بعد السابع من أكتوبر عام 2023، تغير العالم كثيراً، وسقطت الأقنعة العالمية، انقلب العالم رأساً على عقب وشهدنا نشوء وعي جديد بالقضية الفلسطينية خاصة بين الأوساط الغربية. شعر الناس بواجب أخلاقي تجاه الشعب الفلسطيني المحاصر في قطاع غزة تحت قنابل الكيان، فانهالت التبرعات وحملات التوعية حول السردية الكاذبة للاحتلال والتظاهرات في كل مكان مطالبة العالم بالتصدي للظلم، وضمن محاولات العالم لوقف الإبادة، ظهرت المقاطعة على الساحة العالمية والعربية.
المقاطعة تعني ببساطة نبذ جماعي منظم لطرف ما، اقتصادي أو سياسي أو حتى في علاقات اجتماعية اعتراضاً على مواقف وممارسات تعدّ غير عادلة البَتَّة ومجحفة.
سميت المقاطعة بلفظها الإنجليزي الحالي "boycott" في البداية على يد الأيرلندي تشارلز ستيوارت بارنيل في القرن التاسع عشر، أثناء الاحتجاج على إيجارات الأراضي الإيرلندية المرتفعة وتم نبذ مدير العقارات البريطاني تشارلز كننغهام بوكت الذي أصبح اسمه هو أصل الكلمة الإنجليزية والفعل للمقاطعة.
استخدمت المقاطعة كوسيلة ضغط واحتجاج على ممارسات مختلفة على مر التاريخ، فاستخدمتها النقابات العمالية لرفع الأجور وتحسين ظروف العمل، واستخدمتها الأقليات للحصول على حقوقها المشروعة مثلما حدث في تالاهاسي ولاية فلوريدا عندما تمت مقاطعة باصات المدينة من قبل المواطنين ذوي البشرة الداكنة احتجاجاً على التفرقة العنصرية، بالإضافة إلى استخدام المقاطعة في حركات الاستقلال كما فعلت حركة سواديشي الهند والتي هدفت إلى مقاطعة المنتجات البريطانية واستخدام بدائل هندية محلية.
والآن يمر العالم بحركة مقاطعة جديدة، تختلف عن سابقتها كونها عابرة للثقافات والقارات، غير مرتبطة بعرق أو دين أو مواطنة، وإنما تنبع من ضمير الإنسانية، الذي وخزته أحداث ما بعد السابع من أكتوبر في خاصرته.
فاستخدمت للاحتجاج على مواقف بعض الشركات العالمية من ممارسات الكيان المحتل على غزة، والضغط اقتصادياً على المشاركين والداعمين لهذه الإبادة، فنادى الناس بالامتناع عن شراء المنتجات ومقاطعة المطاعم المشهورة من منطلق الواجب الإنساني تجاه الفلسطينيين تحت شعار "لا تدفع ثمن رصاصهم".
لاقت دعوات المقاطعة صدى كبيراً في الدول العربية، خاصة تلك التي تملك منتجات محلية بديلة عن منتجات المقاطعة. فمصر على سبيل المثال، ذاع صيت منتجاتها المحلية مثل المشروب الغازي " سبيرو سباتس" وبديل الشيبسي " تايجر" وإلى آخر قائمة المنتجات التي انتعشت مبيعاتها على إثر تلك الدعوات، ولم يقتصر الأمر على مصر، فولدت قائمة بالبدائل تضاهي حجم قائمة BDS أو حركة مقاطعة إسرائيل، طولاً.
بدأت المقاطعة والجميع على قلب رجل واحد، أهداف واضحة وشركات محددة، ولكن في ظل استمرار الإبادة والعالم لا يرف له جفن لسد فوهة الدماء، تعاطى الناس في أوطاننا مع المقاطعة مثلها كمثل المخدر لتسكين الألم النفسي والعجز، وزادت قائمة المنتجات المحذورة، فتلك القائمة المحدودة لم تعد تؤتي مفعولها. زادت الجرعة وزاد الغضب من كل شيء، حتى أن المقاطعة طالت شركات لم تشارك في الإبادة بإصبع، لكنه الغضب من كل ما هو بلغة مغايرة، كل لسان غير عربي هو شريك، وكل شركة أجنبية هي داعمة للكيان!
في غمضة عين تحولت المقاطعة من عمل احتجاجي إلى مسوغ لتفريغ الغضب في غير المقاطعين، حتى وإن كان مجرد غضب إلكتروني لا يسمن ولا يغني من جوع. غضب مصدره الشعور بالمسؤولية والعجز، فتراشق الناس السباب والشتائم على السوشيال ميديا، والاتهامات بالانبطاح وكل ما يمكن أن يهوّن ألم الأيادي المكبلة.
لا يستطيع كائن من كان أن ينكر تأثيرها على بعض الشركات المستهدفة، فقد تراجعت مبيعات شركةِ ستاربكس الأمريكية "بنسبة 1.8 في المئة على مستوى العالم في بداية عام 2024 مقارنة بالعام السابق"، كما، وانخفضت مبيعات ماكدونالدز العالمية في الربع الأخير من العام الماضي إلى أقل من المتوسط السنوي للنمو، لتسجل أقل من 4 في المئة، مقارنة بحوالي 8.8 في المئة في الربع الثالث من نفس العام على إثر المقاطعة.
لكن الأمر لم يتوقف عند تكبيد الشركات خسائر اقتصادية رداً على دعمها للجيش الإسرائيلي وظهور أفراده بوجبات مجانية من ماكدونالدز، لكنه تحول إلى رؤية المقاطعة كمدفعية يمكنها تحرير الأرض وتخليصها من النزاع القائم عليها، حتى أنه نسب البعض خسائر إسرائيل الاقتصادية الناجمة عن حربها على غزة إلى المقاطعة والمقاطعة وحدها، والنظر لها أنها نضال حقيقي ومن تركها خائن!
في عدة أشهر تحولت المقاطعة إلى قضية في ذاتها، بدلاً من كونها دعماً لقضية، وازدادت قوائمها طولاً وامتلاءً بمنتجات مختلفة، ربما مردّ الأمر لصعوبة دعم القضية بطريقة أخرى في كثير من البلدان، ربما أيضاً لشعور البعض ومنذ زمن أنهم يناضلون لشيء ما في بلدان ذات بيئة طاردة لكل ما هو نضالي.
شَيْئاً فشيئاً عادت المقاطعة تَنْكُـمِشُ في الممارسة بين الناس. تركها البعض فراراً من المراقبة المجتمعية وفرض الوصاية، واعتراضاً على الإجبار بالمضايقات تارة وبالنبذ تارة أخرى، فلم تعد تلك الممارسة نابعة من ضمير الجميع قدر ما أصبحت نابعة من الرغبة في الشعور بأداء الواجب.
ويبقى التساؤل في خلفية كل شيء، هل يستمر تعاطي الناس مع المقاطعة بنفس القدر؟ هل ستزداد جرعاتها أم تقضي هي بنفسها على نفسها بسبب بعض الممارسات الخاطئة؟
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.