في السنوات الأخيرة، أصبح العالم الرقمي ملاذاً وعبئاً في آن واحد، ما أدى إلى ظاهرة تُعرف بالإنهاك الرقمي "Digital Burnout" . هذه الحالة، التي بدأ العلماء والمتخصصون في الصحة النفسية بالاعتراف بها بشكل متزايد، ناجمة عن التفاعل المستمر مع الشاشات الرقمية سواء للعمل أو التواصل الاجتماعي أو الترفيه.
الضغط المستمر من البريد الإلكتروني، والإخطارات المتواصلة من وسائل التواصل الاجتماعي، والاجتماعات المتتالية عبر الفيديو، تفرض عبئاً كبيراً على القدرات المعرفية، ما يؤدي غالباً إلى الإرهاق، وانخفاض الإنتاجية، وتقليل الرفاهية العامة.
تُظهر الدراسات أن أغلب الأشخاص العاديين يقضون الآن أكثر من سبع ساعات في اليوم أمام شاشات رقمية، وهذه الممارسة مرتبطة بمجموعة من الأعراض النفسية والجسدية مثل القلق، والأرق، والشعور العام بالضيق.
نمط الحياة هذا "المستمر دائماً" لا يؤثر فقط على أنماط النوم بسبب تعرضنا للضوء الأزرق، بل يعزلنا أيضاً عن التفاعلات الإنسانية المباشرة، والتي تعتبر حيوية للصحة العقلية. لمواجهة ذلك، يقترح الخبراء التخلص من الرقمنة المنظمة وتحديد أوقات بدون شاشات للمساعدة في إعادة ضبط تجاربنا اليومية وتقليل تأثير الإنهاك الرقمي.
علاوة على ذلك، فإن تداخل العمل في الحياة الشخصية، والذي أصبح شائعاً بشكل خاص مع ارتفاع ترتيبات العمل عن بُعد خلال الجائحة، قد طمس الحدود بين العمل والحياة المنزلية، مما زاد من التوتر والإرهاق.
الإنهاك الرقمي والاستنزاف الذهني والجسدي
الإنهاك الرقمي، هذه الظاهرة المتزايدة التي تجتاح عالمنا المعاصر، تُشير إلى الاستنزاف الذهني والعاطفي الذي يعاني منه الأفراد نتيجة التعرض المفرط للأجهزة الرقمية والأنشطة عبر الإنترنت. تشمل أعراضه القلق والإرهاق، وقد تتطور لتشمل مشاكل جسدية مثل آلام الصدر ومضاعفات صحية أخرى على المدى الطويل.
في يوم عمل تقليدي، تكون أدمغتنا تحت وطأة تيار مستمر من المعلومات التي تتطلب منا التنقل السريع بين مهام متعددة عبر عدة أجهزة، مما يخلق حالة من الإلحاح الدائم ويحفز إفراز الأدرينالين. سواء كان ذلك من خلال مشاركتنا في مكالمات زوم، الرد على البريد الإلكتروني، أو متابعة آخر تحديثات القطاع عبر منصات التواصل الاجتماعي، فإننا نجد أنفسنا محاصرين في دوامة تستنزف طاقتنا وتقلل من فعاليتنا.
وفي ظل هذا الترابط العالمي الذي لا مفر منه في عصرنا الرقمي، بات الخروج من هذه الدوامة تحدياً يواجه الكثيرين، ما يحتم علينا التفكير في استراتيجيات فعّالة لإدارة وقتنا وطاقتنا بشكل أكثر حكمة.
الادمان وترابط الإنهاك الرقمي
تجربة الانغماس غير المقصود في التصفح عبر الأجهزة الرقمية شائعة جداً في عصرنا هذا، حيث تُصمم منصات التواصل الاجتماعي خصيصاً لتجعلنا نعود إليها مراراً وتكراراً. الإحصاءات التي ذكرتها تعكس هذه الظاهرة بوضوح، حيث يقضي كثيرون، خاصة من جيل زد والألفية، ساعات طويلة يومياً على مثل هذه المنصات، مما ينم عن تأثير عميق ومتزايد لهذه التكنولوجيا على سلوكنا وصحتنا النفسية.
تُظهر الدراسات أن "الإعجابات" والتنبيهات والإشعارات تُشكل جزءاً من آليات تحفيز الدوبامين، الناقل العصبي الذي يرتبط بالمتعة والمكافأة، وهو ما يُفسر الشعور بالرغبة المستمرة في التحقق من الهاتف لرؤية جديد الإشعارات أو الرسائل.
كتاب "أمّة الدوبامين" لآنا ليمبكي يقدم تحليلاً معمقاً لكيفية استغلال هذه المنصات لغرائزنا الأساسية للتواصل، مما يجعل الكثيرين يقعون في دوامة استخدام هذه المنصات بشكل مفرط وغير صحي.
طرق لتقليل الوقت أمام الشاشات
توجد عدة طرق حسب الخبراء التي يمكن من خلالها التقليل من الوقت الذي يقضيه كل فرد أما الشاشات سواء كانت تلفزيون أو هاتفاً أو غيرهما، الشيء الذي يحد من الإنهاك الرقمي، من بين هذه الوسائل نجد:
- تعطيل بعض التطبيقات:
مع تزايد الاعتماد على الأجهزة الرقمية في حياتنا اليومية، أصبح من الصعب التفكير في فصل أنفسنا عن هذه التقنيات حتى لفترة قصيرة. لكن، هناك استراتيجيات وأدوات مدمجة في أجهزتنا يمكن أن تساعد في إدارة استخدامنا للتكنولوجيا بشكل أكثر فعالية دون الحاجة إلى إيقافها بالكامل.
على سبيل المثال، يقدم "آيفون" ميزة "وضع التركيز" (Focus Mode)، التي تتيح للمستخدمين تحديد التطبيقات والإشعارات التي يمكن أن تظهر خلال فترات معينة من اليوم، مما يساعد على تقليل التشتت وزيادة التركيز. هذا الوضع مفيد بشكل خاص في أوقات العمل أو الدراسة، حيث يمكن ضبطه لمنع الإزعاج من التطبيقات الترفيهية أو الاجتماعية التي قد تكون مشتتة.
فيما يخص وسائل التواصل الاجتماعي، تقدم العديد من المنصات مثل فيسبوك وإنستغرام وتويتر إعدادات يمكن من خلالها التحكم في الإشعارات والرسائل الواردة. يمكن للمستخدمين إدارة من يمكنه إرسال رسائل مباشرة، وكذلك حجب الإشعارات من الإعجابات أو التعليقات، مما يقلل من التفاعل الزائد مع هذه المنصات.
- اختيار ما تتابعه:
في عالم الإنترنت المعاصر، أصبحت الخوارزميات تلعب دوراً محورياً في تحديد نوع المحتوى الذي نتفاعل معه يومياً. من المهم أن نفكر بعمق في من نتابعهم ومن يتابعوننا، وكذلك النوعية التي تقترحها الخوارزميات من محتوى وأشخاص. إدارة هذه الجوانب بوعي يمكن أن يؤدي إلى تجربة أكثر إيجابية وأقل إرهاقاً على الإنترنت.
على سبيل المثال، يمكن لمستخدمي إنستغرام تحديد "الأصدقاء المقربين" واختيار من يرون محتواك، مما يوفر تجربة أكثر خصوصية وتفاعلاً مع الأشخاص الذين يهمك رأيهم حقاً. هذا يقلل من الضغط الناتج عن الرغبة في الحصول على الإعجاب والتعليقات من مجموعة واسعة من الأشخاص، ويتيح لك التركيز على الجودة بدلاً من الكمية.
إليك بعض النصائح لتحسين تجربتك الرقمية:
- مراجعة المتابعين والمتابعات: افحص قائمة من تتابع ومن يتابعك بانتظام. توقف عن متابعة الحسابات التي لا تضيف قيمة إلى تجربتك أو تلك التي تجلب لك السلبية.
- تعديل إعدادات الخصوصية والإشعارات: اضبط إعدادات الخصوصية لتحكم من يمكنه رؤية مشاركاتك ومن يمكنه التفاعل معها. كذلك، قم بتعديل إعدادات الإشعارات لتقليل الإزعاج.
- فلترة المحتوى: استخدم أدوات التحكم في المحتوى لتقليل ظهور المحتوى غير المرغوب فيه أو الإعلانات.
- العمل والمحيط المناسب:
إن العمل من المنزل يتطلب توازناً دقيقاً بين الالتزامات المهنية والحياة الشخصية. لذلك، من المهم جداً إعادة تقييم هذا التوازن بشكل دوري لتجنب الوصول إلى مرحلة الإنهاك الرقمي، والذي يمكن أن يؤثر بشكل سلبي على جودة حياتك الشخصية والمهنية.
إليك بعض النقاط التي قد تساعد في تحسين توازن العمل والحياة الشخصية عند العمل من المنزل:
- التحدث مع المدير: من المهم أن تكون صريحاً مع مديرك بشأن كيفية تأثير العمل من المنزل على صحتك النفسية والجسدية. مدير جيد سيكون متفهماً ومستعداً لاستكشاف طرق لجعل بيئة العمل أكثر مرونة ودعماً.
- تحديد ساعات العمل الواضحة: واحدة من أفضل الطرق لضمان وجود توازن صحي بين العمل والحياة الخاصة هي تحديد ساعات العمل بوضوح والالتزام بها. هذا يشمل تجنب الرد على الرسائل أو البريد الإلكتروني خارج هذه الساعات.
- استخدام تكنولوجيا بشكل متوازن: تحكم في استخدامك للتكنولوجيا عن طريق تعطيل الإشعارات في أوقات الراحة أو تحديد أوقات للانفصال التام عن الأجهزة الإلكترونية. هذا يساعد على الحد من التوتر وتعزيز الصحة العقلية.
- التشاور مع متخصصين: إذا شعرت بأن الضغوط تتزايد، قد يكون من المفيد التحدث إلى متخصص، مثل طبيب نفسي أو مستشار. يمكنهم تقديم إرشادات قيمة ودعم لمساعدتك على إدارة التوتر وتحسين صحتك العامة.