تعتبر الاغتيالات النّوعية، أو عمليّات الاستهداف عالية القيمة عند الجهات التي تتبنّاها، أداة فعّالة لتدمير حركات المقاومة، أو مكافحة جماعات التّمرد.
وقد نشر موقع ويكيليكس، في 18 ديسمبر 2014، دراسة سرّية صادرة عن وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكيّة،في 7 يوليو 2009، عدد صفحاتها باللّغة الإنجليزية 13 صفحة، و عنوانها: ( جعل عمليّات الاستهداف عالية القيمة أداة فعّالة لمكافحة التّمرد ) Making high-value targeting operations an effective counterinsurgency tool .و قد ورد في مقدّمة المترجم لهذه الدّراسة تعريفًا للاغتيالات النّوعية، أو ما يُسمَّى بعمليّات الاستهداف عالية القيمة، خلاصتُه أنّها ( عمليّات مركَّزة ضدّ أفراد، أو شبكات معيّنة يجب أن تؤدّي إزالتها، أو تهميشها إلى تقويض فاعليّة مجموعة المتمرّدين على نحو ملحوظ. وتتغيّر معايير تحديد الأهداف ذات الأولويّة وفقًا لعوامل مختلفة، مثل قدرات المجموعة المتمرّدة، وهيكلها و ديناميكيّات القيادة، و النّتيجة التي تريد الحكومة الحصول عليها).
اغتيال إسماعيل هنيّة: التّوقيت والدّلالات
يعتبر اغتيال إسماعيل هنيّة (1963-2024)، في طهران يوم 31 يوليو الماضي، هو الاغتيال النّوعي الثّاني، في صفوف المقاومة الفلسطينيّة، منذ عمليّة طوفان الأقصى، بعد اغتيال صالح العاروري (1966-2024)، في بيروت يوم 2 يناير الماضي.
ويجيء هذان الاغتيالان في ظرفين متلازمين: أزمة سياسية ومجتمعية خانقة متعددة الأوجه يعيشها الكيان الإسرائيلي، منذ نشأته المفروضة في عام 1948، وفشل صارخ في تحقيق أهداف الحرب المعلنة، و في مقدمتها القضاء على كتائب القسام، وتفكيك منظومتها العسكرية.
ويستهدف هذا الاغتيال الأخير تحقيق ثلاثة أمور وهي: الأمر الأول هو محاولة إسرائيل على المستوى الإقليمي استعادة شيء من منظومة الردع التي انكسرت بعد عملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر 2023.
الأمر الثاني هو تقديم هذا الاغتيال على أنه نصرٌ وتفوق للجيش وأجهزة الأمن الذي يوجه لامتصاص غضب الداخل الإسرائيلي، الساخط على سياسة نتنياهو، وحكومته المتطرفة الرافضة لوقف الحرب، واستعادة الرُهائن.
أما الأمر الثالث فهو محاولة توسيع دائرة الحرب في الشرق الأوسط وجر الولايات المتحدة وبريطانيا إلى حرب إقليمية، وهذا الأمر الأخير يحقق لنتنياهو إمكانية الخروج من دوامة العجز والفشل الذي يلاحقه، بسبب مأزق الحرب في غزة، ويُحسّن من صورته لدى الإسرائيليين حين يجعله الرجل الوحيد القادر على حماية إسرائيل ضد أعدائها. وقد تتيح له رغبته في توسيع الحرب، أيضا، تحقيق حلمه القديم، وهو توجيه ضربة قوية رادعة لإيران، راعية محور المقاومة، وفي الوقت نفسه تدمير البرنامج النووي الإيراني لأن ظروف الحرب الإقليمية تكون حينئذ مواتية.
الاغتيالات بالنسبة لإسرائيل هي وسيلة فعّالة لتغيير التاريخ
يعتبر كتاب رونان برغمان، وهو عسكري سابق ومراسل صحيفة يديعوت أحرونوت، أوّل عمل شامل حول برامج الاغتيالات المستهدفة التي نفّذها الموساد، والشاباك وأجهزة الجيش الإسرائيلي، منذ قيام دولة إسرائيل.
وقد اختار الكاتب أن يبدأ السرد الجنائزي لهذه الاغتيالات، بالكمين الذي نُصِب لتوماس جيمس ويلكن Thomas James Wilkin، ضابط الشرطة الإنجليزي، الذي قُتل برصاص الجماعات الصهيونية في شوارع القدس عام 1944. وينتهي هذا السرد باغتيال محمود المبحوح، في عام 2010، في دبي بالإمارات العربية المتحدة على يد الموساد. وعنوان هذا الكتاب هو: (قُم واقتل أنت الأول: التاريخ السري للاغتيالات المستهدفة التي ارتكبتها إسرائيل).
Rise and kill first: The secret history of Israel's targeted assassinations.
وجملة هذا العنوان مستوحاة من نصٍ في التلمود وهو: (في مواجهة الشخص الذي يأتي ليقتلك، قُم واقتل أنتَ الأول). وقد وُضع هذا النص التلمودي، أيضًا، في افتتاحيّة هذا الكتاب الذي صدرت نسخته الأصلية بالإنجليزية، في 22 يناير 2020.
وفي مقابلة مع صحيفة Times of Israel ليوم 7 مارس 2019 ذكر رونان برغمان أنه منذ البدايات الأولى للدولة، كان القادة الإسرائيليين يعتقدون أن العمليات السرية، والاغتيالات هي أداة مفيدة لتغيير التاريخ، أو تغيير الواقع دون الحاجة إلى اللجوء إلى الحرب الشاملة. وقد كان لديهم هذا التصور منذ زمن مبكر، و قبل إنشاء أجهزة المخابرات الإسرائيلية، و تأكيد قدرتها على تنفيذ مثل هذه العمليات.
وفي مقابلة أخرى تزامنت مع صدور كتابه، قال رونان برغمان إن هذه الاغتيالات والعمليات السرية، التي تجاوزت 2700 عملية، خلال السبعين عامًا من تاريخ إسرائيل المعاصر، قد أغرت بعض السياسيين و دفعتهم، أحيانًا، إلى تجاوز العمل القيادي الحقيقي، و تجاوز القنوات الدبلوماسية التقليدية.
وأضاف أيضًا أن هؤلاء السياسيين ربما قد شعروا أن لديهم وفي متناول أيديهم، "هذه الأداة" التي يمكنهم من خلالها "إيقاف التاريخ"… أي يمكنهم التأكد من تحقيق أهدافهم، من خلال الاستخبارات والعمليات الخاصة، وليس عن طريق الالتزام بأوصاف رجال الدولة أو بالتوجه إلى الحنكة السياسية و الخطاب السياسي.
الاغتيالات في صفوف المقاومة الفلسطينية: الواقع و الحال
إذا استحضرنا قائمة القيادات، في حركة حماس، الذين اغتالتهم إسرائيل منذ الانتفاضة الأولى (1987-1993)، ومرورًا بالانتفاضة الثانية (2000-2005)، ووصولاً إلى عملية طوفان الأقصى يتبين أن حماس حركة ولّادة، وقد نجحت في كل الامتحانات منذ تأسيسها: فقد استطاعت احتواء الآثار الناجمة عن اغتيال قادتها السياسيين والعسكريين، والتكيف مع الأوضاع والظروف الصعبة التي أحاطت بها، متجاوزةً ادعاءات العدو وإرهابه، وأن الضربات المتعاقبة لم تزدها إلاّ نضجًا وصلابة وقوة وتصميمًا.
وإن كل الدلائل منذ بداية الصراع في فلسطين المحتلة، تثبت أن الاغتيالات في صفوف المقاومة الفلسطينية، تأتي دائمًا بنتائج عكسية ترتد خسارة على الاحتلال الإسرائيلي. وكل ما استطاعت اغتيالات القادة السياسيين والعسكريين تحقيقه، هو نجاحات تكتيكية مؤقتة، وليس نجاحًا استراتيجيًا طويل المدى، يكسر شوكة المقاومة، أو يوفر الأمن للاحتلال الإسرائيلي.
و بعد 24 سنة من الانتفاضة الثانية ومسلسل اغتيال القيادات الفلسطينية الذي واكبها، لم تستطع إسرائيل التأثير على معنويات المقاومين، كسر عزيمتهم، أو تدمير الروح القتالية لديهم. وعملية طوفان الأقصى بنتائجها الكبرى، وارتداداتها الجلّى في الداخل الإسرائيلي وخارجه، هي أكبر دليل على فشل خيار هذه الاغتيالات النوعية، وهي شاهد، أيضًا، على انتعاش الروح القتالية لدى المقاومة، وارتفاع معنوياتها وقوة عضدها، وصلابة عزائمها.
فإذا كان صعبًا تدمير المقاومة، أو كسر شوكتها، فما الذي تستهدفه إسرائيل، إذنْ، من هذه الاغتيالات النوعية؟ شيء واحد. وهو أبعد من الثأر والانتقام، وهو محاولة "ترويض" المقاومة، ومحاولة تطويعها حتى يكون التهديد الصادر منها ذا "نسبة مقبولة" يمكن احتواؤه واستيعابُه، ويمكن التأثير فيه لاحقًا، عبر مسارات الاقتصاد والثروة والمال.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.