تشهد العاصمة المغربية الرباط حالة من الفوضى على إثر إقدام السلطات على هدم أجزاء من أحياء عتيقة بطريقة ترفضها الساكنة، وذلك ضمن مشروع إعادة تأهيل العاصمة استعداداً لكأس العالم 2030، الحدث الرياضي العالمي الذي يتطلب بنية تحتية متطورة ومرافق عصرية.
هذه الخطوة، التي يقول مجلس المدينة إنها تهدف إلى تحسين المشهد الحضري وتطوير المدينة لتلبية المعايير الدولية، تثير في الوقت نفسه تساؤلات ومخاوف لدى السكان المتضررين، الذين يطالبون بضمان حقوقهم وتوفير بدائل سكنية عادلة تتناسب مع احتياجاتهم.
وتتم عمليات الهدم حسب الساكنة ومصادر من مجلس المدينة دون تفاوض بخصوص التعويضات، وفي غياب تام للسند القانوني الواضح لهذه الإجراءات، مؤكدين أن التنفيذ يتم بشكل مفاجئ، دون سابق إنذار مما يحرمهم من الوقت الكافي للتدبير أو البحث عن بدائل.
فضلاً عن عدم مراعاة السلطات لظروفهم الخاصة، في ظل تزامن هذه العمليات مع الموسم الدراسي، مما يُؤثر على استقرار الأسر وتلاميذ المدارس.
في هذا التقرير، تواصل "عربي بوست" مع رئيس مجلس مدينة الرباط ومع المعارضة في نفس المجلس، كما أنه حصل على مشروع إعادة تأهيل المدينة والتجاوزات التي تمت في عمليات هدم منازل الساكنة.

قصة تأهيل الرباط
في 12 ديسمبر/ كانون الأول 2025، صادق المجلس الجماعي لمدينة الرباط على مشروع تصميم تهيئة المدينة خلال دورة استثنائية، رغم الانتقادات التي وجهت لهذا المشروع.
وعمدت سلطات مدينة الرباط إلى عدم نشره في البوابة الإلكترونية المخصصة لهذا الغرض، وهو ما حال دون اطلاع العديد من المواطنين عليه، حيث كان لزاماً عليهم التنقل إلى مقر المجلس الجماعي من أجل الاطلاع عليه وتسجيل ملاحظاتهم.
وجاءت المصادقة بعد أن أكدت خدوج كنو، مديرة الوكالة الحضرية لجهة الرباط، بأنه لن تكون هناك أية عملية هدم أو ترحيل للساكنة، ووعدت بأخذ ملاحظات الساكنة بعين الاعتبار في النسخة الثانية، التي تم إقرارها من طرف لجنة مركزية تترأسها وزيرة السكنى المغربية، فاطمة الزهراء المنصوري.
خلافاً للوعود، التي قدمتها مديرة الوكالة الحضرية لجهة الرباط، شرعت السلطات في مباشرة عملية الهدم والإخلاء مباشرة، حتى قبل نشر المشروع في الجريدة الرسمية نهاية فبراير الماضي.
شملت عملية الهدم عدداً من أحياء مدينة الرباط، منها المصنفة ضمن البناء العشوائي كما هو الشأن بالنسبة لـ"دوار العسكر"، وهو واحد من الأحياء القديمة، التي كانت مخصصة لإيواء الجنود الذين أنهوا الخدمة، لكنه تحول إلى حي عشوائي مع مرور الوقت.
وأجبرت السلطات ساكنة دوار العسكر على ترحيلهم إلى مدينة تامسنا، التي تبعد حوالي 26 كلم عن مركز مدينة الرباط، وتعاني من غياب البنيات التحتية الضرورية وصعوبة النقل نحو العاصمة.
أيضاً أكدت مصادر "عربي بوست" أنه سيتم هدم جزء كبير من حي يعقوب المنصور العتيق، وبالضبط منطقة سانية غربية، بالإضافة إلى الواجهة البحرية للحي.
ومن بين الأحياء التي شرعت السلطات في هدمها جزء من حي المحيط، وهو حي قانوني، وستنتقل عملية الهدم إلى أحياء أخرى من بينها حي التقدم والعكاري، والفرح، والرشاد، وأبي رقراق، والانبعاث.
يعتبر حي المحيط من الأحياء السكنية الشهيرة وسط العاصمة المغربية الرباط، الذي يقع في موقع استراتيجي يطل على البحر، والذي نال جزء من عمليات الهدم.
أما بخصوص حي المحيط، فقد قدمت سلطات مدينة الرباط، حسب تصميم تهيئة المدينة الذي تتوفر "عربي بوست" على نسخة منه، عرض تعويض 13 ألف درهم للعقارات المحفظة، و10 آلاف درهم للعقارات غير المحفظة.
هذه المبالغ اعتبرتها ساكنة حي المحيط قليلة مقارنة بالسومة الشرائية في الحي، إذ يبلغ ثمن المتر مربع 30 ألف درهم (3000 دولار)، في حين أن ثمن الشقق أصبح خيالياً سواء للبيع أو الكراء.
ويرتقب إنشاء عمارات من 6 طوابق مخصصة لسكن الطبقات الغنية، فضلاً عن إقامة فنادق ومنشآت ترفيهية وسياحية، وكذا تهيئة مسار واسع للتجول بالكورنيش، علاوة على توسعة الطرقات الحالية وفتح أخرى جديدة.

جدل قانوني
من جهتها كشفت مصادر داخل مجلس مدينة الرباط أن عمليات الإخلاء في الأحياء العشوائية مثل دوار العسكر تمت بشكل قسري ودون سابق إنذار، وفي المقابل، لجأت السلطات في الأحياء غير العشوائية مثل حي المحيط إلى أساليب التفاوض والضغط.
وقدمت السلطات حسب المصادر نفسها عروضاً مالية أو وعوداً بتوفير بدائل سكنية، ولكن هذه العروض لم تكن دائمًا مقبولة من طرف السكان، الذين اعتبروها غير كافية أو غير عادلة.
ويثير هذا التدخل من السلطات عدداً من الإشكالات القانونية، إذ إن السلطات لم تلجأ إلى مسطرة نزع الملكية التي يؤطرها القانون المغربي، بل لجأت إلى التفاوض مع السكان، الذين قبل بعضهم في حين لازال البعض الآخر متشبث بمسكنه.
وتعتبر مسطرة نزع الملكية في المغرب بمثابة عملية قانونية يتم بموجبها مصادرة أو سحب ملكية عقار من صاحبه لمصلحة عامة، وتتم وفق إجراءات وخطوات يضبطها القانون، وهذه الخطوات غابت خلال عملية تأهيل بعض أحياء مدينة الرباط حسب مصادر "عربي بوست".
وبحسب فاروق المهداوي، محامي ومستشار جماعي معارض بجماعة الرباط، فإن السلطات لجأت إلى أساليب غير قانونية من أجل الاستيلاء على عقارات المواطنين خصوصاً في حي المحيط، وسط حديث عن تفويتها لمستثمرين أجانب.
وقال فاروق المهداوي في تصريح لـ"عربي بوست" إن "السلطات لجأت إلى أسلوب الضغط على المواطنين وترهيبهم من أجل بيع عقاراتهم مقابل تعويض غير عادل".
وأضاف "نحن أمام حالة شاذة في تعاطي الدولة مع ملك الأغيار، فلا نحن أمام مسطرة نزع الملكية التي تقتضي نشر المقرر المعلن للمنفعة العامة ونشر مقرر التخلي الذي يحدد العقارات بدقة.
وأضاف أن ذلك يقتضي تحديد ثمن العقار من طرف اللجنة الإدارية للتقييم وما يليها من مساطر إدارية وقضائية، كما أننا لسنا أمام مسطرة الاتفاق على تفويت العقار بالتراضي، الذي يخضع في شكلياته لمسطرة خاصة نظمها القانون".
ويبدو أن السلطات استغلت أحد بنود تصميم التهيئة، الذي نص على إحداث لجنة تحت رئاسة والي الجهة ومنحها صلاحيات واسعة، حيث "عمدت إلى تجاوز سلطة المنتخبين، ودخلت في تفاوض وضغط مباشر على الساكنة"، بحسب فاروق المهداوي.
وبحسب المعطيات المتوفرة، فإن السلطات عرضت على ساكنة حي المحيط بيع عقاراتهم مقابل 13 ألف درهم، حوالي "1300 دولار" للمتر بالنسبة للعقارات المحفظة و10 آلاف درهم، حوالي 1000 دولار للمتر للعقارات غير المحفظة.
ويبدو أن السلطات تجنبت اللجوء إلى مسطرة نزع الملكية تجنباً لدفع تعويضات مهمة، في ظل صعوبة إثبات وجود منفعة عامة واضحة، حيث أن هذه المسطرة تلزم السلطات بضرورة تحديد القيمة السوقية لتلك العقارات عبر إجراء خبرة قضائية، في ظل حديث عن أن القيمة الحقيقية لتلك العقارات تصل إلى 30 ألف درهم، حوالي 3000 دولار للمتر.
من جهته، قال عبد الصمد أبو زهير، مستشار جماعي عن حزب العدالة والتنمية إن الحزب سبق أن نبه إلى مخاوف السكان من عمليات الهدم، التي تعني مناطق بعينها.
إذ ينص تصميم التهيئة على برامج إعادة هيكلة حضرية جديدة وبناء مرافق عامة، وهو ما يعني ضمنياً إمكانية مباشرة عمليات توسعة أو هدم لا تعرف حدودها، مما يثير قلق السكان المعنيين ويساهم في تبني مواقف سلبية ومتوجسة حول هذا المشروع الحضري المهيكل من طرف المعنيين بتنزيل المشاريع.
واستغرب أبو زهير صمت رئيسة جماعة الرباط، المسؤولة من الناحية القانونية عن تنفيذ تصميم التهيئة، مبرزاً أن الطريقة التي اتبعتها السلطات غير قانونية.
مقابل ذلك، دافع إدريس الرازي رئيس مقاطعة حسان بالرباط في تصريح لـ"عربي بوست" عن لجوء السلطات إلى التفاوض مع المواطنين من أجل بيع عقاراتهم.
وقال إدريس الرازي، إن السلطات تقوم بتنفيذ تصميم التهيئة، الذي صادق عليه المجلس الجماعي للعاصمة، مضيفاً أن السلطات فضلت اللجوء إلى التفاوض والتراضي بدل سلك مسطرة طويلة.
وأشار الرازي إلى أن دافع السلطات للقيام بهذه العملية هو استعدادات المغرب لاستقبال منافسات كأس العالم، حيث يتطلب هذا الحدث توفر العاصمة على 13 ألف فندق، في حين أنها لا تتوفر حالياً سوى على 4 آلاف فندق.
من المستفيد؟
ولا تزال الجهات المستفيدة من عمليات هدم المساكن في الرباط تثير تساؤلات واسعة، حيث تلتزم السلطات الصمت حيال الكشف عن تفاصيل المستفيدين.
ومع ذلك، تشير نظرة متفحصة على تصميم التهيئة الحضرية الجديد إلى أن هذه العمليات قد تصب في مصلحة الطبقات الغنية وأصحاب رؤوس الأموال الكبيرة، الذين يسعون إلى الاستثمار في مشاريع عقارية فاخرة في مواقع استراتيجية، إذ إن بناء فنادق ومنشآت سياحية في هذه المناطق سيجعل من الصعب على محدودي الدخل السكن بها.
وبحسب فاروق المهداوي، فإن المعطيات المتداولة تشير إلى أن السلطات تسعى إلى إخلاء حي المحيط من سكانه ومحلاته التجارية، وذلك بهدف تمهيد الطريق أمام شركات خاصة من دول الخليج للاستثمار في مشاريع عقارية وفندقية فاخرة.
وأضاف المتحدث أن هذه المعطيات تثير شكوكًا حول وجود صفقات سرية تم عقدها خلال زيارات قام بها مقربون من دوائر القرار السياسي إلى دولة الإمارات في منتصف العام الماضي.
وكشف فاروق المهداوي أن المعطيات المتوفرة لديهم كمعارضة في مجلس المدينة تشير إلى أن هذه العقارات تم بيعها بأسعار مرتفعة تصل إلى 60 ألف درهم للمتر المربع.
ما يثير مزيدًا من الشكوك هو أن السلطات لم تكشف عن المشتري الحقيقي لتلك العقارات، إذ لم يتسلم الذين قبلوا عرضها أية عقود، حيث اكتفوا بالتوقيع على عقود البيع دون معرفة المشتري في أحد مكاتب أملاك الدولة بالرباط.
إصرار على البقاء
على الرغم من الضغوطات المتزايدة وعمليات الإخلاء التي تشهدها الرباط، يظهر سكان حي المحيط إصرارًا قويًا على البقاء في منازلهم، التي يعتبرونها جزءًا لا يتجزأ من تاريخهم وهويتهم.
فبالنسبة لهم، هذه المنازل ليست مجرد جدران وأسقف، بل هي ذاكرة حية تحمل بين طياتها قصص أجيال وأحداث تاريخية هامة، مبرزين أن حي المحيط يمثل إرثًا ثقافيًا وتاريخيًا يجب الحفاظ عليه، وأن إخلاءه سيشكل خسارة فادحة للمدينة.
وفي هذا الصدد، عبر العديد من المواطنين عن رفضهم إخلاء منازلهم، مؤكدين أنهم عاشوا فيها لعقود، وأنها ليست مجرد منازل بالنسبة لهم.
"أحمد"، واحد من هؤلاء الذين قطنوا حي المحيط منذ عقود، يرفض بيع منزله، ويؤكد في تصريح لعربي بوست أن "هذا البيت ورثه عن أبيه، وهو موطن ذكرياته، ولا يمكن أن يغادره مقابل تعويض هزيل"، وطالب السلطات بإيجاد بديل له في نفس الحي بدل تركه يتدبر أمره.
كما عبر العديد من المواطنين في تصريحات مصورة لوسائل إعلام محلية عن رفضهم القاطع إخلاء منازلهم، داعين السلطات المحلية إلى اتباع المساطر القانونية.
في هذا الصدد، كشف مصدر مطلع لعربي بوست أن الساكنة المتضررة تستعد لتنظيم نفسها في تنسيقية جديدة ستتولى الترافع عنهم أمام المسؤولين والقضاء.
في المقابل، استغل بعض الملاك الظروف الحالية لبيع عقاراتهم، التي كانت مؤجرة لسنوات طويلة بأسعار زهيدة، وذلك بسبب القيود القانونية التي تمنع رفع قيمة الإيجار بما يتماشى مع السوق، وهو ما خلق أزمة أخرى للمكترين، الذين وجدوا أنفسهم مضطرين للبحث عن مساكن جديدة بأسعار لا تتناسب مع دخلهم.