في زمنٍ يبحث فيه البشر عن المعرفة والفهم، يواصل الإعلام الغربي التعامل مع الأحداث الدولية بمنطق ازدواجي يفتقر إلى أبسط مقومات العدالة. فرغم تمتّع هذه المؤسسات بتاريخ طويل في صناعة الأخبار وادعائها تبنّي الموضوعية، تبقى تغطيتها للصراعات، كالحرب على غزة، رهينةً لعدسة استعمارية تكرّس روايات القوى المهيمنة، متجاهلةً معاناة الشعوب المحتلة ومبرّرةً لجرائم الاستعمار. تُعيد إنتاج الظلم عبر تصوير العدوان كدفاع مشروع والنضال من أجل التحرر كإرهاب. وفي غزة، ظهر هذا التحيّز في تبنّي الرواية الإسرائيلية ونزع الإنسانية عن الفلسطينيين وتجاهل تاريخ وسياق القضية الفلسطينية بأكملها.
فمنذ اندلاع حرب الإبادة الوحشية على غزة، يُمكن العثور على آلاف الأمثلة التي تُظهر التحيّز الصارخ في الإعلام الغربي. ولنأخذ مثالاً بسيطاً من صحيفة نيويورك تايمز، حيث يقول عنوانٌ: "الحرب والأمراض قد تقتل 85 ألف فلسطيني في غزة خلال ستة أشهر". ببرودٍ مريع، قرر محررو الصحيفة التغاضي عن ذكر أن الكارثة المحتملة من الأمراض ونقص المياه والموت المتفشّي نتيجة مباشرة لآلة الحرب الإسرائيلية التي تقصف غزة من البر والجو والبحر، مع حصار خانق يستمر منذ شهور، بل سنوات. وكأن محرري الصحيفة يحاولون تحميل غزة بمن فيها وزر ما يحدث، وتبييض وتبرئة المحتل بعدم ذكر اسمه في العنوان.
هذا الإغفال ليس سوى مثال فَجٍّ على كيفية تناول الأخبار بمنظور يسعى لإعماء الناس وليّ الحقيقة، ليُعامل الفلسطينيون كضحايا لسوء الحظ العارض والكوارث الطبيعية. لتتحول الأمطار التي تهطل ماءً طبيعيًا في أنحاء العالم لقنابل أمريكية الصنع في غزة، وكأن السماء هناك استثناء لظاهرة طبيعية تمطر دمارًا بدلًا من الماء.
في هذا التقرير سنوضح كيف تساهم الصحافة الغربية "الاستعمارية" في التغطية على جيش الاحتلال الإسرائيلي بينما يمضي في إبادة الفلسطينيين.
نزع الإنسانية عن الفلسطينيين
مع بثّ الإبادة الجماعية على الهواء مباشرةً على شبكات التواصل الاجتماعي، بات من الصعب تبرير جرائم جيش الاحتلال الإسرائيلي، لذا حاولت أغلب وسائل الإعلام الغربية تمييع الحرب ووضعها في قوالب أخرى، أو بمعنى أصح دفن رؤوسها في الرمال، فباتت تتبع آلية ممنهجة لنزع الإنسانية عن الفلسطينيين. فبعد مرور الأسبوع الأول من الحرب، سجّلت الإحصاءات أن حصيلة القتلى الفلسطينيين قد تجاوزت تلك الإسرائيلية المُعلَنة من قبل دولة الاحتلال. مع ذلك، فإن تكرار ذكر الفلسطينيين في الإعلام الغربي ظل نادراً.
وأظهرت دراسة أجراها موقع "أكريميد/ Acrimed" للصحافة الاستقصائية أن صحفاً مثل لوباريزيان، ولوفيغارو، وليبراسيون، ولوموند، خصّصت عدداً أقل بكثير من الأخبار التي نُشرت على صفحاتها الأولى لمجزرة غزة الراهنة مقارنةً بيوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول. وينطبق الشيء نفسه على المقابلات الصباحية التي أجرتها قناة "فرانس إنتر".
وفي تحليل كمي لموقع "إنترسيبت/ The intercept"، راجع موقع التحقيقات الأميركي أكثر من ألف مقال في ست من كبريات الصحف الأميركية، شملت نيويورك تايمز، وواشنطن بوست، وغيرها، وخلص إلى أن التغطيات كانت منحازة لـ"إسرائيل" على الأقل في الأسابيع الأولى للحرب.
والأدهى من ذلك هو طريقة وصفهم في النقل الإخباري، التي تهدف إلى تصوير الضحايا الفلسطينيين "أقل إثارةً للاهتمام". فقد قام علماء البيانات دانا نجار ويان ليتافا، في دراسة بتحليل ما مجموعه 600 مقال و4000 منشور مباشر على موقع "BBC" على شبكة الإنترنت بين السابع من أكتوبر/تشرين الأول والثاني من ديسمبر/كانون الأول، وجدا تبايناً منهجياً في كيفية التعامل مع الوفيات الفلسطينية والإسرائيلية. وقد سجل التقرير، الذي نشرته الصحافية منى شلبي، الصحفية الإنجليزية من أصل عراقي والكاتبة في الغارديان، أن صحفيي هيئة الإذاعة البريطانية "BBC" اتبعوا نمطاً في التغطية يميل إلى استخدام أوصاف مُجهّلة مثل "أناس" أو "أشخاص"، أو حتى تجاهل ذكر المبتدأ كلياً، كما في الجملة: "150 ماتوا اليوم في غزة جرّاء العمليات الإسرائيلية العسكرية". في المقابل، تُصوّر التقارير القتلى الإسرائيليين بأسماء وأوصاف تعكس علاقاتهم الأسرية والاجتماعية مثل "أم"، و"جدة"، و"صديق"، و"أخ"، و"ابن"، و"حفيدة".
BBC News has shown a clear bias, giving Israeli victims more coverage and more compassion than Palestinian victims. pic.twitter.com/bUbXAspr9M
— Mona Chalabi (@MonaChalabi) December 29, 2023
هذا التفاوت في العرض يُظهر نزع الإنسانية عن الفلسطينيين بشكل متعمد، من خلال تصوير الفلسطينيين كمجرد "أناس" أو "أشخاص" دون علاقات أسرية أو اجتماعية معينة؛ ما يجعل من الصعب على المتلقي تكوين أي رابط إنساني أو شعور بالتعاطف تجاه معاناتهم، وكأن هذه الأرواح البشرية المفقودة قد جاءت من العدم وعادت إليه.
عمل مدير "BBC" للشرق الأوسط مع الموساد الإسرائيلي
وهذا ليس غريباً، فوفقاً لمقال لأحد صحفيي "BBC" في مجلة جاكوبين الأمريكية، يخشى المحررون في هيئة الإذاعة البريطانية توبيخ رؤسائهم بسبب تقارير لا تروق للحكومة الإسرائيلية، وهو الأمر الذي دفع الهيئة إلى الامتناع باستمرار عن الإبلاغ عن كامل أهوال الحرب الإسرائيلية على غزة.
في أحدث فصل من مسلسل انحياز "BBC" للسردية الإسرائيلية، نشرت منصة MintPress تقريراً موسعاً للصحافي البريطاني أوين جونز، يكشف فيه دور رافي بيرغ، رئيس تحرير قسم "الشرق الأوسط" في "BBC"، في توجيه التغطية الإعلامية لخدمة السردية الإسرائيلية، متجاهلاً الانتهاكات والجرائم المرتكبة بحق الفلسطينيين.
كشف التقرير كيف يدير بيرغ تغطية الأحداث في المنطقة بدقة مدروسة، متحكماً في صياغة العناوين والنصوص وحتى اختيار الصور بما يتماشى مع وجهات النظر الإسرائيلية. ووفقاً لما أفاد به التقرير، فإنّ "مدى القوّة التي يتمتّع بها بيرغ مخيف"، علماً أنّه يملك صلاحيّات رفض المحتوى أو إعادة صياغته، وغالباً ما يُقصي وجهات النظر الفلسطينية. ويبدو أن ذلك ليس مبالغة، فخلال شهر نوفمبر/تشرين الثاني الماضي 2024، اتهم أكثر من 100 موظف في هيئة الإذاعة البريطانية بتقديم تغطية إيجابية لإسرائيل في تقاريرها عن حرب الاحتلال على قطاع غزة.
تمكن جونز في تقريره من التعمق وتتبع حياة بيرغ، فكشف أنّ بيرغ درس "الدراسات اليهودية والإسرائيلية" في الجامعة العبرية في القدس. وشارك، في ذروة العدوان الإسرائيلي على غزة عام 2009، في تظاهرة مؤيدة لـ"إسرائيل" في وسط لندن.
كما كشف التقرير عن تعاون بيرغ مع الموساد الإسرائيلي ووكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (CIA). وفقاً للتقرير، تعاون بيرغ بشكل مباشر مع قائد الموساد داني ليمور أثناء تأليف كتابه جواسيس البحر الأحمر، الذي يمدح فيه جهاز الموساد ويصفه بأنه "أعظم جهاز استخبارات في العالم".
وأقرّ بيرغ بنفسه في مقابلة مصورة بقضائه أكثر من مئة ساعة مع ليمور خلال إعداد الكتاب. وتظهر في المقابلة المصورة خلفية مكتب بيرغ المليئة بصور مؤطرة له مع مسؤولين بارزين من الموساد والحكومة الإسرائيلية، بمن فيهم داني ليمور والمتحدث السابق باسم مكتب رئيس الوزراء مارك ريجيڤ. كما تظهر رسالة شكر من يائير نتنياهو، ابن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، تحمل توقيعه وتعبّر عن الامتنان لدعم بيرغ.
ليست هيئة الإذاعة البريطانية (BBC) وحدها التي تُتهم بالانحياز الفج في تغطيتها للحرب على غزة. في كتابه " السابع من أكتوبر: تقصّي حقائق وأكاذيب اليوم الذي غيّر العالم"، يقدم الصحافي البلجيكي ميشيل كولون، بالتعاون مع جان بيير بوشي، نقداً إعلامياً دقيقاً لكيفية معالجة الإعلام الأوروبي، وخاصة الناطق بالفرنسية، لهذا اليوم الفارق في تاريخ القضية الفلسطينية. يكشفان في كتابهما عن كثير من النتائج التي توصّلا إليها في ما يخصّ التغطية الإعلامية الغربية المشينة للإبادة الجماعية التي تشنّها إسرائيل منذ ما يزيد على العام ضد قطاع غزة، قبل أن تتوسّع اليوم لتشمل لبنان واليمن وسوريا والعراق وإيران.
فعبر استعراض مئات المواد المرئية والأرشيفية، يكشف المؤلفان عن تواطؤ هذه المنصات الإعلامية في الترويج لسردية إسرائيلية متحيزة، تصف الفلسطينيين بأنهم معتدون، بينما تُمنح إسرائيل حق الدفاع عن النفس تحت ذريعة "حرب الحضارة ضد البربرية"، كما يروّج بنيامين نتنياهو، المطلوب دولياً بتهم ارتكابه جرائم حرب.
ويشرح الكاتبان كيف أنه قبل السابع من أكتوبر/تشرين الأول، كان ذكر الفلسطينيين قد اختفى تقريباً من نشرات الأخبار التلفزيونية الأوروبية، رغم أن عام 2023 قد أصبح بالفعل أكثر الأعوام دموية للفلسطينيين في الضفة الغربية المحتلة، حيث قُتل ما يقرب من 200 شخص، من بينهم 43 طفلاً وامرأة واحدة، معظمهم بنيران قوات الأمن الإسرائيلية، وثمانية منهم على الأقل على يد مستوطنين. إضافةً إلى ذلك، تم اعتقال واحتجاز أكثر من 2000 فلسطيني في عمليات قاسية شملت مختلف أنحاء الضفة الغربية، وكل ذلك قبل السابع من أكتوبر/تشرين الأول.
لكن بعد ذلك التاريخ، أصبحت المنصات الغربية منابر لتبرير البشاعات، كما يظهر في تصريحات مثل تلك التي أطلقتها الكاتبة سيلين بينا، التي اعتبرت فيها أن "العاطفة لا يمكن أن تساوي بين الضحايا". وفي مارس/آذار 2024، بينما كانت المجازر تطال آلاف النساء والأطفال الفلسطينيين، خرج الفيلسوف القانوني برنار هنري ليفي ليقول: "نادرًا ما رأيت جيشًا مهتماً إلى هذا الحد، في حرب مروعة، بتجنب سقوط ضحايا من المدنيين"، في محاولة لتجميل صورة العدوان الإسرائيلي، رغم مشاهد الإبادة الجماعية التي تدمي العين.
ما السبب وراء هذا الانحياز وغياب المهنية؟
أيدلوجية استعمارية
تصف الصحفية فاديا كريشنان هذا النهج من الصحافة المنحازة بـ"صحافة المستعمرين"، حيث يمارسها صحفيون من بلدان استعمارية يفتخرون بفتوحاتهم الإمبريالية ويتمتعون بإحساس عالٍ بالذات. تغذّي كل ألياف هذه الصحافة قروناً من التراكم المفترس للثروة والمعرفة والامتيازات.
ووفقاً لفاديا، يبدو أن بعض هؤلاء الصحفيين مقتنعون بأن بلدانهم حاربت وهزمت أعداء أقوياء وغير أخلاقيين على مر التاريخ، وأوقفت الشر في مساره، وحمت الحضارة، وأنقذت الحاضر. هذه هي الرواية السائدة في الغرب، وبالتالي هي أيضاً رواية الصحافة الغربية.
ويبدو أن كلام فاديا ليس مبالغة، إذ يرى أستاذ الصحافة دايا ثوسو، من جامعة هونغ كونغ المعمدانية، الذي قضى ثلاثة عقود يدرس الصحافة والاتصال في جامعة غولدسميث البريطانية وركز في أبحاثه على الهيمنة والانحياز الغربيين في الإعلام، أن هذا "انحياز بنيوي". ويرجع ذلك إلى بنية ذهنية استعمارية تشكل العمود الفقري لما يصفه بـ"وسائل الإعلام المسؤولة عن وضع أجندة الأخبار في العالم" (Agenda-setting media).
استمدت المؤسسات الإعلامية الكبرى، مثل رويترز البريطانية، والوكالة الفرنسية للأنباء، وأسوشييتد برس الأميركية، وبي بي سي، ونيويورك تايمز، وواشنطن بوست، نفوذها العالمي من إرث طويل في صناعة الإعلام ومن سمعتها المهنية الراسخة في تغطية القضايا المحلية. وإلى جانب انتمائها إلى الدول العظمى التي وضعت أسس النظام الدولي الحالي، أصبحت هذه المؤسسات النموذج المثالي للممارسين الإعلاميين والجمهور على مستوى العالم.
لقد تحولت هذه المؤسسات إلى مصانع لإنتاج الأخبار ومُحدِّدات للأجندات الخبرية، حيث تعتمد غالبية وسائل الإعلام على اشتراكات في خدماتها للحصول على الأخبار العاجلة، إلى جانب المواد الصوتية والمرئية المصاحبة، وفقاً لتقرير معمق لموقع حبر.
وقد نشأت الصحافة الحديثة في الغرب مع اختراع التلغراف في منتصف القرن التاسع عشر، مما أتاح ولادة وكالات الأنباء الدولية، مثل وكالة رويترز البريطانية التي اتخذت من لندن، عاصمة الإمبراطورية الاستعمارية، مقرًا لها.
ومع توسع النفوذ البريطاني في العالم، نمت رويترز جنبًا إلى جنب مع هذا التوسع، حيث صُممت سياساتها التحريرية لخدمة الاحتياجات الاستعمارية، كما يوضح دايا ثوسو في ورقة أكاديمية نشرها عام 2022 في مجلة الدراسات الصحفية التابعة لأكسفورد.
مع تطور وسائل الإعلام، انتقلت الوكالات والإذاعات والمحطات التقليدية إلى عصر الأقمار الصناعية مع بداية التسعينيات، وهو مجال فرضت الدول الغربية هيمنتها عليه. بحلول عام 2020، كانت ملكية أكثر من 300 قمر صناعي تدور حول الأرض تتركز في أيدي شركات غربية كبرى مثل إنتل ساتوشركات دفاع أميركية مثل لوكيد مارتن، وبوينغ، وهيوز، التي تسيطر مجتمعة على 70% من أقمار الاتصالات الثابتة. ومع توسع استخدام الكوابل البحرية، عززت شركات أميركية مثل فيرايزون وسَب كوم سيطرتها على الجزء الأكبر من هذه البنية التحتية العالمية.
واليوم، مع الانتقال إلى العصر الرقمي، أصبحت شركات مثل غوغل، وفيسبوك، وأمازون الأميركية تسيطر، سواء عبر الاستئجار أو الملكية المباشرة، على 50% من النطاق الترددي (الحد الأعلى لنقل البيانات في الشبكة أو اتصال الإنترنت) لتزويد الإنترنت عبر المحيطات.
بعبارة أخرى، لم يقتصر نفوذ الغرب على البيانات والبرمجيات والأخبار، بل امتد إلى الهيمنة على البنية التحتية التي تُمكِّن من إيصالها. خلق ذلك ما بات يسمى في بعض الدوائر الأكاديمية "إمبريالية المنصات"، كما وصفه الباحث دال يونغ جين في ورقة علمية نُشرت في عام 2013.
وشهد العالم بوضوح الدور المتقاطع الذي لعبته وسائل التواصل الاجتماعي الغربية، وعلى رأسها شركة "ميتا" (فيسبوك)، في تعزيز التغطيات الإعلامية المنحازة، حيث قامت بإسكات الأصوات الداعمة لفلسطين وحقوق الإنسان على منصاتها مثل إنستغرام وفيسبوك. وبرزت موجة من الرقابة المشددة على المحتوى المتعلق بالقضية الفلسطينية، وفقًا لتقرير نشرته منظمة "هيومن رايتس ووتش".
ويؤكد ثوسو أن تغطية غزة مثال صارخ على هذا الانحياز البنيوي، إذ يقول: "ثمة تاريخ طويل لتمثيل هذه المؤسسات لمصالح السياسة الخارجية لبلدانها سابق على غزة؛ من فيتنام، وأميركا اللاتينية، إلى العراق وأفغانستان. لك أن تنظر للطريقة التي يقدمون بها الصين أو روسيا أو الهند اليوم".
ينطبق هذا النمط من الانحياز على العديد من المنصات الإعلامية الغربية، ومنها هيئة الإذاعة البريطانية BBC، التي تتأثر بارتباطاتها المؤسسية الوثيقة بأفكار الهيمنة الغربية. تعاني BBC من عجز متأصل ناتج عن قربها من دوائر السلطة البريطانية، ما يجعلها أكثر عرضة للتأثر بالأجندات السياسية المرتبطة بالمصالح الصهيونية، كما أشار أحد محرريها. هذا الارتباط الوثيق ينعكس على سياساتها التحريرية، مما يعزز انحيازها البنيوي في معالجة القضايا الدولية، ولا سيما القضية الفلسطينية.
قمع المال للإعلام
على الرغم من احتجاج عدد من الصحافيّين الغربيين ضد الانحياز السافر لمنابرهم الصحافية التي تقف إلى جوار الاحتلال، إلا أن التغطية الإعلامية للحرب لم تتغيّر. ففي أوروبا، على سبيل المثال، ربما نفهم ذلك حين نعرف أن كل شركة تقريباً من الشركات الأربعين المتصدرة في بورصة باريس لديها أعمال استثمارية ضخمة في إسرائيل، ثلاثة منها يملكها مليارديرات يسيطرون على وسائل الإعلام الفرنسية، جاء ذكرهم في أحد فصول كتاب ميشيل كولون:
- من خلال شركة هافاس Havas، استحوذت مجموعة بولوريه Bolloré (المالكة لقنوات: "سي نيوز CNews، وأوروبا 1، وباريس ماتش) على وكالة الإعلانات الإسرائيلية "إنبار ميرهاف ج"، وشبكة Blink، التي تعد أكبر منصة تواصل اجتماعي في إسرائيل اليوم، ويقول نجله يانيك بولوريه، الرئيس التنفيذي لمجموعة هافاس، سادس أكبر مجموعة اتصالات في العالم: "إسرائيل هي رائدة الابتكار وريادة الأعمال في العالم".
- لطالما زودت مجموعة داسو Dassault (المالكة لصحيفة لوفيغارو) إسرائيل بالطائرات الحربية، حتى ضد أي حظر دولي، ولديها مكاتب وشركات تابعة لها في إسرائيل، وقد صرّح الرئيس التنفيذي لوران داسو: "أنا داسو الذي عاد إلى إسرائيل، أنا من العائلة التي تذهب إلى هناك للاستثمار، ومن أشد المناصرين لإسرائيل".
- يمتلك برنار أرنو (المالك لصحيفتي: Les Echos وLe Parisien)، شركة لوريال، أكبر شركة مستحضرات تجميل في إسرائيل، ومن خلال شركته التابعة سيفورا/ Sephora، يسوّق منتجات المستوطنات الإسرائيلية على الأراضي العربية، ويستثمر أيضًا في شركة ويز Wiz الإسرائيلية للأمن الإلكتروني.
وفي الولايات المتحدة، يشير الاقتصادي والمفكر الأميركي إدوارد هيرمان، في ورقة علمية نشرتها مجلة الشؤون الدولية عام 1993، إلى تدخل الحكومة في "إدارة الأخبار"، حيث نادراً ما تُشاهد حملات إعلامية تتحدى الدعاية الحكومية، خاصة فيما يتعلق بالسياسة الخارجية. ووفقاً لهيرمان، تُوظف السلطات الأميركية "أسلحة إيديولوجية" لضمان "الإذعان الإعلامي"، الذي لا يقتصر على تبني الرواية الرسمية، بل يشمل أيضاً قمع الصحفيين الذين يسعون لتأدية عملهم بمهنية.
هذا الإذعان يرتبط بجماعات الضغط الصهيونية، كلجنة الشؤون العامة الأميركية الإسرائيلية (AIPAC)، الصهاينة المسيحيين، والمقاولين العسكريين، الذين يمارسون نفوذهم المالي لفرض أجنداتهم. تبدأ هذه العملية بضغط جماعات الضغط الصهيونية على السلطات الأميركية، مستغلة حاجتها لتمويل الحملات الانتخابية. بدورهم، ينقل أفراد السلطة في الكونغرس والبيت الأبيض هذا الضغط إلى وسائل الإعلام، لتبني رواية اللوبي وتوجيه الرأي العام.
وتُعزز هذه الهيمنة الإعلامية من خلال التركز الشديد في الملكية؛ إذ تسيطر خمس شركات متعددة الجنسية على أكثر من 1400 صحيفة يومية، وستة آلاف مجلة، وعشرة آلاف محطة إذاعية وتلفزيونية، وأكثر من 2500 دار نشر، وفق دراسة للمحلل الإعلامي بن باجديكيان نُشرت في عام 2014. هذا التركز يُنتج موقفاً تحريريّاً متشابهاً بين مئات وسائل الإعلام، حيث تخضع السياسات التحريرية لمعادلة رأس المال، الذي يرتبط بمصالح معقدة مع الطبقة السياسية الأميركية.ورغم التحيز المتفشي لصالح الاحتلال الإسرائيلي من قبل الحكومة الأميركية ووسائل الإعلام التابعة للشركات، أظهر الجمهور الأميركي تعاطفاً متزايداً مع الفلسطينيين. فقد كشف استطلاع للرأي أجراه المعهد العربي الأميركي في نوفمبر/تشرين الثاني أن 63% من الأميركيين يؤيدون وقف إطلاق النار، بينما يعتقد 55% أن الولايات المتحدة لا ينبغي أن تقدم مساعدات مالية وعسكرية غير مشروطة لحكومة الاحتلال.