الخارجية حيث عمل أمينًا له بتكليف من وزير الخارجية الأسبق كمال خرازي إلى حين حصوله على ثقة البرلمان في 21 أغسطس/آب الماضي لشغل المنصب الحالي.

ورغم أنه عُرف في إيران بكونه أكاديميا ودبلوماسيًا براغماتيًا، فإن اسم عراقجي اقترن بمفاوضات البرنامج النووي الإيراني، حيث قاد فريق بلاده التفاوضي مع القوى الغربية خلال حقبتي الرئيس المحافظ محمود أحمدي نجاد والمعتدل حسن روحاني.

يشار إلى أن الاتفاق الذي وقع عام 2015 كان يهدف إلى كبح تقدم البرنامج لمدة 10 سنوات -على الأقل- بتعليق أكثر من ثلثي قدرات التخصيب الإيرانية مقابل رفع العقوبات الغربية على طهران، بعد 12 عامًا من التهديدات بين الطرفين. وهو ينظم كذلك عملية رفع العقوبات المفروضة على طهران منذ عقود، ويسمح لها بتصدير واستيراد أسلحة، مقابل منعها من تطوير صواريخ نووية، وقبولها زيارة مواقعها النووية.

في الولاية الثانية لحسن روحاني، ومع استمرار محمد جواد ظريف على رأس وزارة الخارجية، أُسند إلى عباس عراقجي في عام 2017 منصب مساعد وزير الخارجية للشؤون السياسية. بقي في هذا الدور حتى عام 2021، حين قدّم استقالته بعد فوز الرئيس المحافظ إبراهيم رئيسي في الانتخابات.

لاحقًا، في أكتوبر/تشرين الأول من نفس العام، كُلّف من قبل رئيس المجلس الاستراتيجي للسياسات الخارجية، كمال خرازي، بشغل منصب الأمين العام للمجلس، وهو موقع استمر فيه حتى أغسطس/آب 2024. وفي ذلك التاريخ، وبعد ترشيحه من قبل الرئيس مسعود بزشكيان، نال عراقجي ثقة البرلمان لتولي حقيبة الخارجية رسميًا، ليعود إلى الواجهة من موقع هو الأرفع في السلك الدبلوماسي الإيراني.

ورغم صورته الأكاديمية وشخصيته البراغماتية داخل المشهد الإيراني، فإن عراقجي ظل لسنوات مرادفًا لملف المفاوضات النووية، وهو الملف الذي تولى مسؤوليته في أكثر من مرحلة سياسية، سواء في عهد الرئيس المحافظ محمود أحمدي نجاد أو في فترة الرئيس حسن روحاني. إذ لعب دورًا محوريًا على رأس الفريق الإيراني المفاوض، وواجه أطرافًا غربية في محادثات كانت شاقة استمرت حوالي 18 شهرًا.

كان أبرز نتائج تلك المفاوضات توقيع الاتفاق النووي عام 2015، اتفاق يهدف إلى الحد من قدرات إيران النووية لمدة لا تقل عن عشر سنوات، عبر تجميد أكثر من ثلثي أنشطة التخصيب مقابل تخفيف العقوبات الاقتصادية المفروضة على طهران. الاتفاق تضمّن بنودًا واضحة لتنظيم رفع العقوبات تدريجيًا، وفتح الباب أمام إيران لتصدير واستيراد الأسلحة، مقابل التزامات أمنية ودولية، من بينها قبول الرقابة على منشآتها ومنع تطويرها لصواريخ ذات طابع نووي.

بهذا الدور، لم يكن عراقجي مجرد موظف في وزارة الخارجية، بل أحد أبرز الوجوه التي واكبت أكثر مراحل السياسة الخارجية الإيرانية حساسية آنذاك.

كيف يفاوض عراقجي

وفي لحظة سياسية أخرى بالغة التعقيد، كان عباس عراقجي يوقّع كتابه "قوة التفاوض: أصول وقواعد المفاوضات السياسية والدبلوماسية" خلال مشاركته في معرض مسقط الدولي للكتاب، بينما كانت مفاوضات نووية تجري فعليًا على الأرض العمانية، بين طهران وواشنطن.

يقدّم عراقجي التفاوض بوصفه أداة استراتيجية لتعزيز القوة الوطنية، لا مجرد تقنية لخفض التصعيد. فمن خلال ستة فصول في كتابه، يجمع بين التنظير والتجربة، وبين منطق الدولة وحدس السوق. يصف أسلوب إيران التفاوضي بـ"مساومة البازار"، وهو نهج قائم على الصبر، والتشكيك المستمر، واستنزاف التفاصيل حتى أقصى حدودها. ويستعرض كيف اعتمد هذا المنطق في مفاوضات البرنامج النووي مع مجموعة "5+1".

تنظر الولايات المتحدة إلى أسلوب إيران التفاوضي بعين لا تخلو من الحذر، بل وغالبًا ما يُرافقه شعور بالإحباط. فقد أثبتت التجربة، من وجهة نظر أميركية، أن طهران تتقن فن المساومة الطويلة، وتعرف كيف توظف الوقت والمرونة لتحقيق مكاسب متراكمة. ولعل أكثر ما يلخّص هذا الانطباع تصريح الرئيس الأميركي دونالد ترامب حين قال: "لم يربحوا حربًا قط، ولم يخسروا مفاوضات."

جملة اختزلت الإحساس الأميركي بإصرار إيران على اللعب في حقل التفاوض إلى أقصى مدى، واستثمار كل ثغرة زمنية أو سياسية لإعادة رسم الشروط، حتى لو تطلب الأمر جولات طويلة بلا نتائج نهائية.

ويستعرض عراقجي في كتابه أيضًا التفاوض غير المباشر، والذي يراه أكثر بطئًا وتعقيدًا، لكنه يعترف أنه أحيانًا ضرورة تفرضها الهويات المتصادمة والخلافات العميقة. وفي هذا النوع من التفاوض، لا يلتقي الطرفان في غرفة واحدة، بل يتوسط بينهما طرف ثالث — بشرط الثقة. يذكر عراقجي أن سلطنة عمان نجحت سابقًا في تهيئة هذا الدور.

ومع ذلك، لا يُخفي عراقجي نفوره من الدبلوماسية المكتوبة. يقول إن المفاوضات غير المباشرة، كما جرى في فيينا، كانت مرهقة: "لم يكن بالإمكان تبادل أكثر من رسالة واحدة يوميًا في أفضل الحالات". ويبدو واضحًا أنه يُفضل الحضور المباشر، والتفاعل الحي، حيث لغة الجسد والإيقاع النفسي يضيفان طبقات غير مكتوبة للمفاوضة.

في هذا السياق، يعتمد عراقجي على ما يسميه "جوهرًا إيمانيًا" كعنصر من عناصر التفاوض، وهو البُعد العقائدي والدافع الوطني الذي يصعب قياسه بالأدوات الغربية المعتادة. ويرى أن نجاح إيران في فرض نفسها على الطاولة لم يكن نتيجة مرونة غربية، بل بسبب فشل العقوبات في كبح برنامجها النووي، والقدرات الصاروخية والنووية، خصوصًا حين تمكن علماؤها من بلوغ نسبة تخصيب 20%، وتجاوز الخطوط الحمراء التي كانت تعتبر فاصلة.

يعرض عراقجي أيضًا كذلك مفهوم "أفضل صفقة"، التي لا تعني بالضرورة تحقيق المطالب كلها، بل تحقيق التوازن بين الكلفة والمصلحة. ويركّز على أهمية الاستعداد النفسي والسياسي قبل التفاوض، بتحديد الأهداف استنادًا إلى الهوية، والمصلحة، والدور، والموقع. كما يشدد على ضرورة معرفة الخطوط الحمراء – الحقيقية منها والمعلنة – وفهم خطوط الطرف الآخر، والتمييز بين ما هو تفاوضي وما هو محسوم.

عباس عراقجي.. حين تصبح دبلوماسية
وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي – رويترز

وحول سمات المفاوض الناجح وسلوكه وأساليبه ومواهبه المختلفة التي تعينه لكي يحقق مصالح بلاده الوطنية خلال أي تفاوض، يحدد صفات مثل التعصب القومي المحكوم، والقدرة العلمية، والثقة بالنفس، وإدارة الانفعالات. كما يلفت إلى أهمية "فن الإقناع" كسلاح تفاوضي خفي.

في لغة الجسد، يفضّل عراقجي الصمت المدروس على الابتسامات الدبلوماسية. بخلاف سلفه محمد جواد ظريف، الذي عُرف بابتسامته ونبرة الانفتاح، يختار هو أسلوب "بوكر فيس" — وجه جامد، لا يكشف شيئًا، ولا يمنح خصمه إشارة مبكرة.

ويذكر جلسة مع ويليام بيرنز، الذي قال لعراقجي إن تخصيب اليورانيوم لا يحمل جدوى اقتصادية. فأجابه عراقجي بسؤال مضاد: "وهل كان ذهاب الأميركيين إلى القمر ذا جدوى اقتصادية؟"، مستشهدًا بمليارات الدولارات التي أُنفِقت على برنامج أبولو. حين اعترف بيرنز بأن الأمر كان رمزيًا واعتباريًا أمام الروس، رد عراقجي: "وهذا بالضبط ما ينطبق على برنامجنا النووي."

بالإضافة إلى ذلك، يرى عراقجي التهديد كجزء أصيل من المفاوضات، لا عارض طارئ. فالتفاوض نفسه يُستدعى حين يصبح البديل — المواجهة المباشرة — أكثر خطورة. ومع ذلك، يؤمن أن التهديد، حين يُستخدم، يجب أن يُنفّذ: "مثل سيف الساموراي أو الخنجر اليمني"، كما يصف.

منذ سنوات، اعتاد المفاوض الإيراني أن يُنظر إليه من قبل خصومه، وخصوصًا في واشنطن، باعتباره مفاوضًا صلبًا يُجيد المناورة ويُطيل عمر الطاولة دون أن يُفرط في شيء جوهري. في 2021، وصفت وول ستريت جورنال هذا النهج بأنه "استمتاع بإذلال الأميركيين"، في إشارة إلى قدرة الإيرانيين على استنزاف الدبلوماسيين المتحمسين دون تقديم تنازلات حقيقية. شخصيات مثل عباس عراقجي مثّلت هذا النهج بوضوح، خاصة حين رفض بشكل قاطع وقف تخصيب اليورانيوم، واعتبره أمرًا "غير قابل للتفاوض"، كما نقل عن مسؤولين أميركيين آنذاك، مثل ستيفن ويتكوف.

لكن بعد أن شنت إسرائيل حربًا بدعم وتنسيق مباشر مع الولايات المتحدة، التي نفّذت ضربات جوية استهدفت مواقع نووية داخل إيران، انقلب مسار المفاوضات فجأة إلى مواجهة مفتوحة استمرت اثني عشر يومًا، قبل أن تتوقف العمليات العسكرية دون إعلان رسمي لنهاية الحرب أو استئناف الحوار السياسي. ومع هذا الفراغ، يعود السؤال إلى طهران من جديد: هل تمضي في خيار المواجهة، بما يحمله من مخاطر على الداخل الإيراني ومن توتر مع دول الجوار، أم تسعى إلى اتفاق يضع حدًا لحالة التصعيد المتصاعد؟

ربما لا يكون الجواب في الحسم القاطع، بل في ما اعتادت إيران عليه تاريخيًا: التفاوض تحت الضغط. وهنا يستعاد توصيف ونستون تشرشل: "لا يمكنك التفاوض مع النمر ورأسك في فمه." لكن إيران، كما أظهرت أكثر من مرة، تحاول التفاوض حتى في لحظات الخطر — بلغتها الخاصة، التي تجمع بين الصلابة والمساومة، بين الحسابات الأمنية ومنطق البازار.

ومع تصاعد التعقيدات وتداخل الخطوط الحمراء، قد تعود أساليب التفاوض لتتقاطع مجددًا بين رجل أعمال أميركي مثل ستيفن ويتكوف، في مواجهة ابن تاجر سجاد إيراني مثل عباس عراقجي — فالحرب قد تكون توقفت مؤقتًا، لكن باب التفاوض لم يُغلق بالكامل — إنه فقط معلّق، في انتظار لحظة تتبدل فيها الموازين، وتُعاد صياغة الشروط من جديد.

تحميل المزيد