نتيجة للظروف السياسية والتحولات التي أسس لها الربيع العربي، تكونت صورة جعلت النضال المسلح الفلسطيني في العقل الجمعي العربي مقتصراً حصرياً على الإسلام السياسي المتمثل في حركة المقاومة الإسلامية حماس، التي تتصدر مشهد القضية الفلسطينية منذ الفشل الذريع الذي تلا اتفاقية أوسلو التي أسست لواقع مرير للفلسطينيين ضرب بكل جهود منظمة التحرير عرض الحائط بعد أن طرحت نفسها كبديل ينتهج الكفاح المسلح المؤسس على الخطاب الجهادي، في وقت تتجاوز الأحداث باقي المكونات الثقافية والدينية لشعب فلسطيني يعرف في الحقيقة منذ زمن بعيد تنوعاً دينياً وفكرياً وسياسياً يجهله كثيرون، خصوصاً في المغرب العربي، حيث يطابق الناس تماماً -لأسباب تاريخية وديموغرافية- بين العروبة والإسلام.
حتى عام 1948 كان المسيحيون الفلسطينيون يمثلون ربع سكان فلسطين التاريخية، ورغم أن عددهم تناقص بشكل رهيب لدواعٍ لا يتسع ذكرها إلا أنهم لا يزالون مساهمين مثلما كانوا دوماً في الحركة التحررية ومن بينهم الفصيل اليساري (الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين)، أو ما يعرف إعلامياً (كتائب أبو علي مصطفى) الذي شارك في هجمات طوفان الأقصى والذي أسسه المسيحي الفلسطيني د. جورج حبش.
ولد جورج حبش بمدينة اللد لأسرة أرثوذوكسية ميسورة هُجِرت بعد النكبة، درس الطب في الجامعة الأمريكية ببيروت، وتخرج كطبيب أطفال ثم عمل كأستاذ مساعد في علم الأنسجة بذات الجامعة قبل أن يتم فصله لمواقفه اليسارية اللينينية، أيديولوجية كانت القاعدة المنهجية للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين التي أسسها بعد هزيمة حرب الغفران 1967، رفقة زميله في كلية الطب المسيحي الآخر وديع حداد ومعهما مزيج نخبوي من المسيحيين والمسلمين الذين يتشاركون في ميولهم القومية العربية والناصرية والمتشبعين باليسار الثوري أمثال الأديب غسان كنفاني وأحمد اليماني. كان مسار حبش العلمي لافتاً، لهذا كانوا يدعونه بـ"الحكيم".
كانت الجبهة الشعبية تتبع الكفاح المسلح وتعتبر الصهيونية شكلاً من أشكال الإمبريالية المغروسة في المنطقة العربية التي لا تفرق في همجيتها بين العرب مسلمين كانوا أو مسيحيين، استلهمت الكثير من الثورة الفيتنامية، واتبعت أساليب حرب العصابات والعمل الفدائي واختطاف الطائرات في الخارج، وساهمت في التصدي للاجتياح الإسرائيلي للبنان سنة 1982، وعارضت جميع اتفاقيات التطبيع العربي مع إسرائيل وأوسلو، واستطاعت بعملية هوليوودية اغتيال وزير السياحة الإسرائيلي "رحبعام زئيفي" في أحد الفنادق سنة 2001 رداً على مقتل قائدها الزبيري.
عاشت الجبهة الكثير من الانشقاقات الداخلية أدت إلى حالة مما يمكن تسميته بالتقلب المرجعي الذي لم يتوقف منذ تأسيسها، وزادت التحولات التي ضربت العقيدة اليسارية عالمياً الطين بلة خصوصاً مع التواصل الخارجي النشيط بقيادة وديع حداد مع الكثير من الكيانات المعارضة مثل الجيش التحريري الأيرلندي والألوية الحمراء في إيطاليا، رغم كل هذا بقيت خلاياها المسلحة تنشط بالأساس في غزة إلى جانب حركتي حماس والجهاد، وهي أكثر من يحمل قناعات تحررية وطنية ذاتية لا تخضع للمزايدات الأيديولوجية أو الدينية، وتعمل بقواها الذاتية كي لا تسقط أسيرة الحسابات الإقليمية المتقلبة.
إن تحقيق الإجماع الوطني الفلسطيني قد أمسى ضرورة حتمية بعد الحرب في الغزة، ولا يمكن تصور حل آخر لمواجهة المخططات الإسرائيلية لمرحلة اليوم التالي خارج إعادة بعث منظمة التحرير وتحريرها من قبضة جهاز السلطة البيروقراطي الذي أصبح فاقداً للشرعية الداخلية والخارجية، سيحتاج الفلسطينيون إلى التأسيس لوحدة صف تشمل كل الأطياف الدينية والأيديولوجية التي كانت تحت لواء منظمة التحرير في إطار متفق عليه من أجل عمل نضالي أكثر فعالية وتشاركية وهيكيلية على كافة المستويات وبكل الأساليب، ولا يمكن بأي حال من الأحوال النظر إلى مكاسب عملية طوفان الأقصى والمعاناة الهائلة التي تبعته والتحول الكبير الذي شهده الرأي العام الدولي تجاه القضية الفلسطينية سوى باعتبارها فرصة تاريخية تؤسس لفصل حاسم من مسار التحرر.
لقد كانت أرض فلسطين مهبط الأديان التوحيدية الثلاثة، وهي تحمل إرثاً مسيحياً أضخم، لقد ولد المسيح في بيت لحم، وعمل نجاراً في الناصرة، ورآه الحواريون يمشي فوق مياه بحيرة طبرية، وكانت أرضها شاهدة على كل معجزاته قبل أن يصلبه الرومان ويدفنوه بالقدس القديمة حيث توجد حالياً "كنيسة القيامة" أهم كنيسة على وجه الأرض.
لذا فإن النضال الفلسطيني بحكم الوجوب ليس إسلامياً وحده ولا يمكن أن يكون سوى أشمل من ذلك، إنه صراع تحرري لشعب بكل أطيافه ضد قوة استعمارية على أرض سماوية مقدسة في كل الكتب والأديان. كان جورج حبش يقول دائماً:
"علينا أن نصنع شيئاً لشعبنا، ونثور حاملين رسالة النبي محمد والسيد المسيح".
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.