اتخذت الحكومة المصرية مجموعة من الإجراءات التي قالت إنها تهدف إلى تخفيف الأعباء عن المواطنين، أبرزها إقرار حزمة اجتماعية تتضمن رفع الحد الأدنى لأجور موظفي الدولة إلى 7 آلاف جنيه، وزيادة الدعم المقدم للفقراء عبر برنامج تكافل وكرامة بنسبة 25%، وزيادة المعاشات بنسبة 15%.
هذه الإجراءات تُكبد موازنة الدولة الجديدة في يوليو/تموز المقبل 200 مليار جنيه مصري، إلى جانب إجراءات أخرى قامت بها الدولة، هدفت منها إلى الحد من حالة السخط جراء زيادة قيمة الخدمات، أبرزها تقسيط مخالفات المرور عبر مبادرة يتم تطبيقها خلال شهر رمضان، ومن المتوقع استمرارها طوال العام.
يأتي هذا في وقت تشير فيه مصادر متطابقة إلى أن هذه الإجراءات الداعمة للمواطن تستبق قرارات قادمة صعبة، بينها رفع الدعم جزئياً عن بعض الخدمات، وذلك توازياً مع صرف الشريحة الرابعة من قرض صندوق النقد الدولي.
وأقدم المجلس القومي للأجور خلال الشهر الماضي على اتخاذ قرار من شأنه رفع الحد الأدنى لأجور العاملين في القطاع الخاص إلى 7 آلاف جنيه أيضاً، فيما تستعد الحكومة لصرف منحة العمالة غير المنتظمة لنحو 1.5 مليون عامل خلال هذا الشهر، وذلك بعد أن قامت بصرفها لأول مرة قبل خمس سنوات مع انتشار فيروس كورونا، وتمت زيادة قيمتها من 500 إلى 1000، ثم إلى 1500 جنيه خلال الحزمة الأخيرة.
وقبل ذلك، أعلنت الحكومة المصرية إرجاء مراجعة زيادة أسعار الوقود لمدة ستة أشهر عقب آخر زيادة في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وكذلك أرجأت زيادة أسعار الكهرباء، وجمدت جلسات الحوار الوطني المرتبطة بالتوافق على التحول من الدعم العيني إلى النقدي. ومؤخراً، قامت بإغراق الأسواق بالسلع الاستراتيجية المختلفة، وساهم ذلك في تحقيق توازن مطلوب في السوق مع بدء شهر رمضان، كما كثفت من مبادراتها التي تهدف إلى توفير السلع بأسعار مخفضة، وهو ما ساهم في ثبات أسعار اللحوم والدواجن.
الحكومة تحتاج دعم المواطنين ومواجهة حالة السخط الشعبي
قال مصدر حكومي مطلع إن إجراءات تخفيف الأعباء عن المواطنين ترتبط بعوامل مختلفة، إذ إن العام الماضي كان شاهداً على ارتفاعات كبيرة ومتتالية في أسعار غالبية الخدمات العامة التي تقدمها الحكومة، وفي مقدمتها الوقود، مما أدى إلى حالة من "السخط الشعبي تصاعدت حدتها إلى درجة أقلقت الحكومة"، على حد تعبيره، والتي بدورها قامت بتجميد إجراءات رفع الدعم عن الخدمات، انتظاراً لما ستؤول إليه اجتماعاتها مع صندوق النقد الدولي، والتي جرت في منتصف نوفمبر/تشرين الثاني الماضي.
في ذلك الحين، كان لدى الحكومة مبرراتها في إرجاء بعض القرارات التي تأتي ضمن برنامج الإصلاح، نتيجة لفقدان نصف العوائد الدولارية من قناة السويس، وكذلك تطورات الأوضاع على الحدود الشرقية مع قطاع غزة مع استمرار الحرب الإسرائيلية على القطاع، قبل أن تتوقف في يناير/كانون الثاني الماضي، بحسب المصدر المطلع على الأمور الاقتصادية بمجلس الوزراء.

وشدد على أن تكثيف إجراءات تخفيف الأعباء يأتي في ظل عدم اقتناع المواطنين بالتعديلات التي جرت على الحكومة المصرية في شهر يوليو/تموز من العام الماضي، وكان متوقعاً أن تخفف من حدة السخط الشعبي، لكن ذلك لم يحدث، خاصة مع استمرار رئيس الحكومة مصطفى مدبولي، وكان هناك قناعة بضرورة عدم الاستمرار في اتخاذ قرارات مستفزة للمواطنين أو التخفيف من حدتها، بما يساعد الحكومة على تنفيذ رؤيتها في ملفات أخرى بعيدة عن الاقتصاد، وتتعلق، مثلاً، بقطاع التعليم وإقناع القطاع الخاص في الداخل بجدوى تسهيلات جذب الاستثمارات.
وأوضح المصدر ذاته أن العامل الآخر، وهو الأكثر أهمية، الذي جعل السلطة الحاكمة تركز على إجراءات تخفيف الأعباء، يتعلق بحاجتها إلى دعم المواطنين في مواجهة تحديات خارجية تتعلق بتأمين الحدود مع قطاع غزة، ومواجهة الضغوط الأميركية والإسرائيلية بشأن التهجير، بخاصة أن مواقف النظام خلال الأشهر الماضية خلقت دعماً شعبياً غاب لفترات طويلة بسبب صعوبة الأوضاع الاقتصادية، وانغماس الحكومة في اتخاذ قرارات صعبة انعكست سلباً على واقع الحياة المعيشية للمواطنين.
ووجه الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، الجمعة، "الشكر للشعب المصري على وحدته واصطفافه بقوة خلف القيادة السياسية، خاصة خلال الظروف الاستثنائية والتحديات الإقليمية الراهنة، الأمر الذي يعكس قوة ووحدة وصلابة الجبهة الداخلية المصرية ومدى مسؤولية الشعب المصري الأصيل وحسن تقديره للأمور".
وكانت النيابة العامة المصرية قد وقّعت الأسبوع الماضي بروتوكول تعاون جديداً مع البنك الأهلي المصري (حكومي)، وينص الاتفاق على تمكين المواطنين من تقسيط قيمة المخالفات المرورية باستخدام بطاقات ائتمان البنك الأهلي المصري بدون فوائد خلال شهر مارس/آذار 2025، بمناسبة حلول شهر رمضان، على أن تتكرر المبادرة في سبتمبر/أيلول 2025 بمناسبة بدء العام الدراسي، لتخفيف الأعباء المالية عن المواطنين.
فيما قال المهندس متى بشاي، رئيس لجنة التجارة الداخلية بشعبة المستوردين بالاتحاد العام للغرف التجارية، إن انطلاق معارض "أهلاً رمضان" في مختلف المحافظات، والتي تأتي هذا العام بأسعار مخفضة تصل إلى 30% مقارنة بالأسواق، يعد خطوة تهدف إلى تخفيف الأعباء عن المواطنين وتوفير السلع الأساسية بجودة عالية وأسعار مناسبة.
قرارات الاقتصاد تخضع لاعتبارات سياسية
وأشار مصدر مطلع بوزارة المالية المصرية إلى أن قرارات استرضاء المصريين تستبق إجراءات أخرى ستكون صعبة على المواطنين مع بدء تطبيق الموازنة العامة الجديدة في شهر يوليو/تموز المقبل، إذ إن تأخر صرف الشريحة الرابعة من قرض صندوق النقد، والتي كان من المزمع تمريرها قبل نهاية العام المنقضي، كان سببه رفض الحكومة زيادة أسعار الوقود مرة أخرى خلال العام المالي الحالي، وكذلك يرتبط برفض بيع الشركات الحكومية لحين استقرار الأوضاع الجيوسياسية في المنطقة لكي يساعد على عملية تسويقها.
وأوضح المصدر ذاته أن اجتماع صندوق النقد المزمع عقده الاثنين المقبل من المتوقع أن يعتمد صرف الشريحة الرابعة من القرض الذي حصلت عليه مصر العام الماضي، غير أن ذلك سوف يترتب عليه زيادات طفيفة في أسعار الوقود خلال النصف الثاني من العام الجاري، وقد يطال الأمر أيضاً أسعار الكهرباء. كما أن مطالب الصندوق تتضمن مزيداً من المرونة في سعر صرف الجنيه، وقد يترتب على ذلك خفض قيمته ليصل إلى 52 أو 53 جنيهاً بنهاية هذا العام.

وشدد المصدر ذاته على أن هذه القرارات تخضع لترتيبات سياسية في المقام الأول، وفي حال رأت القيادة السياسية أن ذلك سيكون له تأثير سلبي على مجمل تحركاتها الخارجية، التي تكون فيها بحاجة إلى دعم المواطنين، فإنه من المتوقع أن تكون الزيادات طفيفة للغاية، أو الاتجاه على نحو أكبر للاستجابة لمطالب التخارج من المشروعات الحكومية، وإرجاء زيادات أسعار الخدمات بمعدلات كبيرة للعام القادم.
ولفت إلى أن جهات عديدة تخشى من تحول السخط إلى فعلٍ يؤدي إلى مشكلات أمنية في الداخل، وهناك قناعة بأن الضغوط التي تمارس بشأن استقبال الفلسطينيين يواكبها تحريك لإحداث حالة من الغضب الداخلي، وهو ما يجعل قرارات الاقتصاد تخضع لاعتبارات سياسية في المقام الأول، وهناك خطط مقدمة من وزارة المالية لا يتم تمريرها على مستوى الحكومة.
وأكد على أن الحكومة المصرية ما زالت ماضية في اتفاقها مع صندوق النقد الدولي وتهدف إلى الالتزام ببرنامجه، ولا ترغب في ترك هذا المسار، لكنها في الوقت ذاته تضع في اعتباراتها ردة الفعل الداخلية على قراراتها، وهو ما يجعل هناك دراسة لخطط اقتصادية مختلفة يمكن اللجوء إليها في حال تعثرت العلاقة مع المؤسسات المالية الدولية.
محاولة لإنقاذ القدرة الشرائية
قالت المتحدثة باسم صندوق النقد الدولي، جولي كوزاك، إنه من المتوقع أن يناقش المجلس التنفيذي للصندوق في 10 مارس/آذار المراجعة الرابعة ضمن برنامج تسهيل الصندوق الممدد مع مصر، إلى جانب طلبها الحصول على تسهيل المرونة والاستدامة، موضحة أن مصر ستحصل على 1.2 مليار دولار ضمن برنامج تسهيل الصندوق الممدد، وذلك بعد موافقة المجلس التنفيذي.
وأضافت كوزاك -في مؤتمر صحفي، يوم الخميس الماضي- أن حجم تسهيل المرونة والاستدامة سيبلغ حوالي 1.3 مليار دولار، مشيرة إلى أن التمويل ضمن هذا التسهيل، مثل جميع برامج صندوق النقد الدولي، يتم صرفه على دفعات وليس كمبلغ إجمالي مقدماً، حيث يتم تنفيذ البرنامج بشكل مرحلي وفقاً لتحقيق شروط محددة.
وقال خبير اقتصادي بوزارة المالية إن السبب الرئيسي في قرارات الحكومة الخاصة بتخفيف الأعباء يتمثل في إنقاذ القدرة الشرائية بعد أن تأثرت الأسواق بشكل كبير، وأضحت هناك خطورة داهمة على الاقتصاد، وفي الوقت ذاته، فإن الأشهر الماضية كانت بمثابة هدنة من المتوقع أن تنتهي مع تمرير الشريحة الرابعة لصندوق النقد، وليس من المعروف حتى الآن ما إذا كان الصندوق سوف يصرفها خلال الأشهر المقبلة أم لا. وفي كلا الحالتين، فإن الحكومة ستعمل على كسب ثقة الصندوق للاستمرار في صرف باقي الدفعات التي تصل قيمتها إلى 8 مليارات دولار.

وأضاف أن صندوق النقد لديه تحفظات عديدة على سياسات الحكومة، من بينها استمرار ارتفاع معدلات التضخم بسبب الاستمرار في طباعة النقود دون دراسة للأبعاد السلبية على وضع الاقتصاد، وكذلك فإن تحكم الحكومة في سعر صرف الجنيه يعد من المشكلات التي تؤثر سلباً على جذب الاستثمارات، وترفض الحكومة المصرية أن تتركه وفقاً لآليات العرض والطلب. وكذلك، فإن القرارات الاجتماعية تعد بالأساس استجابة لمطالب الصندوق، ومن المفترض أن يتم التوسع فيها على نطاق أكبر وفقاً لما يطالب به الصندوق.
وأشار إلى أن إجمالي المستفيدين من الحزمة الاجتماعية لا يتجاوز عددهم 20 مليون مواطن، من بينهم 4.5 مليون مواطن يعملون في الجهاز الإداري للدولة، و11 مليون مواطن يحصلون على معاشات شهرية، وكذلك العمالة غير المنتظمة ومعاش "تكافل وكرامة"، وهؤلاء لا يتجاوز عددهم 5 ملايين مواطن. فيما يبلغ عدد من يحصلون على الخبز المدعم في بطاقات التموين حوالي 70 مليون مواطن، وقد يكون هناك أكثر من 50 مليون مواطن بحاجة إلى الدعم في ظل الأوضاع الاقتصادية الراهنة.
قرارات مفاجئة للمواطنين
ومنذ مارس/آذار 2024، هبطت قيمة صرف الجنيه المصري بنسبة 62%، بينما بلغت معدلات التضخم السنوي حوالي 24% بنهاية يناير/كانون الثاني 2025، ما يعني أن الزيادة في الأجور لم تعوض حتى التآكل في القدرة الشرائية. ويواجه المصريون معدلات تضخم مرتفعة منذ أوائل 2022 في أعقاب الغزو الروسي لأوكرانيا، والذي أدى إلى سحب مستثمرين أجانب مليارات الدولارات من أذون الخزانة المصرية.
في مايو/أيار الماضي، أقرّ مجلس صندوق النقد الدولي صرف الشريحة الثالثة من برنامج دعم مصر بقيمة 820 مليون دولار، واعتمد مجلس الصندوق في نهاية مارس/آذار الماضي المراجعتين الأولى والثانية في إطار تسهيل الصندوق الممدد لمصر، ووافق على زيادة قيمة البرنامج الأصلي بنحو 5 مليارات دولار، ليصل إلى 8 مليارات دولار.
وقال نائب برلماني محسوب على المعارضة إن الحكومة المصرية اعتادت على أن تتخذ إجراءات تثير سخط المواطنين، وخلال الأشهر الأخيرة خفضت وتيرة هذه القرارات بعد أن وجدت أن الاعتراضات عليها تتصاعد بشكل كبير، لكنها لن تتوقف عن اتخاذ قرارات مفاجئة للمواطنين، والتي لن تكون في صالحهم على الأغلب. مشيراً إلى أن المضي في طريق الإصلاح الذي رسمه صندوق النقد يستلزم ذلك، وأن كثيراً من القرارات الإيجابية، مثل تسهيل إجراءات التصالح في مخالفات البناء وكذلك إصدار التراخيص الخاصة بالبناء، يتم تطبيقها وفقاً لأهواء الأجهزة المحلية، دون أن يرتبط الأمر بسياسات عامة حكومية.
وأوضح أن الحكومة اعتادت على أن تصمت لفترة ثم تعود لاتخاذ إجراءات تثير غضب المواطنين، وحينما تتزايد موجات الانتقاد، تعود للخفوت مرة أخرى. مشيراً إلى أن تطبيق الحد الأدنى للأجور يعد منطقياً في ظل تآكل قيمة الجنيه وتراجع القدرة الشرائية. وأن المصريين يفرقون بشكل جيد بين الدعم الذي يقدمونه إلى الدولة في مواقفها الخارجية تجاه المشكلات والأزمات التي تهدد الأمن القومي، وبين أداء الحكومة الخدمي والاقتصادي، الذي ما زال يعاني من عدم القبول من غالبية المواطنين.