إن التصعيد الأخير للعمليات الإجرامية الإسرائيلية في مختلف أنحاء الشرق الأوسط يشكل فصلاً محورياً ومثيراً للجدال في المشهد الجيوسياسي المعقد في المنطقة. ويؤكد هذا السيناريو المتكشف، الذي يتسم بارتفاع التوترات والمناورات الاستراتيجية، على تحول أوسع نطاقاً في الديناميكيات الإقليمية. والواقع أن استجابة حركة المقاومة الفلسطينية "حماس" للدعوة الأميركية إلى استئناف مفاوضات وقف إطلاق النار تنبع من وعي بهذه المعادلات المتغيرة. وكان موقفها واضحاً وحازماً، فالخطة كانت جاهزة بالفعل ولا تتطلب المزيد من الحوار. وما تبقى هو قبول الاحتلال الإسرائيلي لوقف العدوان على غزة وتنفيذ الاتفاقات السابقة، التي عرقلها رئيس وزراء الاحتلال نتنياهو مراراً وتكراراً.
ويعكس موقف حماس الحالي تقييماً عملياً للوضع وهو أن عدد الجبهات التي تقاوم عدوان الاحتلال في المنطقة آخذ في الازدياد، والاحتلال، وليس حماس، هي التي تتردد في تبني وقف إطلاق النار. بالاستفادة من قدرتها على استعادة القدرات العسكرية بسرعة في غزة وتوقع الرد المحتمل من إيران وحزب الله واليمن، كان قرار حماس بالامتناع عن المزيد من المفاوضات سليماً من الناحية الاستراتيجية. وبدلاً من ذلك، دعت وبحق إلى إنفاذ الاتفاقات القائمة ووقف الإبادة الجماعية المستمرة ضد الشعب الفلسطيني في غزة على الفور.
هذه السلسلة من الأعمال العدوانية التي قامت بها إسرائيل، والتي بدأت بقصف البنية التحتية المدنية في اليمن، وامتدت إلى اغتيال زعيم حزب الله فؤاد شكر في الضاحية الجنوبية لبيروت، وبلغت ذروتها باغتيال زعيم حماس إسماعيل هنية في طهران، تسلط الضوء بشكل جماعي على شدة عدوانية وتطرف الاحتلال وهو ما يدفع إلى إشعال حرب إقليمية، فأغلب المؤشرات تذهب إلى حتمية الرد القوي من "محور المقاومة".
ما من شك أن اغتيال إسماعيل هنية أثار موجة عميقة من الغضب في طهران. احتشد مئات الآلاف من المعزين في شارع الثورة، وأصواتهم موحدة في دعوة متحمسة للانتقام من الاحتلال، مرددين "الموت لأمريكا والموت لإسرائيل". كان هذا التدفق من الحزن بعيدًا عن رد الفعل العفوي؛ لقد كان هذا النهج متشابكاً بعمق مع الحماسة الدينية والقومية، مما يعكس التضامن الدائم مع فلسطين وتبجيل الزعيم الراحل هنية. ويظهر هذا التشابك أنه بعيداً عن رغبة إيران بالرد لانتهاك السيادة الوطنية، أنه يوجد رغبة شعبية مستمرة بمعاقبة الاحتلال.
بينما تفسر التحركات الاستراتيجية لنتنياهو رواية أوسع نطاقاً كان يقدمها باستمرار، وخاصة في خطاباته إلى الجماهير الدولية، مثل الكونجرس الأمريكي. لقد وضع نتنياهو إسرائيل في موقع المدافع الرئيسي عن المصالح الغربية في الشرق الأوسط، وهو التصوير المصمم لتأمين مشاركة أمريكية وغربية أعمق في الحملات العسكرية الإسرائيلية. ويشير هذا النهج إلى محاولة نتنياهو إلى إرجاع كل شئ كما قبل الطوفان، حتى وهو يقوم بمجازر تبشر بعزلة تاريخية، إذ يسعى من خلال مناوراته إلى وضع نفسه في دعم دولي أوسع، وخاصة من الغرب.
يبدو أن الأهداف الأساسية وراء المناورات العدوانية الإسرائيلية الأخيرة ذات شقين: أولاً، التعويض عن فشلها القائم في غزة، وثانياً، توسيع نطاق الحرب على أمل استنباط تدخل حاسم من القوى الغربية. ويبدو أن حكومة نتنياهو تراهن على أن التصعيد من خلال استمرار الاستفزاز حركات المقاومة الإقليمية لترغم الولايات المتحدة وحلفائها على دعم رغبة نتنياهو المتهورة والهمجية بإشعال الحرب في المنطقة بأكملها.
ولكن هذه الرغبة المتطرفة محفوفة بمخاطر كبيرة واحتمالات سوء تقدير شديد. فمن خلال توسيع نطاق أعمالها العدائية، قد يعمل الاحتلال على تعزيز عزم ووحدة "محور المقاومة"، الذي يضم حزب الله وحماس وحلفائهما الإقليميين في إيران والعراق واليمن. فقد أظهر هذا التحالف تنسيقاً وقدرة ملحوظة على التكيف
وعلاوة على ذلك، من خلال تكثيف عملياتها العسكرية عبر جبهات متعددة، يخاطر الاحتلال بتجاوز قدراته وإشعال فتيل حرب إقليمية أوسع نطاقاً لا يمكن لأحد توقع نتائجها. فقد تؤدي استراتيجية "وحدة الساحات" التي يستخدمها محور المقاومة إلى تحويل المناوشات المحلية إلى مواجهة واسعة النطاق، مما قد يجتذب قوى إقليمية إضافية إلى المعركة ويزيد من تعقيد البيئة الجيوسياسية المتقلبة بالفعل.
ويبدو من المرجح بشكل متزايد أننا على شفا مثل هذا السيناريو، ولكن هذه المرة، ربما يستعد محور المقاومة لحرب مفتوحة من خلال تنويع ساحات المعارك والاستفادة من ترسانة الأسلحة التي تراكمت على مدى سنوات من التحضير.
لا يستطيع أحد أن يجزم بشيء في الحرب، لكن مقامرة الاحتلال على تأمين نصر رمزي واستراتيجي قد تؤدي إلى نتائج عكسية، مثل خسائر كبيرة وتقويض أهدافه على المدى البعيد. فإذا فشل الاحتلال في تأمين الدعم المتوقع من الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين، أو إذا ثبت أن هذا الدعم غير كاف لتحويل مسار الأمور، فقد تكون العواقب كارثية، ليس فقط من حيث النكسات العسكرية الفورية، بل وأيضاً فيما يتعلق بوضع الاحتلال ومستقبله في المنطقة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.