“زراعة الشؤم” في سنوات الجفاف.. كيف ساهم البطيخ في استنزاف الفرشة المائية للجنوب الشرقي في المغرب؟

عربي بوست
تم النشر: 2024/11/25 الساعة 10:19 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2024/11/25 الساعة 11:12 بتوقيت غرينتش
زراعة البطيخ في المغرب تستنزف الفرشة المائية في سنوات الجفاف (مواقع التواصل الاجتماعي)

وُجدت زراعة البطيخ في المغرب منذ عدة عقود، حيث كانت تُزرع بشكل تقليدي، لكن زراعة البطيخ في الجنوب الشرقي، وبخاصة في المناطق الصحراوية مثل إقليم زاكورة، وورزازات والرشيدية وغيرها، توسعت بشكل أكبر منذ سنة 2008 مع انطلاق برنامج المخطط الأخضر.

ومن الأسباب التي ساهمت في توسع زراعة البطيخ، الذي يفضل درجات الحرارة المرتفعة (من 25 إلى 35 درجة مئوية) في الجنوب الشرقي، طبيعة التربة الرملية والغنية، وقدرتها على إنتاج أول محصول في المغرب في مدة لا تتجاوز 5 أشهر، مما يسمح له التواجد في الأسواق المغربية والإفريقية وحتى الأوروبية قبل المحاصيل الأخرى.

كما عزز دعم الحكومة المغربية تزايد زراعة البطيخ بشكل ملحوظ مع بداية المخطط الأخضر، حيث بدأ تطبيق تقنيات الزراعة الحديثة مع تقدم تقنيات الري، مثل الري بالتنقيط واستخدام الزراعة المحمية (الأنفاق البلاستيكية)، مما ساهم في توسيع الأنشطة الزراعية في المناطق الصحراوية وشبه الصحراوية التي كانت تعتبر غير مناسبة لزراعة محاصيل كثيفة المياه.

واعتبر جمال أقشباب، رئيس جمعية أصدقاء البيئة بإقليم زاكورة (أول إقليم في مناطق الواحات جنوب شرق المغرب الذي بدأت فيه هذه الزراعة)،  زراعة البطيخ بالإقليم "دخيلة على الواحات كمزارعيها، ومستنزفة للمياه الجوفية العذبة، وللتربة الغنية بالمواد العضوية".

موضحا أن "الاستثمار في هذه الزراعة وتحقيق أرباح مهمة اقتصر على بعض الفلاحين فقط، والذين في الأصل ينتمون إلى لوبيات فلاحية كبرى تستحوذ على العديد من المشاريع الفلاحية في جميع ربوع المملكة، خاصة الزراعات المصدرة للخارج".

وأكد الفاعل الجمعوي في حديثه لـ"عربي بوست"، أن الفلاحين الكبار "نزلوا بقوة لكي يستفيدوا من هذه المنطقة، بالتعاون مع عدد قليل من فلاحي الإقليم الذين لا تتجاوز نسبتهم 5٪ بمعنى أن 95٪ من أصحاب واحات النخيل".

ومع قدوم هذه اللوبيات إلى الجنوب الشرقي خاصة من مناطق سوس والغرب والحوز، وكراء الأراضي، واستغلال أراضي الجموع أو أراضي القبائل بعقود طويلة الأمد، ارتفعت الأراضي المزروعة من 1000 هكتار سنة 2008 إلى 10000 هكتار تقريبا في سنة 2012، قبل أن تبلغ ذروتها سنة 2017 بأكثر من 20000  هكتار.

وبالرغم من ارتفاع الأراضي المزروعة، فإن جل فلاحي هذه المناطق يعيشون وضعا اقتصاديا ضعيفا طيلة السنة بسبب الجفاف والتغيرات المناخية التي أدت إلى موت واندثار الآلاف من النخيل في المنطقة والتي كانت تشكل مصدر رزق العديد من الفلاحين البسطاء. 

كما أن الحرائق التي عرفها الجنوب الشرقي للمملكة في السنوات الأخيرة، أدت إلى تراجع مهول في الإنتاج الزراعي وإنتاج التمور في الواحات، مما خلف خسائر كبيرة في اقتصاد المنطقة ودفع العديد من السكان والأسر إلى الهجرة المكثفة نحو المدن، بحثا عن مصدر آخر للعيش.

وعدا الانتعاش الطفيف خلال موسم الجني، والذي يتمثل في تشغيل اليد العاملة في الحقول واستغلال بعض وسائل النقل المحلية، فإن الأرباح المهمة ظلت مقتصرة على الفلاحين والمستثمرين الكبار وبعض الشركات العائلية، الذين يمتلكون الموارد المالية اللازمة للاستثمار في التقنيات الحديثة وزيادة الإنتاج، وحفر مزيد من الآبار.

المساحة المزروعة بالبطيخ الأحمر في منطقة الجنوب الشرقي بالهكتار (أحصائيات رسمية)
المساحة المزروعة بالبطيخ الأحمر في منطقة الجنوب الشرقي بالهكتار (أحصائيات رسمية)

زراعة العطش

دعمت الحكومة الفلاحين في الجنوب الشرقي للمغرب بشكل كبير من خلال استصلاح الأراضي وحفر الآبار وتزويدهم بنظام الري بالتنقيط، لكنهم "استغلوا هذه الزراعة بشكل عشوائي واستنزفوا الفرشة المائية في غياب المراقبة"، حسب محدثنا.

ولأن البطيخ فاكهة مائية بامتياز، فإن زراعته استنزفت الفرشة المائية الباطنية للمنطقة، فالآلاف من الهكتارات من البطيخ التي تُسقى كل يوم، تستهلك ما بين 10 إلى 20 مليون متر مكعب من الموارد الباطنية الجوفية، حسب دراسة أعدتها وكالة الحوض المائي التابعة لسوس ماسة.

ومع توالي سنوات اتسمت أساسا بالجفاف،" تدهورت الموارد المائية الجوفية بشكل كبير، كما تلوثت التربة بسبب المواد الكيماوية المستعملة في الزراعة وفي بعض المناطق، بدأت تظهر مشكلة تزايد الملوحة في المياه الجوفية نتيجة للاستنزاف، وقد تتدهور جودة المياه الجوفية، مما يجعلها غير صالحة للزراعة أو الشرب".

وهي عوامل ساهمت بشكل كبير في هلاك آلاف أشجار النخيل لأن هذه الأشجار تتغذى من الفرشة المائية الباطنية، حتى في غياب المياه السطحية، وبالتالي فإن استنزاف هذه الفرشة أدى إلى عطش الجذور وبالتالي إلى موتها.

شح الماء وموت أشجار النخيل التي تشكل مورد الرزق الأساسي لفلاحي المنطقة، جعل الأصوات ترتفع عالية من طرف مواطنين ونشطاء بيئيين احتجاجا على استمرار زراعة العطش.

وخرج المئات من الأشخاص من مختلف الجماعات الترابية التابعة لكل من زاكورة وطاطا وتينغير، مطالبين السلطات الإقليمية بإصدار قرار عاملي يمنع زراعة البطيخ بالمنطقة، ومراقبة الآبار المتواجدة بالمنطقة والسهر على احترام القوانين المنظمة لحفرها.

ولم تكن هذه الاحتجاجات الأولى، وفق الفاعل الجمعوي أقشباب، فقد سبقتها العديد، لعل أبرزها "انتفاضة العطش" في إقليم زاكورة، والتي عرفت اعتقالات كبيرة في صفوف الشباب، الذين حملوا قنينات بلاستيكية مطالبين بقطرة ماء، واصفين زراعة البطيخ بالمشؤومة والجالبة للشر لمناطق الواحات.

وقد حمل المحتجون المسؤولية لرؤساء المجالس فيما ستؤول إليه هذه الأوضاع التي تهدد الأمن المائي والبيئي بالمنطقة، بعد جفاف بعض سواقيها، مثل واحة تغيرات، والنقص الحاد لمنسوب المياه بكل من ساقيتي إيمي أوكادير وإمي أوتو، وجفاف أغلبية الآبار التي يستعملها جل أبناء فم الحصن في الشرب وسقي الماشية.

وفي الوقت الذي رأى فيه مسؤولو بعض المناطق ضرورة منع هذه الزراعة استنادا للنتائج الكارثية الظاهرة للعيان، مثل إقليم الرشيدية وإقليم تنغير، وإقليم طاطا، فإن الجمعيات البيئية بزاكورة ما زالت تصارع كي تكتسب هذا المنع، الذي فضل المسؤولون على المنطقة استبداله بالقرار العاملي "تقييد الزراعة".

وينص هذا القرار على أن المساحة القصوى المسموح بها لزراعة البطيخ هي هكتار واحد لكل مستغل، وذلك وفق اللوائح التي وضعتها اللجنة المختصة للموسم الفلاحي الحالي 2024/2025.

واشترط القرار العاملي أن تكون جميع الآبار والثقوب المائية مزودة بعدادات مائية تعمل لتتبع كمية مياه الري المستهلكة وتكلف اللجنة المحلية بقراءة العدادات عند بدء الاستغلال ونهايته، بالإضافة إلى إجراء قراءات دورية لتقييم كمية المياه المستخدمة في الري وحالة الفرشة المائية.

كما يمنع القرار زراعة البطيخ في المناطق المحظورة، لا سيما بالقرب من حقول الضخ المخصصة لمياه الشرب، والتي تحددها اللجنة المحلية، بما في ذلك جنبات وادي درعة على طول الواحات ومرور الأودية.

ويعتبر السكان المحليون لإقليم زاكورة، القرار العاملي للموسم الفلاحي 2024/2025 القاضي بتقييد زراعة البطيخ هو نفسه القرار الذي طبق السنة الفارطة، وعلى عكس المنتظر، انتشرت الزراعة بشكل أكبر وارتفع محصول البطيخ لأكثر من النصف، أي أن القرار العاملي بالتقييد لم يأتِ بالنتائج المرجوة من سنه.

وحسب رئيس جمعية أصدقاء البيئة بزاكورة، فإن مرد هذه النتيجة هو تحايل مزارعي البطيخ على القانون، فعوض أن يستغل كل فلاح هكتارا واحدا فإنه يقوم بتمكين كل فرد من أسرته بهكتار، وقد يصبح لديه عشرة هكتارات بهذه الطريقة، وبعملية حسابية بسيطة بتقسيم عدد الفلاحين بهكتاراتهم فإن إقليم زاكورة بالكامل لن يكفيهم.

وفيما يخص العدادات على المضخات والصهاريج، فإن الفلاحين يقومون بشراء مضخات جديدة، ويتم إنزالها للبئر ويقومون باستغلال الماء كيفما شاؤوا، وعندما تأتي دورية المراقبة، يطَّلِعون فقط على العداد الأصلي الذي لم يستهلك الكثير من الماء ولهذا فإنه إجراء عقيم كسابقه. يؤكد محدثنا.

نحو تخفيض الصادرات "المائية"

ومع خروج تقرير جديد للبنك الدولي، يكشف أن المغرب من بين خمس دول بمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا تواجه شحاً غير مسبوق في المياه، وهي العراق ومصر وسوريا وإيران، بات من الضروري مراجعة المغرب لصادراته الفلاحية التي تستنزف الفرشة المائية للبلاد.

 محمد جدري، المحلل الاقتصادي، ومدير مرصد مراقبة العمل الحكومي، يؤكد أن المملكة المغربية اليوم هي بصدد إعادة النظر في كل ما يتعلق بالفلاحة، خصوصاً المزروعات "المائية" والأشجار المثمرة وكذلك كل ما يتعلق بالتصدير.

وقال المتحدث في تصريحه لـ"عربي بوست" إن غياب الأمطار وندرة المياه تحتم على المغرب مراجعة قراراته بخصوص تصدير مجموعة من المواد الفلاحية نحو الخارج، وقطع الدعم عن فلاحي المنطقة الذين يدخلون في مخطط الجيل الأخضر".

وأوضح جدري أنه من الخطأ اليوم أن تسمح السياسات العمومية بزراعة البطيخ الأحمر بالجنوب الشرقي للمملكة المغربية، باعتبارها منطقة شبه صحراوية، وبالتالي مثل هذه الزراعات تستنزف مياهها الباطنية، علاوة على أن البطيخ الأحمر مردوديته ليست بالمردودية الكبيرة التي تدفعنا لهذه المغامرة".

وبالرجوع إلى قيمة الصادرات المغربية من البطيخ نحو الاتحاد الأوروبي، فقد بلغت خلال النصف الأول من عام 2024 حوالي 74.72 مليون يورو، بمتوسط سعر قدره 0.88 يورو للكيلوغرام الواحد. وهذا السعر يقارب متوسط سعر البطيخ الإسباني (المنافس الأول للمغرب).

وأظهرت المعطيات الحديثة الصادرة عن "هورتوإنفو" انخفاضاً ملحوظاً في صادرات البطيخ المغربي إلى الاتحاد الأوروبي خلال النصف الأول من عام 2024، حيث بلغ حجم الصادرات المغربية 85.09 مليون كيلوغرام، أي انخفاضاً قدره 50.31% مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي.

موت واحات النخيل في الجنوب الشرقي بسبب استنزاف الفرشة المائية (عربي بوست)
موت واحات النخيل في الجنوب الشرقي بسبب استنزاف الفرشة المائية (عربي بوست)

وحسب منصة "إيست فروت" المتخصصة في أسواق الخضر والفواكه، كانت صادرات المغرب من البطيخ إلى البلدان الخارجة عن الاتحاد الأوروبي أقل أهمية بالنسبة للمغرب، حيث استوردت موريتانيا 1.9 ألف طن من المنتجات المغربية، كما تم تصدير دفعات أصغر من البطيخ المغربي أيضاً إلى المملكة المتحدة بمعدل 374 طناً.

وفي الأخير يقترح مدير مرصد مراقبة العمل الحكومي، تعويض الجنوب الشرقي للمملكة بمناطق أخرى تعرف بوفرة المياه، كحوض اللوكوس المتواجد في شمال المملكة أو في الغرب الذي يوجد فيه على الأقل ما يكفي من المياه، على أمل انتهاء شبح الجفاف بموسم يجود بالغيث النافع وتجنب المغرب خطر ندرة المياه.

تحميل المزيد