موسم استثنائي غير مسبوق، هذا ما يمكن وصف حج 2024 به، نظراً للعديد من المشاهد التي برزت خلال الأيام الأخيرة، وكان أبرزها حملات الملاحقة التي تقوم بها الأجهزة الأمنية السعودية لمنع المخالفين من دخول مكة المكرمة، وكذلك موجة الحر الشديد التي تصاحب المناسك هذا العام، إضافة إلى التقنيات والأجهزة الحديثة التي انطلقت من قبل السلطات السعودية في هذا الموسم.
3 مشاهد غير مسبوقة باتت تميز هذا العام تجعل موسم حج (1445 هـ/2024م) استثنائياً إلى حد كبير، واستعدت السعودية بمبادرات واستعدادات وترتيبات "ضخمة" لخدمة أكثر من مليونيْ حاج.
صباح الجمعة الثامن من شهر ذي الحجة 1445 هجرية (14 يونيو/حزيران 2024)، بدأت أولى محطات مناسك الحج، وذلك من صعيد مشعر "منى"، حيث يقضي الحجيج "يوم التروية"، وتستمر مناسك الحج على مدار 6 أيام.
كان حجّاج بيت الله الحرام قد بدأوا، مساء الخميس 13 يونيو/حزيران، تأدية "طواف القدوم" حول الكعبة المشرفة وسط المسجد الحرام، في مستهل مناسك الحجّ 1445، وسط تجهيزات وتسهيلات أعدتها الهيئة العامة للعناية بشؤون الحرمين لدخول الحجاج إلى الحرم المكي عبر مسارات متعددة، وتخصيص العديد من المداخل والأبواب الرئيسة والفرعية المؤدية للمطاف، وتخصيص عدد من الأبواب للخدمات والطوارئ.
أكثر من مليونيْ حاج
كانت رحلة الحجاج الأولى الواصلة للسعودية قادمة من الهند عبر طيران الخطوط الجوية العربية السعودية، وتحمل على متنها 283 حاجاً، حيث كان في استقبالها وزير النقل السعودي، صالح الجاسر، ونائب وزير الحج والعمرة عبد الفتاح مشاط.
والثلاثاء 11 يونيو/حزيران، أعلنت المديرية العامة للجوازات السعودية، قدوم مليون و547 ألفاً و295 حاجاً خلال موسم الحج لهذا العام عبر جميع منافذ المملكة الجوية والبرية والبحرية، حتى نهاية يوم الإثنين، في إشارة لإمكانية أن يزداد العدد، فيما نقلت وكالة الأنباء السعودية الرسمية توقعات تفيد بأن أعداد الحجاج "ستزيد عن مليوني حاج هذا العام".
وبحسب الدكتور توفيق الربيعة وزير الحج والعمرة، يشهد موسم الحج هذا العام عودة أعداد الحجاج إلى ما كانت عليه قبل جائحة كورونا، مشيراً إلى أن أعداد الحجاج هذا العام "مليونا" حاج.
المشهد الأول: تقنيات حديثة ومشاريع جديدة لخدمة الحجاج
ذكر الربيعة خلال تصريحاته أن تنفيذ خطط الحج لهذا العام انطلقت مبكراً لخدمة ضيوف الرحمن، عقب انتهاء موسم حج العام الماضي، وأشار إلى أن الخطط شملت هذا العام:
– تدريب أكثر من 120 ألفاً من العاملين، وقادة مجموعات الحجاج.
– عقد أكثر من 2500 ورشة تدريبية بعدد من اللغات في المملكة، و10 أخرى في دول حول العالم، حتى يتمكن العاملون من مساندة ما يزيد على 10 آلاف متطوع ومتطوعة.
– تهيئة وتطوير المنشآت في المشاعر المقدسة وتدعيم منشأة الجمرات بمظلات علوية مع تلطيف للهواء بالرذاذ؛ لخفض درجات الحرارة، إلى جانب رفع كفاءة وجاهزية السلالم الكهربائية المتحركة، بهدف تسهيل وصول الحجاج إلى مواقع رمي الجمرات.
– استحداث 11 مبنى لاستيعاب 37 ألف حاج كنموذج أولي لتحسين تجربة سكن الحجاج.
– تطوير المنطقة المحيطة بالمشعر الحرام بتدشين مشروع (مسار المشعر الحرام) ليكون ملائماً للمشي والتنقل بيسر وسهولة.
– تجهيز أكبر محطة تبريد في العالم لتنقية الهواء في المسجد الحرام، لتلطيف الأجواء وتبريدها على حجاج بيت الله الحرام.
– تشغيل قطار المشاعر (بين منى وعرفات) بطاقة استيعابية تبلغ 72 ألف راكب في الساعة الواحدة، للإسهام في نقل ما يزيد عن 350 ألف حاج بين المشاعر المقدسة.
– كما أعلنت الشركة السعودية للكهرباء استعدادها للموسم بتنفيذ 20 مشروعاً جديداً بشكل يسهم في تحسين جودة الخدمة الكهربائية وضمان راحة الحجاج خلال تأديتهم لمناسك الحج.
استعدادات صحية
كما تضمنت خطط الوزارات السعودية الأخرى وفق ما نشرته وكالة الأنباء السعودية، التالي:
– صحياً، هناك استعدادات ضخمة أبرزها تجهيز الخدمات الصحية بوزارة الدفاع بعثة متكاملة تضم 1666 من الكوادر الصحية والإدارية والفنية، و23 وحدة صحية مجهزة بأحدث المواصفات والمعايير تشمل أقسام للعمليات الجراحية ووحدات لضربات الشمس والإجهاد الحراري.
– وتضم البعثة أيضاً 10 مستشفيات، و9 عيادات أولية، و4 مراكز إسعافية، وذلك بطاقة استيعابية تبلغ نحو 900 سرير، بخلاف 30 فرقة للاستجابة السريعة للطوارئ والكوارث.
– كما تستهدف رئاسة الشؤون الدينية للمسجد الحرام والمسجد النبوي ترجمة خطبة عرفات لموسم حج 1445هـ بـ20 لغة عالمية حتى تتمكن من الوصول إلى مليار مستمع، وهو أكبر عدد مستهدف لمشروع ترجمة خطبة عرفات منذ تأسيسه (قبل 6 أعوام في 1439هـ).
– وأعلنت الهيئة العامة للعناية بشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي، مشاركة 5138 من العمالة داخل المسجد الحرام يتم من خلالهم غسل البيت العتيق وتطهيره يومياً، عبر 4000 معدة وآلة بإشراف 400 موظف على مدار 24 ساعة.
– كما تم تجهيز 68 شاشة إضافة لاستخدام 53 لغة للإرشاد المكاني، إضافة إلى تهيئة 22 مصعداً لخدمة ضيوف الرحمن وتجهيز 33 ألف سجادة في المسجد الحرام والتوسعة.
– ووفرت الهيئة 224 من السلالم الكهربائية لكبار السن، وجهزت 140 باباً من أبواب المسجد الحرام للتسهيل على ضيوف الرحمن عمليات الدخول والخروج خلال موسم الحج، فضلاً عن 20 ألف حافظة (مياه) زمزم، وعدد 3442 من دورات المياه التي يتم تنظيفها وتعقيمها بشكل يومي طوال الوقت، بالإضافة إلى تجهيز كل دورة بعدد 245 من الفواحات المعطرة.
– يشهد موسم الحج هذا العام وللمرة الأولى تدشين الهيئة العامة للنقل مركز التحكم والمراقبة المتنقل لمتابعة حركة مركبات النقل العام في مكة المكرمة والمشاعر المقدسة، بما يسهم في دعم اتخاذ القرارات اللازمة لضمان المحافظة على سلامة وراحة ضيوف الرحمن.
– كما أعلنت الهيئة أيضاً عن تشغيل سيارة الرصد الآلي للمرة الأولى في موسم الحج لهذا العام 1445هـ، بهدف متابعة جميع وسائل النقل المستخدمة لنقل الحجاج، لضمان تقديم خدمات النقل لضيوف الرحمن بشكل آمن وموثوق.
المشهد الثاني: موجة حر غير مسبوقة
وفي ظل موجة الحر الشديد التي تضرب منطقة الشرق الأوسط بالتزامن مع بدء موسم الحج، أعلنت الشركة السعودية للكهرباء أن مكة المكرمة سجلت، الجمعة، أحمالاً كهربائية قياسية بلغت 5361 ميغاواط، بنسبة 20% زيادة عن الرقم الأعلى المسجل في تاريخ الحج.
كما تم تجهيز 883 وحدة تكييف، فيما يبلغ عدد مراوح التهوية 4079 وعدد مراوح الرذاذ 244 مروحة.
فيما تشمل تدابير تخفيف الحرارة هذا العام، تغطية الطرقات التي يستخدمها المصلون بمادة بيضاء، ما يخفض درجة حرارة الأسفلت بنسبة 20%، وفق السلطات السعودية، من أجل التغلب على درجات الحرارة العالية التي تضرب الشرق الأوسط رغم عدم دخول موسم الصيف بشكل رسمي والذي من المفترض أن يبدأ في 20 من يونيو/حزيران من كل عام.
وقبل أيام حذرت وزارة الصحة السعودية الحجاج من أخطار التعرض لارتفاع حرارة الأسطح بالمشاعر المقدسة، التي تصل إلى 72 درجة مئوية في بعض المناطق الجبلية.
ونبهت وزارة الصحة، الحجاج إلى أن التعرض لأشعة الشمس لفترات طويلة يشكل خطراً كبيراً على صحتهم، مشيرة إلى أن موسم الحج هذا العام يأتي مع ارتفاع درجات الحرارة على مكة المكرمة والتي تعد كبرى الصعوبات التي يواجهها الحجاج.
ودعت الوزارة الحجاج إلى استخدام المظلات بشكل دائم لتجنب التعرض للشمس بشكل مباشر، وشرب المياه بكميات كافية على مدار اليوم، حتى لو لم يشعروا بالعطش، والالتزام بكل التعليمات والنصائح الصحية، والابتعاد عن الخروج والتعرض لأشعة الشمس أو المشي على الأسطح أو لمسها خلال ساعات الذروة.
المشهد الثالث: عقوبات على المخالفين
المشهد الأبرز هذا العام هو الحملة القوية غير المسبوقة التي تقوم بها السلطات السعودية حيال المخالفين لأنظمة الحج، فالسبت الماضي أعلنت السلطات أن قوات الأمن قد ضبطت أكثر من 300 ألف شخص غير مسجلين لأداء الحج، بحسب وكالة الأنباء السعودية (واس).
ومن بين المبعدين من مكة 153,998 أجنبياً جاؤوا بتأشيرات سياحية بدلاً من تأشيرات الحج. وقالت وزارة الداخلية السعودية إن الأمن العام ضبط خلال الفترة الماضية 140 حملة حج وهمية و64 ناقلاً مخالفاً لأنظمة وتعليمات الحج وإعادة أكثر من 97 ألف مركبة مخالفة وإعادة (171,587) مقيماً من غير المقيمين بمكة المكرمة و(4,032) مخالفاً لأنظمة وتعليمات الحج، أي محاولة الحج دون تصريح، وأكثر من 6 آلاف مخالف لأنظمة الإقامة والعمل وأمن الحدود.
مستشار اللجنة الوطنية للحج والعمرة سعد القريشي أوضح أنه "لن يتم التسامح مع أي شخص لا يحمل تأشيرة حج ويجب أن يرجع إلى بلده". لافتاً إلى أن الحجاج غير النظاميين يُضبطون عبر بطاقات (نسك) التي تمنح للحجاج الرسميين وتحتوي على باركود للدخول إلى المشاعر المقدسة، مشيراً إلى أن البعض حاول تزويرها لكن فشلوا، بحسب تقرير لهيئة الإذاعة البريطانية BBC.
وبحسب القريشي: "تُهاجم الشقق السكنية التي يتواجد فيها مخالفون ويتم إخراج الناس منها وإبعادهم عن مكة المكرمة إلى منطقة جدة ومن ثم ترحيلهم إلى دولهم"، مضيفاً أن "بعض السماسرة وضعاف النفوس يتكسبون من الراغبين بالحج، ويشجعونهم على استخدام تأشيرات الزيارة لأداء الحج، وهي تأشيرات لا تخول لحامليها أداء الفريضة".
وانتشر العديد من المقاطع المصورة التي تظهر ضبط المئات من غير الحاملين لتصاريح الحج واقتياد بعضهم إلى مراكز الترحيل.
لماذا يلجأ البعض للتحايل؟
يتمنى ملايين المسلمين تأدية فريضة الحج، لكن لم تتحقق الأمنية سوى لنحو مليوني مسلم هذا العام، وتتنوع أسباب "تحايل" البعض كي يتمكن من الحج، من التكلفة المرتفعة إلى الإجراءات المشددة للحصول على تأشيرة الحج إلى "الكوتة" المحددة لكل دولة. ورصد تقرير لبي بي سي تجارب عدد ممن أقدموا على خطوة "التحايل".
"تكلفة الحج باهظة للغاية" هو السبب الذي دفع عبد الحميد للجوء للحج دون تصريح رسمي، إذ قال إن التكلفة في بلده مصر قد تتخطى 300 ألف جنيه (6300 دولار)، في حين تبلغ تكلفة الحج دون ترخيص ربع هذا المبلغ. إذ تبلغ تكلفة الحج في مصر هذا العام في حدها الأدنى نحو 4 آلاف دولار (ما يناهز 200 ألف جنيه مصري)، بينما يتضاعف المبلغ في حالات الحج السياحي وحج الجمعيات الأهلية.
أما في الأردن فتبلغ تكلفة رسوم الحج نحو 3 آلاف دينار أي ما يعادل (4200 دولار)، بينما تبلغ الكلفة للحاج بـ"التهريب" عبر تأشيرة الزيارة، نحو ألف دينار (نحو 1400 دولار)، وفق قريب للحاج محمد وزوجته إيمان اللذين يسعيان لأداء المناسك حالياً عبر تأشيرة الزيارة. وتحدث آخرون في الأردن عن كلفة قد تصل إلى ألفي دينار للحاج غير النظامي، أي ما يقارب 2800 دولار.
وبشكل عام ارتفعت أسعار الحج في العالم العربي خلال العام الجاري مع زيادة أسعار تذاكر الطيران وتراجع العديد من العملات أمام الدولار، بينما تتفاوت التكاليف بين التأشيرات التي تقدمها الشركات الخاصة والحكومات.
ففي الجزائر، تبلغ تكلفة الحج هذا العام 840 ألف دينار (6248 دولاراً) بما يشمل السفر والنقل والإقامة. وفي موريتانيا، قال وزير الشؤون الإسلامية الموريتاني الداه سيدى اعمر طالب للجزيرة إن كلفة الحج هذا العام زادت بسبب ارتفاع أسعار تذاكر الطيران وارتفاع أسعار صرف العملات الأجنبية. وتبلغ تكلفة الحج 280 ألف أوقية (7 آلاف دولار)، في حالة التأشيرة الحكومية، أما إذا حصل الحاج من خلال الوكالات المستقلة فستبلغ كلفته 370 ألف أوقية (9 آلاف دولار) شاملة كافة خدمات الحج.
ماذا تقول منصات التواصل الاجتماعي؟
انتشرت على منصات التواصل الاجتماعي في الأيام الأخيرة مقاطع فيديو تظهر مداهمة قوات الأمن السعودية شققاً سكنية يوجد بها مخالفون لنظام الحج، أي دخلوا بتأشيرة سياحة وأرادوا تأدية الحج، وذلك في مكة المكرمة ومحيط المناطق الخاصة بمناسك الحج.
وتباينت ردود الأفعال بين مؤيد لما تقوم به أجهزة الأمن السعودية، انطلاقاً من ضرورة تنظيم الأمر حتى لا يخرج عن السيطرة، وبين مستنكر لذلك على أساس أن زيارة الأماكن المقدسة وتأدية فريضة الحج يجب أن تكون أكثر تيسيراً وأقل تكلفة حتى لا تدفع البعض للتحايل على الأمر.
وبالنسبة للمقيمين في السعودية، يبدو أن الأمور تزداد تعقيداً، وفقاً لسعيدة (اسم مستعار) وهي سيدة مصرية تعمل في المملكة، حيث قالت لبي بي سي إنها وقفت حائرة بين تكاليف تجديد الإقامة لابنها وابنتها اللذين عادا إلى مصر لاستكمال الدراسة، وبين كلفة تأشيرة الحج، إذ تقول إن كلفة تجديد الإقامة للمرافق الواحد لمدة عام تبلغ نحو 1280 دولاراً على الأقل، ناهيك عن رسوم تأشيرة الحج.
بينما قال عبد الحميد (اسم مستعار) إنه سافر من مصر إلى السعودية بتأشيرة الزيارة، ودخل مكة عبر أحد الطرق غير المأهولة، لكنه مضطر إلى العزلة الكاملة في شقة وفرها له مسؤول الحملة، خوفاً من ضبطه من الشرطة السعودية، وأضاف لبي بي سي: "أنا لا أخرج أصلاً من مكاني، ومسؤول الحملة هو من يُحضر كل ما أحتاجه من الخارج".
ونظراً لتشديد الإجراءات حالياً في مكة، فإن الكثير من الرجال يلجأون إلى السفر دون ارتداء ملابس الإحرام، وفق ما رصدته بي بي سي عبر وسائل التواصل الاجتماعي.