لا تزال المفاوضات مستمرة بين الحكومة المصرية وصندوق النقد الدولي من أجل موافقة الأخير على منح مصر شريحة نقدية بقيمة 1.3 مليار دولار من إجمالي القرض الذي تبلغ قيمته 8 مليارات دولار، إلى جانب حسم جزء مهم من السياسات الاقتصادية المصرية خلال الأشهر المقبلة.
وبينما يترقب المواطنون والاقتصاديون نتائج الاجتماعات التي من المتوقع أن تستمر حتى 20 نوفمبر/تشرين الثاني 2024، خرجت تقارير بشأن طلب مصر الرفع من قيمة الشريحة إلى ملياري دولار، وهو ما نفته الحكومة والبنك المركزي المصري، لكن مصادر "عربي بوست" أكدت تقدم القاهرة بالطلب.
ورغم تأكيد رئيس الوزراء المصري، مصطفى مدبولي أن صندوق النقد أبدى تفهمًا للأوضاع الراهنة وضرورة عدم إضافة أي أعباء مالية جديدة على المواطنين، إلا أن هناك مخاوف من أن ترضخ القاهرة لإملاءات صندوق النقد، وهو ما من شأنه أن يزيد أكثر من المتاعب الاقتصادية التي يعيشها المواطن المصري.
مفاوضات شاقة بين الحكومة المصرية وصندوق النقد
مصدر مسؤول مطلع على المفاوضات الجارية بين الحكومة المصرية وصندوق النقد الدولي أكد أن الاجتماعات تطرقت لرغبة مصر زيادة القيمة المالية للشريحة الحالية بعد أن أبدت التزامًا برفع الدعم بشكل كبير عن الخدمات الرئيسية التي كانت تشكل عبئًا على الموازنة، وفي ظل التزام الدولة المصرية بسداد ديونها الخارجية.
وأضاف مصدر "عربي بوست" أن الحكومة المصرية تحاول أن تستفيد من نفس الامتيازات التي قدمها صندوق النقد الدولي من مساعدات للدول الأخرى التي واجهت ظروف قهرية انعكست سلبًا على الاقتصاد وتركت آثارًا سلبية على المواطنين ومثال ذلك ما حدث مع أوكرانيا والأرجنتين.
وأضاف المصدر أن صندوق النقد لم يبد موافقة حتى الآن على زيادة قيمة الشريحة النقدية، لكنه أشار إلى أن المفاوضات شهدت نقاشًا حول إمكانية ربط الزيادة بإجراءات أكثر صعوبة، مثل رفع الدعم بشكل كامل عن المحروقات في غضون الأشهر المقبلة لحين موعد المراجعة الخامسة، وتسريع وتيرة برنامج الطروحات الحكومية وتخارج الحكومة من مشاريع ضخمة وتركها للقطاع الخاص.
لكن مصر، يقول المصدر، ترى بأن هذه المطالب غير منطقية التحقيق خلال فترة وجيزة. وذكر أن المفاوض المصري يرى أن إجمالي ما يقدمه صندوق النقد ويبلغ 8 مليارات، لا يتماشى مع هذه المطالب في حين أنه دعم أوكرانيا بقرض قيمته 11 مليار دولار إلى جانب دعم الدول السبع الذي تخطى 50 مليار دولار وكذلك الأرجنتين التي حصلت على إجمالي شريحة نقدية بلغت 43 مليار دولار.
وشدد على أن وضعية الاقتصاد المصري حاليًا شبيه بما عانت منه الأرجنتين، إضافة إلى أن أن مصر توجد في منطقة ملتهبة، وهناك خسائر تصل إلى 7 مليارات دولار نتيجة تراجع عائدات قناة السويس فقط، إلى جانب تراجع معدلات نمو السياحة وجذب الاستثمارات بسبب الحرب المستمرة في قطاع غزة.
كما أشار مصدر "عربي بوست" إلى أن الحكومة المصرية لن توافق على شروط الصندوق بسهولة هذه المرة ولديها إصرار على تحقيق مطالبها بشأن إرجاء قرارات الدعم وزيادة قيمة القرض وكذلك عدم خفض قيمة الجنيه بشكل متسارع.
واتفقت مصر في مارس/آذار 2024، على زيادة قيمة القرض من الصندوق إلى 8 مليارات دولار، ضمن عملية إنقاذ عالمية واسعة لاقتصادها، حيث كانت تعاني منذ أوائل عام 2022 من أزمة حادة في النقد الأجنبي، ومنذ ذلك الحين، فرضت السلطات تخفيضات حادة في الدعم الموجه للوقود والخبز والكهرباء، مما زاد من الضغوط على المواطنين الذين يواجهون صعوبات بالفعل.
وأكد المصدر ذاته، أن الحكومة المصرية أبلغت صندوق النقد بعدم قدرتها على زيادة أسعار بعض المواد الرئيسية وفي مقدمتها الوقود حتى منتصف عام 2025، وهو أمر واجه رفضًا من الصندوق الذي يريد تنفيذ خطته بشأن إنهاء الدعم بشكل كامل مع نهاية العام المقبل.
وأشار مصدر "عربي بوست" إلى أن المفاوضات بين الحكومة المصرية وصندوق النقد الدولي حول إمكانية زيادة خدمات أخرى دون المساس بالوقود مثل الكهرباء والغاز الطبيعي، مع إمكانية الاستجابة لوجود سعر مرن حقيقي للجنيه وتركه وفقًا لآليات السوق والتدخل فقط في أوقات الأزمات الصعبة.
وذكر المتحدث أن الحكومة المصرية فوجئت بأن الصندوق لديه إصرار على شروطه، وأن المباحثات شهدت التذكير بالفترة التي قامت فيها الحكومة بإرجاء قراراتها المتعلقة بسعر الصرف والوقود عام 2022 حتى مارس 2024، وأن ذلك سوف يرتبط بمراجعات التصنيف الائتماني والقدرة على جذب الاستثمارات الأجنبية، واحتمالات عودة السوق السوداء مرة أخرى.
ولفت إلى أن الصندوق أضحى الآن في موقف قوة بعد أن فشلت إجراءات الحكومة التي اتخذتها بمفردها خلال فترة عام ونصف في إصلاح الوضع الاقتصادي، وتدرك بأن الاعتماد على الصندوق يعد أمرًا حتميًا، خاصة وأن العامين المقبلين لا يتحملان أي سقوط اقتصادي يؤثر على قدرة القاهرة الالتزام بسداد ديونها الخارجية.
الصدمات الاقتصادية تجعل الصندوق أكثر مرونة
خلال الشهر الماضي، أعلن البنك الدولي جدول سداد الديون الخارجية لمصر خلال العام المالي الحالي ويتضمن سداد التزامات بقيمة 60.8 مليار دولار في الفترة من يوليو 2024 وحتى يونيو 2025، وبحسب البيانات يتضمن الجدول التزامات بقيمة 14.7 مليار دولار في الربع الأول من العام المالي، والذي انتهى بالفعل، بينما الربع الحالي يتعين سداد نحو 15 مليار دولار.
ويصل جدول سداد الالتزامات إلى ذروته في الربع الثالث والذي يبدأ في يناير 2025 بقيمة 20.59 مليار دولار، بينما تتراجع الأعباء الخارجية في الربع الأخير إلى 10.5 مليار دولار، وتنقسم إلى 52.8 مليار دولار أصل دين ونحو 8.1 مليار دولار فوائد.
يشمل جدول السداد قروض بقيمة 31.04 مليار دولار على مختلف الجهات، بواقع 13.6 مليار جنيه يتعين على الحكومة سدادها بخلاف 2.5 مليار دولار قروض على البنك المركزي، ونحو 13.3 مليار دولار على البنوك، فيما يستحق على القطاعات الأخرى قروضًا بنحو 1.7 مليار دولار، وتشمل الالتزامات تسهيلات تجارة خارجية بقيمة 4.9 مليار دولار.
وقال مصدر حكومي مطلع، إن برنامج مراجعات صندوق النقد من المفترض أنه يستهدف تنفيذ "الروشتة" التي وضعها الصندوق لحالة اقتصاد الدول التي تسير وفقًا لخطته الإصلاحية، وهي برامج وأهداف ثابتة منذ سنوات طويلة، غير أنه نتيجة الصدمات الاقتصادية المتتالية أضحى الصندوق لديه مرونة في تطبيق برنامجه للتعافي الاقتصادي.
وشدد المتحدث على أن المراجعة الحالية تتضمن الإصلاحات المالية والدين العام ومعدلات الاقتراض وعجز الموازنة وبرنامج الدعم والبرنامج الاجتماعي والإنفاق الحكومي على الفقراء ونهاية ببرنامج الطروحات، إلى جانب السياسات النقدية وهي معدلات الفائدة والتضخم ومرونة سعر الصرف.
وأشار إلى أن الصندوق أبدى إعجابًا بخطوات الحكومة نحو تخفيف الدعم وذهابه إلى مستحقيه ومعدلات إنفاق الحكومة على التعليم والصحة بعد توفير مليارات الجنيهات، لكنه أبدى اعتراضًا على زيادة معدلات التضخم التي ما زالت مرتفعة وكان من المتوقع أن تنخفض على نحو أكبر.
هذا الوضع سيجعل البنوك المصرية مضطرة لرفع قيمة الفائدة، وهناك إصرار على أن يكون هناك سعر صرف مرن من المتوقع أن يظهر في قيمة الجنيه أمام الدولار خلال الفترة المقبلة.
وقبل أيام شهد الجنيه المصري تراجعًا جديدًا مقابل الدولار الأمريكي، حيث وصل إلى ما يزيد عن 49 جنيهًا للدولار، وهو الانخفاض الثاني الكبير منذ قرار مصر بتعويم العملة في مارس 2024.
وأفادت مصادر لوكالة "بلومبرغ" أن التراجع الأخير للجنيه المصري بدأ في 31 أكتوبر/تشرين الأول 2024، ليصل إلى أدنى مستوياته منذ منتصف أغسطس/آب من نفس السنة، مدفوعًا بزيادة الطلب على الدولار بعد أن سمحت البنوك بالمزيد من طلبات سحب الدولار.
وذكر المصدر أن الوفد الحكومي قدم لصندوق النقد دوافعه لعدم قدرته زيادة أسعار الخدمات الرئيسية في الوقت الحالي، وربط بين قيمة الزيادة المقررة في الإنفاق على البرامج الاجتماعية ومدى كفايتها بالنسبة للمواطنين مع ارتفاع معدلات التضخم وضعف قدرة الجهات الحكومية السيطرة على الأسواق.
كما أشار الوفد الحكومي المفاوض للأبعاد السياسية الناتجة عن رفع أسعار الدعم واستحالة الذهاب لما هو أبعد من ذلك على الأقل خلال الأشهر الستة المقبلة، متوقعًا أن تنتهي المفاوضات بتفاهمات مشتركة حول هذه الملفات تضمن المضي قدمًا نحو الالتزام بروشتة الصندوق ولكن مع مزيد من التسهيلات في التطبيق.
"الاستقرار الداخلي" مقدم على أي ضغوطات
وحذر الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، في الآونة الأخيرة من أن البلاد قد تضطر إلى إعادة تقييم برنامج قرضها الموسع، إذا لم تأخذ المؤسسات الدولية في الاعتبار التحديات الإقليمية غير العادية التي تواجهها البلاد.
وخلال زيارتها إلى مصر الأسبوع الماضي، أعربت مديرة صندوق النقد الدولي، كريستالينا جورجيفا، عن تفهم الصندوق الكامل لحجم التحديات الراهنة، مؤكدة أن مصر أصبحت أكثر أمانًا في عالم يتسم بالصدمات، والتزمت بالإجراءات الإصلاحية.
وأشادت بجهود الحكومة لتنفيذ برنامج الإصلاح بعناية مع وضع الفئات الأكثر احتياجًا في مقدمة الأولويات موضحة أن الصندوق يسعى بالشراكة مع الحكومة للتوصل لأفضل مسارات الإصلاح التي تراعي جميع الأبعاد ذات الصلة، في إشارة ضمنية إلى موافقة إدارة الصندوق على مطالب الحكومة المتعلقة بتمديد آجال بعض الإصلاحات.
وفي أحدث تقرير له عن التوقعات الاقتصادية الإقليمية، يتوقع صندوق النقد نمو الناتج المحلي الإجمالي 4.1 بالمئة في عام 2025، مقارنة بنحو 2.7 بالمئة هذا العام، وأكثر من 5 بالمئة في المدى المتوسط.
وأكد مستشار اقتصادي بوزارة المالية تحدث شريطة عدم ذكر اسمه، أن الحكومة المصرية لديها أسبابها بشأن عدم التزامها الكامل بـ"روشتة" صندوق النقد، إذ أن التوترات الإقليمية والعالمية أثرت سلبًا على جذب الاستثمارات ومن ثم قاد ذلك إلى التأخر في تنفيذ برنامج الطروحات الحكومية، كما أن الأسعار التي قدمتها جهات خارجية للاستحواذ على مشروعات اقتصادية لم تكن بالقدر المأمول وكانت بأقل من قيمتها.
وأضاف أن مصر قطعت شوطًا كبيرًا في تنفيذ البرنامج ولديها تصميم هذه المرة على أن تستمر في البرنامج لنهايته وهو ما يساعد في مرونة المباحثات الحالية التي من المتوقع أن يترتب عليها تأخير وتيرة تنفيذ الإصلاحات، وأن الرغبة في إحداث الاستقرار الداخلي يأتي مقدمًا هذه المرة على أي ضغوطات أخرى وهو أمر أدركه صندوق النقد الدولي عبر المباحثات التي جرت بين رئيسته والرئيس عبدالفتاح السيسي والتي كانت في مجملها سياسية أكثر من كونها اقتصادية.
ومنذ أن وقّعت مصر أول اتفاقية قرض رئيسية مع صندوق النقد الدولي في أكتوبر/تشرين الأول 2016، بدأت الحكومة في تنفيذ سلسلة من الإصلاحات الاقتصادية الهيكلية التي شملت تخفيض دعم الطاقة، ورفع الدعم عن بعض السلع الأساسية، وتحرير سعر صرف الجنيه المصري، وزيادة الضرائب.