عاد الجدل من جديد في مصر حول ما أُطلق عليه التمدد الاستثماري الإماراتي، عقب الإعلان قبل أيام عن الاتفاق الذي وقعته المنطقة الاقتصادية لقناة السويس المصرية مع مجموعة موانئ أبوظبي الإماراتية، ما قاد إلى أن تصدر الحكومة المصرية بيانات عديدة لتوضيح طبيعة الاتفاقية، وخرج رئيس الوزراء مصطفى مدبولي متحدثاً عن طبيعة الصفقة.
وبحسب رئيس الحكومة المصرية مصطفى مدبولي، فإن "مشروع كيزاد شرق بورسعيد" يُعد منصة صناعية تخدم حركة التجارة بين الشرق والغرب، ويُعزّز من حركة التصنيع والخدمات اللوجستية.
وعلّق مدبولي على البلبلة التي أثيرت حول توقيع الاتفاقية، قائلاً: "لازم نفرق بين هيئة قناة السويس والهيئة العامة لتنمية منطقة قناة السويس.. الجهتان تعملان بشكل مستقل، ولكلٍّ منهما اختصاصات واضحة، تساهم بشكل فعال في دفع قاطرة التنمية".
وأضاف أن العقد الذي أثار الجدل هو عقدٌ بنظام المطور الصناعي، وليس هو العقد الوحيد، بل هناك 14 مطوراً صناعياً بهذا النظام في المنطقة الاقتصادية بقناة السويس، وأكد مدبولي أن المشروع يتيح الفرصة لجذب مزيد من المستثمرين.
الملفت أن الردود لم تهدّئ الجدل السياسي والشعبي الواسع، لأنها لم تُجِب عن الكثير من التساؤلات المرتبطة ببنود تجديد العقد عقب انتهائه بعد خمسين عاماً، ودون أن يتم التطرّق إلى الأسباب التي تجعل الحكومة أكثر استجابة لعقد صفقات مع شركات إماراتية لديها استثمارات في ستة موانئ من إجمالي 16 ميناء مصرياً.
ووقّعت الهيئة العامة للمنطقة الاقتصادية لقناة السويس يوم الأحد الماضي، اتفاقية لتطوير منطقة "كيزاد شرق بورسعيد" مع مجموعة موانئ أبوظبي، بحق انتفاع لمدة 50 عاماً قابلة للتجديد، وهي منطقة صناعية ولوجستية على مساحة 20 كيلومتراً مربعاً في منطقة شرق بورسعيد، وبموجب الاتفاقية، ستقوم مجموعة موانئ أبوظبي بتطوير وتشييد وتمويل وتشغيل وإدارة المنطقة الصناعية واللوجستية على عدّة مراحل.
وتشمل المرحلة الأولى مساحة 2.8 كيلومتر مربع، وسيتم تخصيص استثمار إجمالي بقيمة 120 مليون دولار للدراسات السوقية والفنية ذات الصلة، بالإضافة إلى تطوير المرحلة الأولى على مدى الأعوام الثلاثة المقبلة.
وستبدأ أعمال تشييد المرحلة الأولى بنهاية عام 2025، وستتضمن إنشاء رصيف بطول 1.5 كيلومتر، قد يضم لاحقاً محطة شحن متعددة الأغراض.
الجدير بالذكر أنه في نوفمبر/تشرين الثاني 2021، وقّعت مجموعة موانئ أبوظبي مذكرة تفاهم مع شركة المجموعة المصرية للمحطات متعددة الأغراض، التابعة لوزارة النقل، بهدف تطوير وتشغيل محطة متعددة الأغراض بميناء سفاجا البحري، وكذلك ميناء العاشر من رمضان البري، بقيمة إجمالية تصل إلى 500 مليون دولار.
الاعتماد على المستثمرين
خبير اقتصادي كان يعمل سابقاً في الهيئة العامة لتنمية منطقة القناة، قال لـ"عربي بوست" إن الحساسية الشعبية المفرطة من الصفقة الأخيرة كانت تسود بينهم كخبراء اقتصاديين عملوا في الهيئة، خاصة إذا ارتبط الأمر ببيع الأصول أو الاستحواذ على مناطق لوجستية مهمة، كما هو الوضع بالنسبة لمنطقة شرق بورسعيد.
وأضاف أن كثيراً من المشروعات التي قامت بشرائها شركات إماراتية أو عربية حققت نجاحات كبيرة على مستوى الأرباح في غضون فترة قصيرة من الاستحواذ عليها أو الاستثمار فيها، وهو ما يطرح تساؤلات عن عدم استفادة الدولة المصرية من هذه الاستثمارات التي يمكن أن تدر عوائد دولارية مهمة.
وأوضح أن ضعف المبلغ الذي تدفعه موانئ أبوظبي لتطوير المرحلة الأولى من المشروع، الذي يتضمن بناء رصيف تبلغ مساحته كيلومترًا ونصفاً، إلى جانب تطوير محطات الشحن والبنية التحتية المرتبطة باللوجستيات، ويبلغ 120 مليون دولار، لن تستفيد منه الحكومة المصرية شيئاً، لأنه سوف يُخصّص لتطوير المنطقة.
وقال إن الأمر يطرح تساؤلات عديدة حول أسباب ضعف المقابل المادي الذي تحصل عليه الحكومة المصرية من الأرباح التي تحددها موانئ أبوظبي، ولا تتجاوز 15%، وكذلك يطرح تساؤلات حول طول فترة الاستحواذ التي تصل إلى 50 عاماً، ستحقق فيها الموانئ أرباحاً هائلة تُقدَّر بمليارات الدولارات.
واستنكر المصدر عدم وجود شفافية في قيمة العقد وبنوده، والأسباب التي جعلت الحكومة توافق على العرض الإماراتي، وربما لو فعلت ذلك لخفتت حدة الانتقادات، مؤكداً أن الحكومة كان بإمكانها أن تستثمر بنفسها في تلك المنطقة، خاصة أن الأموال المطروحة في المرحلة الأولى يمكن توفيرها بسهولة.
وقال إن التوسع في الاقتراض من الخارج كان من الممكن أن يُوجَّه إلى هذه المشروعات المهمة ذات العائد الاقتصادي القوي، والتي تشكّل أهمية استراتيجية للأمن القومي المصري بفعل المنطقة التي تتواجد فيها.
الأخطر من ذلك، من وجهة نظر المصدر، أن الحكومة المصرية خلال السنوات العشر الماضية قامت بتسهيل الوصول إلى بورسعيد وشبه جزيرة سيناء، وحفرت الأنفاق، ودشنت العديد من الطرق والكباري، وبعد كل ذلك ذهبت نحو منح جزء مهم من المنطقة لمستثمر أجنبي سوف يستفيد بـ85% من العوائد خلال خمسين عاماً.
كما أن هذا المستثمر قد يكون بإمكانه أن يُجدّد هذه المدة لأن العقد غير معروف، وقد يكون للمستثمر الحق في زيادة مدة الاستحواذ على المنطقة، وبالتالي تبقى ملكيتها له مدى الحياة.
كاشفاً عن أن الهدف الرئيسي من وراء الاعتماد على المستثمرين الأجانب هو إقناع مستثمرين آخرين بالتواجد، وتسريع وتيرة الاستثمارات في المنطقة، والحصول على عملة صعبة، بصرف النظر عن المخاطر المستقبلية التي تترتب على تلك الصفقات.
14 مطوراً صناعياً في المنطقة الاقتصادية لقناة السويس
كشفت مصادر مطلعة لـ"عربي بوست" أن هناك خلافات سابقة بين مصر وموانئ دبي العالمية، إذ شعر المصريون بأن الشركة الإماراتية تسعى لتعطيل تطوير الموانئ المصرية بسبب طريقة إدارتها لميناء العين السخنة في مصر منذ استحواذها عليه في عام 2008.
بالإضافة إلى مشاركتها في مشروع تنمية قناة السويس، الذي يتضمن 4 موانئ أخرى، وزاد الأمر اشتعالاً إبرام موانئ دبي اتفاقيات لتطوير موانئ أخرى في البحرين الأحمر والمتوسط، مثل ميناء بربرة في منطقة أرض الصومال الانفصالية، وميناء حيفا الإسرائيلي، وهي موانئ تعتبرها مصر منافسة لها.
وقاد ذلك إلى أن تدخل شركة موانئ أبوظبي على خط التنافس، وأدركت الحكومة المصرية روح التنافس بين إمارتي أبوظبي ودبي، وحاولت استغلال تلك الروح في تحقيق أقصى استفادة لصالحها، وعقد صفقات مع أبوظبي.
وفي عام 2023، تم الإعلان عن توقيع المجموعة اتفاقية الامتياز مع الهيئة العامة لموانئ البحر الأحمر، ليتم بموجبها بناء وتشغيل مشروع محطة سفاجا متعددة الأغراض، لكن بقيمة 200 مليون دولار، لتكون أول محطة دولية متعددة الأغراض في منطقة صعيد مصر.
وتضم مجموعة موانئ أبوظبي عدداً من قطاعات الأعمال الرئيسية، وهي: قطاع الموانئ، وقطاع المدن الاقتصادية والمناطق الحرة، والقطاع البحري والشحن، والقطاع اللوجستي، والقطاع الرقمي.
وتشمل محفظة المجموعة 34 محطة في أكثر من 50 دولة، بالإضافة إلى أكثر من 550 كيلومتراً مربعاً من المناطق الاقتصادية تحت مظلة مجموعة كيزاد، أكبر مجمع تجاري ولوجستي وصناعي في منطقة الشرق الأوسط.
لماذا سوقت الحكومة مميزات المشروع بعد الاتفاقية وليس قبلها؟!
قال خبير في الملاحة البحرية، تحدّث لـ"عربي بوست" شريطة عدم ذكر اسمه، إن القيمة الكلية لاستثمارات موانئ أبوظبي في منطقة شرق بورسعيد غير معروفة، ومن المفترض أن تكون الصفقات معلنة، لأنه يجري حساب قيمة الإنشاءات والأرباح المتوقعة.
وأضاف أن نجاح مثل هذه الاستثمارات يتطلب إتاحة الفرصة أمام جميع المستثمرين والشركات والصناديق الكبرى للتنافس حول الاستحواذ عليها، وهو ما يضمن أفضل تشغيل للمشروع، وكذلك الحصول على أفضل سعر وعرض يمكن أن يحقق مكاسب للحكومة أيضاً.
وأوضح أن الحكومة المصرية لم تسوّق بصورة جيدة للمشروع وامتيازاته، وبدأت الآن في تعديد أوجه الاستفادة من موانئ أبوظبي لإقناع المواطنين بجدوى الاتفاقية، لكن ذلك كان من المفترض أن يتم على نطاق واسع قبل توقيع الصفقة.
وقال إن تركيز بعض الانتقادات على دولة الإمارات أمر غير منطقي، لأنه في حال لم تستحوذ موانئ أبوظبي على المشروع، فإن هناك شركات أخرى كانت ستستحوذ على المنطقة لتطويرها، كما أن الاتفاق مع شركات وصناديق، وليس مع الحكومة الإماراتية، وبالتالي فإن للمشروع بُعداً استثمارياً.
وقال إن الحكومة لم تعلن تقييمها للمشروع، وكان من الممكن أن يجذب ذلك مستثمرين محليين لديهم خبرات في تطوير ممرات الملاحة وتطوير المنطقة الاقتصادية، ولم تعلن الحكومة ما إذا كانت تهدف لجذب مستثمر بعينه، أم أن ما يعنيها هو حصولها على عوائد جيدة.
وذكر المصدر ذاته أن المشكلة الأكبر هي أن الحكومة المصرية كان من الممكن أن تستفيد من هذه المنطقة من خلال تطويرها والاستفادة من الخدمات اللوجستية المقدّمة، كما أن الحدود البحرية على البحر الأحمر أضحت في يد مستثمر أجنبي، ورغم أن الإمارات دولة صديقة لمصر، فإن ليس هناك ثوابت في السياسة.
وقال إن الشركات الإماراتية وقّعت عشرات الاتفاقيات لتشغيل موانئ حيوية في محافظات مختلفة، بينها السويس في العين السخنة شرقاً، والإسكندرية شمالاً، والغردقة وسفاجا وشرم الشيخ على ساحل البحر الأحمر، وكذلك ميناء العريش في شبه جزيرة سيناء في شمال شرق مصر، وهي استثمارات مهمة، لكن كان من الممكن تسويقها على نطاق أوسع أمام مستثمرين من دول عديدة.
المشروعات الاستثمارية في المناطق المحيطة بالقناة بحاجة للدراسة
أعلنت الهيئة العامة للمنطقة الاقتصادية لقناة السويس أنه في ضوء التغطية الإعلامية للمشروعات والفعاليات المختلفة المتعلقة بالهيئة، تلاحظ قيام بعض الصفحات والمواقع بتداول معلومات غير صحيحة حول الاتفاقية الموقعة.
وقالت إن مساحة مشروع "منطقة كيزاد" تبلغ 20 مليون متر مربع، وتقع داخل نطاق منطقة شرق بورسعيد الصناعية، التابعة للمنطقة الاقتصادية لقناة السويس، والبالغ مساحتها الإجمالية نحو 64 مليون متر مربع، "ولا يتعلق هذا المشروع بميناء شرق بورسعيد، وهو ما أشارت إليه تلك المعلومات المتداولة غير الصحيحة".
وأوضحت الهيئة أن الاتفاق الذي وقعته مع مجموعة موانئ أبوظبي هو عقد "حق انتفاع"، وهو الإطار التعاقدي المتبع وفق قانون المناطق الاقتصادية ذات الطبيعة الخاصة رقم 83 لسنة 2002 وتعديلاته بالقانون رقم 27 لسنة 2015؛ وذلك مثل باقي التعاقدات التي تبرمها المنطقة الاقتصادية لقناة السويس مع كافة المطورين الصناعيين والمستثمرين في المنطقة.
وأوضح أن موانئ أبوظبي تقوم بالترويج لتلك المنطقة لجذب الاستثمار في القطاعات الصناعية واللوجستية المستهدفة، وكذلك القيام بكافة أعمال البنية التحتية الداخلية، مثل محطات توزيع الكهرباء، ومحطات الصرف الصحي والمعالجة، وذلك على عدّة مراحل.
وقال خبير في الاقتصاد السياسي لـ"عربي بوست" إن المشروعات المرتبطة بقناة السويس ومنطقتها الاقتصادية دائماً ما تثير جدلاً في مصر، لأن توجهات الحكومة تذهب باتجاه إتاحة الخدمات التي تقدمها القناة بشكل كامل لمستثمرين أجانب.
وأضاف أن الاتجاه نحو إنشاء صندوق مملوك لهيئة قناة السويس قبل ثلاث سنوات كان قد أثار جدلاً واسعاً في ذلك الوقت، وجرى تجميده، لكنه حظي بموافقة مبدئية من البرلمان، وفي حال إقراره فإن الصندوق سوف يتمكن من شراء وبيع وتأجير واستئجار واستغلال الأصول الثابتة والمنقولة والانتفاع بها.
وقال إن الصفقة الأخيرة جاءت في وقت تواجه فيه قناة السويس تحديات جمة على مستوى تراجع الإيرادات بشكل كبير، نتيجة الاضطرابات في منطقة البحر الأحمر، إلى جانب مطالبة الرئيس الأميركي دونالد ترامب سفن بلاده بأن تعبر مجاناً من القناة، وهو ما يشير إلى وجود مخططات خارجية تستهدف القناة وأمنها.
وهو ما يجعل التعامل مع المشروعات الاستثمارية في المناطق المحيطة بها بحاجة لمزيد من الدراسة والتأني، وكان من المفترض أن تُغيّر الحكومة خططها لكي تضمن عدم المساس مستقبلاً بالمرفق الحيوي الهام.
وأشار إلى أن موانئ أبوظبي ودبي لديهما استثمارات في ستة موانئ مصرية من إجمالي 16 ميناء، وهو رقم كبير، بخاصة أن بعض المشروعات لم يتم إنجازها بشكل كامل، مثل مشروع تطوير 95 كيلومتراً مربعاً بمنطقة العين السخنة وفقاً لاتفاق جرى التوقيع عليه في عام 2017، هذا بالإضافة إلى مشروع تطوير منطقة خدمات لوجستية في العين السخنة أيضاً في عام 2022.
وكان من المفترض أن تبدأ المرحلة التشغيلية الأولى من المشروع في عام 2023، لكن حتى قبل شهرين تم الانتهاء فقط من نصف المستهدف تقريباً من المشروع.
من جهتها، قالت الدكتورة عالية المهدي، العميد الأسبق لكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، إنها غير قادرة على قبول فكرة دخول الإمارات في مشروع ضخم في المنطقة الاقتصادية لقناة السويس لسببين:
أولاً: لأنها ستدمّر منطقة جبل علي الخاصة بالإمارات، مشيرة إلى أن هذا أمر ليس طبيعياً.