في 27 نوفمبر/تشرين الثاني 2024، أطلقت "غرفة إدارة العمليات العسكرية" التي تمثل عدة فصائل من قوات المعارضة السورية في إدلب٬ عملية "ردع العدوان"، متقدمة بسرعة على عدة محاور باتجاه مدينة حلب وريفها، مما أدخل الصراع في سوريا مرحلة جديدة تنذر بتغير القواعد الحالية.
في البداية٬ قالت "غرفة العمليات العسكرية" أن أهداف العملية محدودة، تتمثل في "ردع العدو" وإيقاف استهداف النظام وحلفائه لمناطق شمال غرب سوريا، إضافة إلى تمكين المهجرين من العودة إلى قراهم. لكن انهيار الدفاعات النظامية بشكل سريع سمح للفصائل بالتقدم غير المتوقع والسيطرة على أكثر من 60 بلدة وموقع استراتيجي، شملت الفوج 46، ومركز البحوث العلمية، ومواقع رئيسية على طريق (إم 5)، وكانت الجائزة الكبرى دخول وسيطرة المعارضة على مدينة حلب وقلعتها مساء الجمعة 29 نوفمبر.
كما سيطرت قوات المعارضة على مدينة سراقب ذات الأهمية الإستراتيجية في محافظة إدلب إثر معارك ضارية مع قوات النظام السوري وحلفائها٬ فيما لا تزال الفصائل تكسر الخطوط الدفاعية لقوات النظام السوري في محاور عديدة أخرى٬ وهي تستعد -حتى كتابة هذا التقرير- لدخول مدينة معرة النعمان.
لكن السؤال المطروح الآن٬ لماذا يعد سيطرة المعارضة السورية على مدينة حلب حدثاً غير عادي٬ وما الأهمية الاستراتيجية لـ"العاصمة الاقتصادية" لسوريا كما كانت توصف دائماً؟
الأهمية الاستراتيجية لمدينة حلب
تعد مدينة حلب، أكبر المدن السورية من حيث الكثافة السكانية٬ ومن أقدم المدن المأهولة في التاريخ٬ وتتمتع حلب بموقع استراتيجي حاسم وأهمية تاريخية وسياسية واقتصادية جعلتها محط صراع بين أطراف الصراع في سوريا منذ عام 2011. ولا شك أن سيطرة المعارضة السورية على المدينة في 29 نوفمبر 2024 تُشكل منعطفاً كبيراً في الحرب السورية وتمثل تحولاً استراتيجياً كبيراً في الحرب٬ وتُعيد رسم ملامح الصراع محلياً ودولياً، مما يثير تساؤلات حول تداعيات هذا التحول على الأطراف المتصارعة: المعارضة والنظام السوري وداعميهم الدوليين والإقليميين.
مدينة حلب.. الموقع الجغرافي والأهمية الاستراتيجية
- الموقع والمساحة: تمتد مساحة محافظة حلب إلى 18 ألف كيلومتر ونصف كيلو متر مربع، بينما تبلغ مساحة عاصمتها (حلب) 190 كيلومتراً مربعاً، وتتميز بتنوع تضاريسها من سهول وتلال وأراض خصبة، إذ تقع وسط مفترق بين الفرات والبحر المتوسط.
- بوابة الشمال السوري: تقع حلب بالقرب من الحدود التركية، مما يجعلها حلقة وصل بين الداخل السوري والخارج. هذا الموقع يمنحها أهمية في تأمين الإمدادات ودعم العمليات العسكرية. وتعود أهمية حلب الإستراتيجية لكونها نقطة وصل رئيسة بين الشرق والغرب، كما ظلت طوال عهودها الغابرة مركزا سياسيا واقتصاديا ودينيا وحيويا مهما بسبب توسطها بين العالمين الشرقي والغربي.
- شبكة المواصلات: تربط حلب بين مناطق شرق سوريا وغربها، مما يجعلها مركزاً لوجستياً هاماً. سيطرة أي طرف عليها تعني سيطرة على طرق التجارة وخطوط الإمداد من شمال البلاد إلى جنوبها حتى دمشق.
- الثقل السكاني والتاريخي: بحكم كثافتها السكانية وتاريخها العريق، تُمثل حلب مركزاً حضارياً وثقافياً ذا قيمة رمزية كبيرة٬ ويبلغ تعداد سكان المحافظة الأكثر اكتظاظاً في سوريا أكثر من 4 ملايين نسمة حسب المركز السوري للإحصاء لعام 2011.
- الاقتصاد: كانت حلب أكبر المراكز الاقتصادية في البلاد قبل أن تتعرض لتدمير جزئي بفعل الحرب خلال السنوات الماضية. وهي المدينة السياحية الأولى في البلاد. وقبل الحرب٬ شكلت حلب ما يقارب ثلث الاقتصاد المحلي٬ فيما يتوافر فيها نحو 23% من القوة العاملة في البلاد٬ وكانت المدينة تنتج نحو 48% من إنتاج القمح والشعير٬ وتتركز فيها 30% من الصناعات السورية.
ما أهمية العسكرية والسياسة لمدينة حلب؟
- النظام السوري:
- كانت حلب قاعدة مهمة لقوات النظام منذ بداية الحرب. السيطرة عليها تساعد في تعزيز مواقعه العسكرية وتأمين المناطق المحيطة بها. ولا شك أن خسارة حلب تُعد نكسة كبيرة للنظام، إذ تعني فقدان السيطرة على الشمال الغربي بالكامل.
- عندما اندلعت الاحتجاجات الثورة السورية في مختلف أنحاء سوريا في مارس/آذار 2011، بذل نظام الأسد كل ما في وسعه لضمان عدم انتشار الاحتجاجات في حلب. وقد ساعد التهديد بالانتقام من المعارضين في الحد من المظاهرات إلى حد كبير في مركز المدينة وجامعاتها.
- مع ذلك، ومع تطور الثورة إلى صراع مسلح، سرعان ما انجرفت حلب في الحرب٬ قفي فبراير/شباط 2012، هز المدينة هجومين بالقنابل على مجمعات للمخابرات العسكرية والشرطة، مما أسفر عن مقتل 28 شخصا.
- وبعد ذلك، بدأت التقارير تتحدث عن وقوع اشتباكات بين المعارضين المسلحين والقوات النظامية٬ لتبدأ معركة السيطرة على مدينة حلب في منتصف يوليو/تموز 2012. وحققت المعارضة مكاسب سريعة، حيث سيطرت على العديد من المناطق في الشمال الشرقي والجنوب والغرب لمدينة حلب٬ وبحلول نهاية الشهر، اشتدت حدة القتال وامتد إلى وسط المدينة التاريخي حيث قلعتها التاريخية التي بنيت في القرن الـ13.
- في سبتمبر/أيلول 2012، اندلع حريق في السوق القديم بعد اشتباكات في المنطقة المجاورة، وفي أبريل/نيسان 2013 تحولت مئذنة المسجد الكبير التي يعود تاريخها إلى القرن الحادي عشر إلى أنقاض. وفي غضون أشهر قليلة تحولت معركة حلب إلى حرب استنزاف٬ وظلت خطوط المواجهة تتغير باستمرار.
- منذ نهاية عام 2013، وحتى 2016 شنت القوات النظامية حملة جوية قاتلة في حلب باستخدام البراميل المتفجرة، مما سمح لها بتحقيق عدة مكاسب بدعم الطيران الروسي.
- لاحقاً٬ أصبحت حلب بالنسبة للنظام رمزاً لاستعادة السيطرة بعد معارك 2016-2017. وخسارتها الآن تُظهر ضعف النظام في الحفاظ على مكتسباته العسكرية٬ وقد تُضعف شرعية الأسد في نظر مؤيديه وداعميه الدوليين.
- المعارضة السورية المسلحة:
- تُشكل السيطرة على حلب اليوم انتصاراً رمزياً واستراتيجياَ، يُعزز من موقفها في المفاوضات المستقبلية. وتتيح السيطرة للمعارضة إنشاء قاعدة عمليات متقدمة ضد مواقع النظام في المناطق الأخرى.
- سيقلل السيطرة على حلب قوات النظام والمليشيات الإيرانية من تهديد مراكز ثقل المعارضة في إدلب٬ ويعزز طرق إمدادها وسيهدد في الوقت ذاته المناطق الأخرى الخاضعة لسيطرة النظام.
- يُعد الانتصار في حلب دفعة معنوية كبيرة للمعارضة السورية٬ كما يعيد تشكيل توازن القوى السياسية على الأرض، ما يعزز موقف المعارضة في أي مفاوضات سياسية قادمة ترعاها تركيا وروسيا.
- القوى الدولية والإقليمية:
- بالنسبة لداعمي المعارضة (مثل تركيا)، السيطرة على حلب تُحقق أهدافهم الاستراتيجية في تقليص نفوذ النظام وإيران في المنطقة. وقد ترى تركيا في انتصار المعارضة فرصة لتوسيع نفوذها والحد من تدخلات روسيا وإيران وإجبار نظام الأسد على التفاوض٬ وبالتالي حل مشكلة اللاجئين السوريين لديها وفي مناطق سيطرتها بشمال سوريا.
- أما بالنسبة لروسيا وإيران، فإن خسارة المدينة تُضعف محورهم الداعم للنظام وتقلل من قدرتهم على المناورة. وحظيت حلب على أهمية كبيرة بالنسبة لإيران عسكرياً، وهو ما عكسته السنوات التي سبقت عام 2020 عندما زج "الحرس الثوري" بالكثير من الميليشيات هناك على الأرض.