لطالما كانت أوروبا رمزًا للازدهار الاقتصادي والسياسي، لكنها اليوم تواجه تحديات غير مسبوقة تعصف بأسس استقرارها. من شوارع لندن إلى برلين وأروقة باريس، ومن أزمات الطاقة إلى الانقسامات السياسية، تُظهر القارة العجوز صورة معقدة لأزمات متداخلة يصعب فك خيوطها.
في بريطانيا، التي كانت يومًا وجهةً عالمية للابتكار والنمو، تعيش اليوم ما يُعرف بـ"العقد الضائع"، مع نمو اقتصادي هزيل وتوترات اجتماعية متصاعدة. أما فرنسا، فتترنح تحت وطأة دين عام متضخم وأزمات سياسية تعزز الانقسامات الداخلية. وعلى الجانب الآخر، تجد ألمانيا، القوة الاقتصادية الأولى في أوروبا، نفسها في مأزق مشابه. أزمة الطاقة، وتراجع الإنتاج الصناعي، والتوترات الجيوسياسية تركت أثراً بالغاً على اقتصادها القوي، ما أثار تساؤلات حول قدرتها على الحفاظ على ريادتها في القارة.
بينما تكافح الدول الأوروبية الكبرى لتجاوز أزماتها، يزداد نفوذ القوى الشعبوية واليمينية المتطرفة، ما يعقّد الجهود لإيجاد حلول فعالة. هذا التقرير يستعرض الأزمات المتشابكة التي تضرب أوروبا اليوم، من التدهور الاقتصادي والاجتماعي، إلى تأثير الأحداث الجيوسياسية الكبرى، مثل الحرب الأوكرانية وصدمات الطاقة، مسلطين الضوء على بريطانيا، فرنسا، وألمانيا، كمحاور رئيسية لصراع الاستقرار في القارة.
ماذا يحدث لأكبر اقتصادات أوروبا؟
في مذكرة تفصيلية تبلغ نحو 400 صفحة، أصدر ماريو دراغي، الرئيس السابق للبنك المركزي الأوروبي ورئيس الوزراء الإيطالي السابق، تحذيرات شديدة اللهجة بشأن التدهور الاقتصادي المتزايد في القارة العجوز، وأن الاتحاد الأوروبي يحتاج إلى استثمار يتراوح بين 750 و800 مليار يورو سنويا، أي ما يصل إلى 5% من الناتج المحلي الإجمالي، وإلا فسوف تعاني أوروبا من موت بطيء، على حد تعبيره.
هذه النسبة من النمو تزيد كثيرا عن نسبة 1-2 % من الناتج المحلي الإجمالي للاتحاد الأوروبي في خطة مارشال لإعادة بناء أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية.
ويبدو أن دراغي لا يبالغ، إذ أتى هذا التحذير وسط أمثلة ملموسة على التدهور الاقتصادي بالقارة، فبعد أقل من ثلاث شهور من إصدار تحذيراته، انهارت حكومتا أكبر اقتصادين في أوروبا ألمانيا وفرنسا، بعد حجب الثقة عنهما.
ألمانيا
قبل ثلاث سنوات فقط تركت ميركل ألمانيا في مواجهة تحديات غير مسبوقة، فإلى جانب الآثار الاقتصادية لجائحة كورونا والحرب في أوكرانيا، تواجه البلاد صعوداً لليمين المتطرف لأول مرة منذ الحرب العالمية الثانية، وحكومة ائتلافية هشة تفككت مؤخراً بعد فشلهم في التوصل لاتفاق على الميزانية وكيفية إنعاش أكبر اقتصاد في أوروبا والذي يتعرض للانكماش للعام الثاني على التوالي.
ومع التغيرات في المشهد العالمي و عودة دونالد ترامب للرئاسة الأميركية، باتت ألمانيا ومن ورائها أوروبا أمام مستقبل مربك وإرادة سياسية ضعيفة.
في هذا العام، قدمت كبرى المعاهد الاقتصادية الألمانية تقريراً قاتماً يتوقع انكماش الاقتصاد الألماني، ما يؤشر لتغيير جذري في حالة الرفاه التي طالما تمتع بها الألمان. فووفقاً لبعض التقارير الاقتصادية، يعاني الاقتصاد الألماني من ركود يتجلى في أزمات تصيب كبرى الصناعات، خاصةً قطاعي السيارات والكيماويات، وهما عمودا الاقتصاد الألماني.
أسباب الأزمة الألمانية
أدت الحرب الأوكرانية إلى انقطاع إمدادات الغاز الروسي الرخيص، الذي كان داعماً رئيسياً للصناعة الألمانية لعقود، مما أرهق الصناعات الألمانية بشكل كبير. و الحلول البديلة، مثل الغاز المسال ومصادر الطاقة الأخرى، باتت تثقل كاهل الاقتصاد الألماني نتيجة ارتفاع التكاليف، ما أدى إلى تضخم عام وزيادة في أسعار الطاقة. ووفقاً لتقرير من DW، فإن محاولة ألمانيا التحول إلى الطاقة النظيفة واتباع معايير صديقة للبيئة زادت تكاليف الإنتاج، وأثرت على تنافسية المنتجات الألمانية في الأسواق العالمية.
بالإضافة لذلك، ذكر معهد روبرت كوخ للدراسات أنّ ألمانيا تعاني منذ سنوات من نقص حاد في اليد العاملة في مختلف قطاعات الحياة، وأنّ هناك أسبابا مختلفة لهذا النقص فكثير من الألمان غير مقتنع بفكرة الإنجاب، ما أدى إلى ارتفاع نسبة الشيخوخة، حيث أن واحداً من كل خمسة أشخاص في ألمانيا يزيد عمره عن 66 عاماً، مما يكهل الميزانية و يهدد مدفوعات صندوق التقاعد في البلاد، بالإضاف إلى هجرة عدد كبير من الألمان والاستقرار في بلدان أخرى مثل إسبانيا أو سويسرا و أميركا.
ولمواجهة تحدي نقص اليد العاملة، اتجهت ألمانيا إلى الاستفادة من خبرات اللاجئين الذين وصلوا منذ عام 2015، حيث أسهموا وأبناؤهم في سد بعض الفجوات في سوق العمل. ورغم ذلك، تظل ألمانيا بحاجة إلى المزيد من العمالة، وهي حاجة قد تغطيها الهجرة. لكن تزايد شعبية حزب "البديل" اليميني المتطرف يثير قلق المجتمعات المهاجرة والأقليات في البلاد؛ فالحزب يروج في برامجه الانتخابية لسياسات تهدف إلى تقييد الهجرة وتعزيز الهوية القومية التقليدية، مما يهدد بزيادة التمييز والعنصرية.
وقد أظهرت نتائج الانتخابات الإقليمية الأخيرة صعودًا غير مسبوق لليمين المتطرف منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، خاصة في الولايات الشرقية التي تعاني من مشاكل اقتصادية واجتماعية. هذا التحول في ميول الناخبين، يرى العديد من المحللين أن سيساهم في تعقيد الأزمة الاقتصادية في البلاد.
اثار ملموسة
وقد باتت أثار التراجع الاقتصادي في ألمانيا واضحة أكثر من أي وقت مضى، ففي هذا العام، قدمت كبرى المعاهد الاقتصادية الألمانية تقريراً قاتماً يتوقع انكماش الاقتصاد الألماني، ما يؤشر لتغير جذري في حالة الرفاه التي طالما تمتع بها الألمان. وووفقاً لبعض التقارير الاقتصادية، يعاني الاقتصاد الألماني من ركود يتجلى في أزمات تصيب كبرى الصناعات، خاصةً قطاعي السيارات والكيماويات، وهما عمودا الاقتصاد الألماني.
فعلى سبيل المثال، أعلنت شركة فولكسفاغن، والتي كانت تساهم بنسبة 15.4% من إجمالي الصادرات، و تُعتبر واحدة من أكبر مشغلي العمالة في البلاد بـ650 ألف موظف، عن تراكم إنتاج يزيد على 500 ألف سيارة غير مباعة. وقد صرح رئيس الشركة بأن ألمانيا تشهد تراجعاً في القدرة التنافسية على الصعيد العالمي، خصوصاً أمام الصين، التي أصبحت السوق الأكبر والأكثر نمواً للسيارات الكهربائية.
لم يقتصر تراجع صادرات ألمانيا على السوق الصينية فحسب، بل شهدت الصين تقدماً مذهلاً، إذ ارتفع تصديرها للسيارات من أقل من مليون سيارة قبل عام 2020 إلى 2.5 مليون سيارة في عام 2022، متفوقةً لأول مرة على ألمانيا في عام 2023.
وهذا التقدم السريع للصناعة الصينية أضر بالصادرات الألمانية، والتي كانت تصل في 2017 إلى أكثر من 4 ملايين سيارة. والأكثر من ذلك، بدأت الصين تنافس ألمانيا داخل السوق الأوروبية، مما دفع شركة "سيكست" الألمانية، لتأجير السيارات، لطلب شراء 100 ألف سيارة من الشركة الصينية BYD.
ولا تقتصر الأزمة على قطاع السيارات فقط؛ إذ تواجه الصناعات التقليدية الألمانية تهديدات جديّة بالانكماش أو حتى الاختفاء. فوفقاً لتقرير نشرته DW الألمانية، تعاني صناعة الكيماويات – أحد الأعمدة الأساسية للاقتصاد الألماني – من صعوبات متزايدة، حيث لم يعد أكبر مجمع كيميائي في أوروبا، BASF، والذي يعد أيضاً الأكبر إنتاجاً في العالم، مربحاً كما كان في السابق. هذه التحديات دفعت الشركة إلى إغلاق عدة مصانع داخل ألمانيا، في محاولة لتقليص الخسائر الناجمة عن ارتفاع تكاليف الإنتاج وانقطاع الإمدادات الرخيصة من الطاقة التي كانت تصل من روسيا.
إضافةً إلى ذلك، حذّر خبراء اقتصاديون من أن تفاقم قوة اليمين المتطرف قد يزيد من أزمة نقص العمالة الماهرة في شرق البلاد، مما قد يدفع الشركات إلى نقل أعمالها خارج المنطقة. ففي تقرير لـ DW، أشار رئيس اتحاد النقابات العمالية في ساكسونيا إلى أن التطرف اليميني كان في تزايد مستمر لسنوات، مما يعقد من معالجة أزمة العمالة. كما أوضح أنه مع تقاعد نحو 300 ألف عامل في ساكسونيا خلال السنوات العشر المقبلة، ستتسع فجوة العمالة، ما يستدعي الاعتماد على العمالة الماهرة الأجنبية، بجانب توظيف الرقمنة في مجالات أخرى لسد هذا النقص.
أعباء الناتو وعودة ترامب
إضافة إلى الأزمات الاقتصادية الداخلية، تعاني ألمانيا من ضغوط خارجية مرتبطة بكلفة الحرب الأوكرانية والتوترات الأمنية المتصاعدة في أوروبا. فقد وجدت ألمانيا نفسها مضطرة إلى زيادة إنفاقها العسكري تماشياً مع التهديدات الأمنية وتلبية لمتطلبات حلف الناتو التي بلغت 2% من الناتج المحلي الإجمالي هذا العام. يُعزز هذا القرار مخاوف برلين من احتمالات تراجع التزام الولايات المتحدة بالحلف، خاصةً بعد عودة دونالد ترامب إلى السلطة وتهديداته السابقة تجاه الناتو، حيث كان قد هدد بتقليص دعم واشنطن للحلف إن لم تلتزم الدول الأعضاء بزيادة إنفاقها الدفاعي.
تشكل هذه العوامل ضغطاً إضافياً على ألمانيا، إذ تُجبرها على إعادة توزيع الموارد من دعم القطاعات الحيوية إلى تعزيز الإنفاق العسكري، في وقت تواجه فيه البلاد أصلاً تحديات اقتصادية وصناعية كبرى، مما يعمّق الأزمة ويزيد من تعقيد مسار الحل.
إيجاد حل لأزمة ألمانيا الحالية يبدو معقداً ويواجه صعوبات حقيقية، خاصة في ظل التحديات الداخلية والخارجية المتشابكة. تشير التقارير إلى أن الطريق نحو التعافي قد يكون صعب للغاية، خصوصاً مع التوترات السياسية التي باتت تعصف بالمشهد السياسي داخل ألمانيا نفسها، مما يزيد من تعقيد الحلول الاقتصادية.
فرنسا
أما عن فرنسا، ففي بداية هذا الشهر، شهدت باريس تصويتًا تاريخيًا بحجب الثقة أدى إلى الإطاحة بحكومة رئيس الوزراء ميشيل بارنييه، التي لم تستمر أكثر من ثلاثة أشهر، ويمثل هذا الانهيار أول حدث من نوعه منذ عام 1962، إذ يعكس اضطرابات سياسية واقتصادية متزايدة تعصف بالبلاد، إذ وصل عجز الموازنة إلى أكثر هذا العام إلى نسبة 6.1%، أي ما يعادل 166 مليار يورو، وهو رقم يفوق بأكثر من ضعف الحد الذي يسمح به الاتحاد الأوروبي (3%). ويأتي هذا الاضطراب في ثاني أكبر اقتصاد أوروبي في وقت تشهد فيه القارة توترات اقتصادية وجيوسياسية متزايدة.
كيف بدأت الأزمة الفرنسية؟
عندما تولى إيمانويل ماكرون رئاسة فرنسا في عام 2017، جاء على أساس وعود طموحة بإصلاح الاقتصاد وضبط المالية العامة. وخلال سنواته الأولى، حقق بالفعل تقدمًا ملموسًا في تنفيذ جزء من تلك الوعود.
إذ ركز ماكرون على تعزيز الأعمال التجارية وجذب الاستثمارات الأجنبية كجزء من استراتيجيته لدفع الاقتصاد الفرنسي إلى الأمام. في عام 2018، أعلن عن تخفيضات ضريبية بلغت قيمتها 26 مليار يورو. ساهمت هذه الإجراءات في تحسين المؤشرات الاقتصادية بشكل ملحوظ؛ حيث انخفض عجز الميزانية من 3.4% إلى 2.4% في عام 2019، كما تراجعت معدلات البطالة إلى 8.5%، وهو أدنى مستوى لها منذ عام 2008. خلال هذه الفترة، أصبحت فرنسا الوجهة الأولى للاستثمار الأجنبي المباشر في أوروبا، متفوقة على المملكة المتحدة التي كانت تعاني آنذاك من تداعيات خروجها من الاتحاد الأوروبي.
رغم النجاح النسبي في بداية فترة ولايته، لم يستمر هذا الاستقرار طويلًا. فبسبب جائحة كورونا وصل الإنفاق الحكومي إلى مستويات غير مسبوقة، حيث أنفقت الدولة عشرات المليارات من اليوروهات خلال عامين فقط. ونتيجة لذلك، ارتفع عجز الميزانية إلى مستويات قياسية، بلغ 8.9% في عام 2021 مقارنة بـ 6.6% في عام 2020. ولتمويل هذا العجز، اعتمدت الحكومة الفرنسية بشكل كبير على الاقتراض، مما أدى إلى تخطى الدين العام حاجز الثلاثة تريليون يورو للمرة الأولى في تاريخ البلاد.
حاول ماكرون وحكومته بعدها إقناع الشعب الفرنسي بضرورة تبني تدابير تقشفية تهدف إلى إصلاح المالية العامة وخفض العجز المالي. لكن هذه التدابير لم تحظَ بقبول شعبي واسع، وسط انقسامات سياسية حادة أضعفت قدرة الحكومة على تنفيذ خططها.
ولم تكد فرنسا تتعافى تماماً من تبعات الجائحة حتى اصطدمت، كما هو حال باقي الدول الأوروبية، بتحدٍ جديد تمثل في الحرب التي اشتعلت بين روسيا و أوكرانيا في فبراير 2022. تسببت الحرب في ارتفاع أسعار الطاقة إلى مستويات قياسية، مما أثقل كاهل الأفراد والشركات على حد سواء.
فاستجابت الحكومة الفرنسية للأزمة على غرار ألمانيا وبريطانيا ودعمت أسعار الطاقة من خلال فرض سقف للزيادات التي يتحملها المستهلكون والشركات. أي زيادة تتجاوز هذا السقف كانت تتكفل بها الحكومة، وأنفقت فرنسا حينها أكثر من 100 مليار يورو في السنوات الأخيرة لحماية الأسر والشركات من تأثيرات أزمة الطاقة التي أشعلتها الحرب. ولكن هذه الإجراءات أدت إلى تفاقم عجز الميزانية ليصل إلى نحو 5.5% في عام 2023.
لم يقتصر تأثير أزمة الطاقة على الميزانية العامة، بل امتد ليشكل ضغطًا كبيرًا على الشركات المصنعة، حيث تسبب ارتفاع أسعار الطاقة في تآكل هوامش الأرباح. اضطرت العديد من هذه الشركات إلى تقليص الإنتاج وتسريح العمال لمواجهة التحديات الاقتصادية المتزايدة.
هذه الضربة القاسية فاقمت التحديات التي تعاني منها الصناعة الفرنسية، والتي تواجه منافسة شديدة من الاقتصادات الناشئة، وفي مقدمتها الصين، التي تتميز بتكاليف إنتاج منخفضة واعتماد كبير على التكنولوجيا المتقدمة. ووفقًا لتقرير نشرته صحيفة وول ستريت جورنال، انخفض إنتاج السلع في فرنسا بنسبة 0.8% على أساس شهري، وهو انخفاض أشد من التوقعات التي قدمها خبراء الاقتصاد، مما يعكس عمق الأزمة التي تواجه القطاع الصناعي.
وحاولت الحكومة الفرنسية التفكير جديًا في تقليص الإنفاق وتعزيز الإيرادات الضريبية لضبط المالية العامة، خشية أن تخرج الأوضاع عن نطاق السيطرة. ومع ذلك، اصطدمت هذه الخطط برفض شعبي واسع لأي تخفيضات كبيرة في الإنفاق أو زيادات ملحوظة في الضرائب. وفي بداية قد أحجم ماكرون عن ممارسة ضغط قوي في هذا الاتجاه، حرصًا على شعبيته وشعبية حزبه "النهضة" قبل انتخابات البرلمان الأوروبي التي عقدت في يونيو 2024.
لكن النتائج جاءت على عكس توقعاته تمامًا، حيث شهدت الانتخابات الأوروبية مفاجأة مدوية. حزب "التجمع الوطني" اليميني المتطرف بقيادة مارين لوبان حقق فوزًا ساحقًا، حاصدًا أكثر من 31% من الأصوات، وهو ما يزيد عن ضعف الأصوات التي حصل عليها حزب ماكرون "النهضة"، الذي لم يتجاوز 14.6%. هذه النتائج صدمت الساحة السياسية الفرنسية، لا سيما أنها خالفت كل استطلاعات الرأي السابقة.
رد فعل الرئيس ماكرون على هذه الهزيمة كان سريعاً. فبعد ساعة واحدة فقط من إعلان نتائج انتخابات البرلمان الأوروبي، أعلن عن حل البرلمان الفرنسي والدعوة إلى انتخابات برلمانية مبكرة، آملاً أن تسفر النتائج عن هزيمة واضحة لليمين المتطرف وتعيد الثقة في مشروعه السياسي.
لكن ماكرون أخذ مخاطرة سياسية كبيرة بهذه الخطوة، ولم تكن النتيجة لصالحه، إذ حقق تحالف اليسار بقيادة الجبهة الشعبية على أكبر عدد من المقاعد 192، رغم عدم حصوله على أغلبية مطلقة، ولكن لم يخسر اليمين المتطرف، بل زادت مقاعده من مقعدين في العام 2012 إلى 143 مقعداً.
وفي محاولة لموازنة القوى السياسية واحتواء الموقف، لجأ ماكرون إلى تعيين ميشيل بارنييه، السياسي البارز من معسكر اليمين، رئيساً للوزراء. لكن هذه الخطوة أثارت غضباً شعبياً واسعاً، حيث اندلعت احتجاجات ضخمة في سبتمبر/أيلول 2024 شارك فيها نحو 160 ألف شخص.
لكن لم تدم حكومة بارنييه أكثر من ثلاثة أشهر، إذ زادت الأزمة السياسية تعقيداً عندما كشفت الحكومة عن مشروع ميزانية تقشفية لعام 2025، تعتمد على زيادات ضريبية وتخفيضات في الإنفاق بقيمة 60 مليار يورو، بهدف خفض العجز من 6.1% إلى 5%.
هذا المشروع أدى إلى اتفاق بين النقيضين -"الجبهة الشعبية الجديدة" اليسارية و"التجمع الوطني" اليميني المتطرف-، حيث اجتمع الطرفان على حجب الثقة عن حكومة بارنييه. وبتصويت 331 نائباً من أصل 575 لصالح إسقاط حكومة بارنييه، مما أدخل فرنسا في حالة جديدة من عدم الاستقرار السياسي.
وفقًا لعدة تقارير، هذا الاضطراب السياسي قد يؤدي إلى حالة من الجمود السياسي تعطل اتخاذ القرارات الحاسمة المتعلقة بالسياسة المالية. و هذا الشلل قد يهدد بتفاقم الوضع الاقتصادي في فرنسا بشكل كبير. في تقرير حديث أصدره بنك "بي إن بي باريبا" الاستثماري الفرنسي في ديسمبر الجاري، أعرب البنك عن مخاوفه بشأن التداعيات المباشرة لانهيار الحكومة على ثقة المستهلك ومعنويات المستثمرين. وأشار التقرير إلى أن حالة عدم اليقين السياسي قد تؤدي إلى تباطؤ النمو الاقتصادي، حيث تميل الشركات إلى تأجيل استثماراتها في ظل غياب رؤية سياسية واضحة وحكومة مستقرة.
يتوقع البنك أن يتباطأ نمو الناتج المحلي الإجمالي في فرنسا إلى نحو 1% في عام 2025 إذا استمرت حالة الغموض وعدم الاستقرار السياسي، مما يهدد بتأجيل خطط الاستثمار وتعطيل عجلة الاقتصاد.
إلى جانب ذلك، تستمر أزمة الطاقة في فرض ضغوط هائلة على الاقتصاد الفرنسي، والتي تفاقمت بفعل التوترات الجيوسياسية المستمرة، لا سيما الحرب الروسية في أوكرانيا. تفاقمت الأزمة مع فقدان الشركات الفرنسية إمكانية الوصول إلى اليورانيوم الرخيص الذي كانت تستورده من النيجر، بعد تراجع النفوذ الفرنسي هناك. هذه العوامل مجتمعة تعمق من التحديات الاقتصادية والسياسية التي تواجهها فرنسا، مما يزيد من صعوبة الخروج من هذه المرحلة الحرجة كما يشير العديد من المحللين.
بريطانيا
كانت بريطانيا حتى وقت قريب إحدى أكثر الدول ازدهارًا ووجهة رئيسة للمهنيين الباحثين عن التقدم المهني، لكن الوضع تغيّر جذريًا. وفقًا لتقرير بلومبرغ، تعيش المملكة المتحدة ما يُعرف اقتصاديًا بـ"العقد الضائع"، حيث تعاني من نمو اقتصادي هزيل، إضرابات عمالية متكررة، بنية تحتية متهالكة، وقوائم انتظار قياسية في مستشفياتها. بينما تبدو استعادة الاستقرار مهمة شاقة، تُظهر الدراسات أن جذور الأزمة أعمق بكثير مما تبدو عليه.
الأزمة المالية وبداية التدهور
فبحسب تقرير لموقع "أسباب" لدراسات الجيوسياسية، يعود التدهور إلى تداعيات الأزمة المالية في 2008. حيث تضررت بريطانيا بشدة، لكن طريقة تعاملها مع التداعيات كانت مختلفة عن باقي الدول المتقدمة. فبدلاً من الاستثمار في سياسات تحفيزية، اختارت الحكومة فرض التقشف واقترضت نحو 141 مليار جنيه استرليني لإنقاذ المصارف. ولم ترفق هذه الإجراءات بتخفيضات ضريبية أو دعم للرواتب أو الاستثمار في السياسات النقدية والاجتماعية، كما لم تُطلق برامج للتحكم في التضخم أو تعزيز الإسكان وفرص العمل. كانت النتيجة انخفاض الدخل الحقيقي للأسر واستقراره لأكثر من 15 عامًا.
تفاقم الأزمة
تعرضت بريطانيا لأزمات جيوسياسية متعاقبة أثقلت اقتصادها:
- خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (بريكست): أدى إلى انخفاض الاستثمارات الأجنبية بنسبة 25% بين 2016 و2021، وفقًا لبنك إنجلترا، مما فاقم التباطؤ الاقتصادي.
- جائحة كوفيد-19: اضطرت الحكومة لاقتراض 280 مليار جنيه استرليني لدعم الاقتصاد، مستفيدةً من معدلات فائدة منخفضة تاريخيًا بلغت 0.1%. لكن مع تعافي الاقتصاد وارتفاع الفائدة لاحقًا، أصبحت أقساط الدين باهظة التكلفة.
- الحرب الأوكرانية: تسبب اندلاع الحرب في اضطراب إمدادات الطاقة، مما ضاعف تكاليف المعيشة. باتت الأسر تدفع ثلاثة أضعاف فواتير التدفئة، ما دفع الحكومة لاقتراض ما بين 60 و100 مليار جنيه استرليني إضافية لدعم المواطنين.
ديون متزايدة وتدهور الخدمات
فبلغ الدين العام مستويات غير مسبوقة. وفقًا للتقديرات، ارتفعت أقساط الديون السنوية من 40 مليار جنيه استرليني إلى 100 مليار، وهي زيادة تعادل إجمالي ميزانية الدفاع البريطانية. هذا العبء المالي أثّر سلباً على الخدمات العامة، حيث انخفضت جودة التعليم والرعاية الصحية والبنية التحتية.
و يوضح تقرير "أسباب" أن السياسات الحكومية غير المدروسة هي من فاقمت الأزمات بدلاً من حلها. ورغم سخاء بريطانيا في دعمها لأوكرانيا، كان لذلك ثمنٌ باهظ. أصبحت أقساط الديون ثاني أكبر بند في الإنفاق الحكومي، ما قلّص الموارد المتاحة لتحسين الخدمات العامة أو دعم النمو الاقتصادي.
و تشترك بريطانيا مع ألمانيا أيضاً في نقص القوى العاملة، لذلك، لجأت المملكة لفتح حدودها أمام العمالة المهاجرة، مما أدى إلى زيادة المهاجرين من جنوب آسيا وإفريقيا. ورغم أن هذه الخطوة ساهمت في تخفيف نقص العمالة، إلا أنها أثارت توترات اجتماعية واسعة، بلغت ذروتها في أغسطس 2024 مع اندلاع احتجاجات وأعمال شغب مناهضة للهجرة في أكثر من 20 مدينة.
يُظهر الوضع الراهن في بريطانيا والاتحاد الأوروبي كيف يمكن للأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية أن تتشابك لتشكّل سلسلة من التداعيات المستمرة. من الأزمات المالية إلى الجائحة، ومن الحروب الجيوسياسية إلى التحولات الديموغرافية، يتضح أن غياب السياسات المتوازنة وسوء إدارة الأزمات يؤديان إلى حلقة مفرغة تزيد الأمور تعقيداً.
سواء في فرنسا أو بريطانيا أو ألمانيا، نجد أن التحديات الهيكلية، مثل شيخوخة السكان، و الديون المتفاقمة، والانقسامات السياسية الحادة، تصعّب استعادة الاستقرار وتُثقل كاهل الحكومات والمجتمعات. ومع تصاعد تأثير القوى الشعبوية والتوترات الاجتماعية، يبدو أن الحلول ليست في الأفق القريب، بل تتطلب إصلاحات عميقة وتعاونًا سياسيًا غير مسبوق.