كشفت دراسات حديثة أجريت حول الآثار الجانبية المحتملة لاستخدام الذكاء الاصطناعي على الصحة النفسية والجسدية للموظفين، أن استخدام هذه التكنولوجيا في بيئات العمل يمكن أن يؤدي إلى زيادة مشاعر الوحدة والعزلة بين الموظفين، فضلاً عن التأثير السلبي على صحتهم العامة.
وتُشير الدراسة إلى أن الاعتماد المتزايد على الذكاء الاصطناعي في العمل قد يكون له ثمن يتجاوز الفوائد الإنتاجية، حيث يمكن أن يؤثر سلباً على الجانب الاجتماعي والصحي للعاملين. وهذا يفتح الباب لمزيد من النقاش حول كيفية تحقيق توازن بين التقدم التكنولوجي والحفاظ على صحة وسلامة الأفراد في بيئات العمل الحديثة.
وكانت السنوات الأخيرة قد شهدت تطوراً هائلاً في استخدام الذكاء الاصطناعي في مختلف مجالات العمل، ما أدى إلى تحسين الكفاءة وزيادة الإنتاجية، وهو ما يفتح الباب لمزيد من النقاش حول كيفية تحقيق توازن بين التقدم التكنولوجي والحفاظ على صحة وسلامة الأفراد في بيئات العمل الحديثة.
الموظفون الذين يستخدمون الذكاء الاصطناعي أكثر شعوراً بالوحدة
وكانت الأهداف العامة لهذه الدراسات وفق الباحثين اختبار مدى تأثير العمل مع الذكاء الاصطناعي على التكاتف الاجتماعي الذي يشعرون به مع زملائهم من البشر، وتوثيق العواقب الحقيقية لهذا النقص.
في الدراسة الأولى، أجرى الباحثون مقابلات مع 166 مهندساً في شركة تايوانية للطب الحيوي. في المتوسط، عمل هؤلاء الموظفون مع الشركة لمدة ثلاث سنوات تقريباً وكانوا يعملون باستخدام أنظمة الذكاء الاصطناعي لمدة تزيد قليلاً عن عامين.
أظهرت النتائج التي ركزت على تفاعلهم مع الذكاء الاصطناعي، شعورهم بالوحدة ورغبتهم في التواصل مع الآخرين والأرق الذي يعانون منه، أن المهندسين الذين عملوا بشكل أكبر مع الذكاء الاصطناعي أظهروا رغبة أقوى في التواصل مع الآخرين، ما أدى إلى بعض السلوكيات الإيجابية حيث ساعد الموظفون زملاءهم في العمل في محاولة لإعادة التواصل. لكنهم أبلغوا أيضاً عن شعور أكبر بالوحدة، ما أدى إلى زيادة الأرق.
مضاعفة الأرق
لإنشاء استنتاجات أكثر ثباتاً، أجرى الباحثون العديد من دراسات المتابعة التجريبية. في اثنتين من هذه الدراسات، تمكنوا من الوصول إلى مجموعة مكونة من 120 مستشاراً عقارياً في إحدى شركات إدارة العقارات الإندونيسية (مرة أخرى، متوسط مدة الخدمة حوالي ثلاث سنوات، وحوالي عامين من العمل مع الذكاء الاصطناعي) و294 موظفاً في العمليات والمحاسبة والتنفيذ.
والشركة الثانية التي شملتها الدراسة كانت شركة تكنولوجيا ماليزية (متوسط مدة الخدمة للموظفين يزيد قليلاً عن ثلاث سنوات، أكثر من سنة ونصف منها كانوا يعملون فيها باستخدام الذكاء الاصطناعي).
ويستخدم الموظفون في كل من هذه الشركات الذكاء الاصطناعي كأداة لدعم أنشطة عملهم اليومية، مثل البحث عن المعلومات وإنشاء محتوى وأفكار جديدة.
وقام الباحثون بتجربة تعيين بعض موظفي هذه الشركات بشكل عشوائي للعمل عن طريق الاستغناء عن الذكاء الاصطناعي لمدة ثلاثة أيام، وأظهرت النتائج مرة أخرى أن هؤلاء الموظفين الذين واصلوا العمل باستخدام الذكاء الاصطناعي (مقارنة بأولئك الذين لم يفعلوا ذلك) كانت لديهم رغبة أكبر في التواصل، وكانوا أكثر وحدة، مع العواقب المقابلة: المزيد من الأرق بالنسبة لأولئك الذين شعروا بالوحدة.
شعور الموظفين بالحرمان الاجتماعي
بشكل عام، تظهر هذه النتائج أنه كلما زاد تعاون الموظفين مع الذكاء الاصطناعي – لأنه يساعد على إكمال المزيد من المهام أكثر من أي وقت مضى – شعروا بالحرمان الاجتماعي حيث سيطر العمل على يومهم بأكمله.
وقد أيقظت حالة عدم التواصل مع الزملاء مع بعضهم البعض خلال يوم العمل رغبة بشرية قوية في التواصل مع الآخرين. لذلك، في حين أن تفاعلات هؤلاء الموظفين مع الذكاء الاصطناعي جعلتهم أقل ارتباطاً اجتماعياً بزملائهم في العمل، فقد دفعهم هذا الوضع إلى اتخاذ إجراءات لإعادة الاتصال.
ومع ذلك، على الرغم من هذه الإجراءات، لا يزال هؤلاء الموظفون يشعرون بالعزلة والحرمان الاجتماعي. أي أن تفاعلاتهم مع الذكاء الاصطناعي جعلتهم أكثر كفاءة وقدرة على القيام بالمزيد من العمل، ولكنها في الوقت نفسه تسببت لهم في الشعور بالوحدة، ما أدى إلى زيادة احتمال معاناة الموظفين من الأرق – وهي علامات منبهة ومثيرة للقلق تشير إلى الضيق الاجتماعي والاعتلال، والذي تظهر الأبحاث أن له تأثيرات سلبية على نوعية الحياة والمزاج والوظيفة المعرفية والسلوك والصحة بشكل عام.
كيف يمكن التوفيق بين استخدام الذكاء الاصطناعي وقدرات الموظفين؟
وتشير هذه النتائج إلى التكاليف الاجتماعية التي يدفعها الموظفون الذين يعتمدون بشكل تام في عملهم على الذكاء الاصطناعي. على أحد المستويات، قد تحفز العزلة التي يسببها الذكاء الاصطناعي الموظفين على الاستثمار بشكل أكبر في علاقاتهم الإنسانية، والبحث عن العلاقات الاجتماعية التي يفتقدونها. ولكن على مستوى أعمق، قد يؤدي ذلك إلى تآكل أساس تلك العلاقات – وهو الشعور بالإنسانية الأصيلة والمشتركة التي تدعم الاتصال والتعاون الحقيقيين، ونتيجة لذلك تتراجع صحتهم العقلية والجسدية.
بالإضافة إلى ذلك، من غير المرجح أن يقدم الموظفون المنعزلون، الذين يشعرون بالوحدة، أفضل ما لديهم في العمل. فهم أقل احتمالاً للتعاون أو الابتكار أو بذل جهد إضافي لمؤسساتهم. لذلك، يجب مراقبة رفاهية الموظف واندماجه الاجتماعي في الشركة، وليس فقط الأداء.
كما أن هناك طريقة أخرى يمكن للمؤسسات من خلالها منع الذكاء الاصطناعي من التسبب في آثار سلبية متصاعدة على صحة الموظفين، وهي اعتماد نهج يتمحور حول الإنسان في تنفيذ الذكاء الاصطناعي، بدلاً من جعل الذكاء الاصطناعي يترأس جميع المهمات اليومية للموظف، لذلك يجب على المؤسسات إعادة تصميم سير العمل حول نقاط القوة الفريدة لكل من البشر والآلات، ويجب عليهم خلق فرص للموظفين للتعاون مع الذكاء الاصطناعي بطرق تعزز استقلاليتهم، وإحساسهم بالسيطرة والإتقان، وشعورهم بأن وظيفتهم توفر لهم إحساساً بتقدير قدراتهم البشرية الابداعية؛ حيثُ تظهر الأبحاث أن الموظفين الذين يشعرون بالسيطرة في القيام بعملهم يشعرون بأنهم ذوو قيمة أكبر.