تنبثق الحياة -كل الحياة- من الجسد، فهو الكائن الحي الذي تتفجر فيه ينابيع الوعي و الفكر والحركة، إنه أصل ينبع منه كل شكل غامض لأشكال الفكر وأشكال الوعي التي اتخذتها الفلسفات المحددة لها بما أنها تمثل نهاية ما يسميه نيتشه على لسان زرادشت في قوله: "الجسد عقلك الكبير وهذا العقل الصغير الذي نسميه وعياً ليس سوى أداة صغيرة ولعبة في يد عقلك الكبير يمكن خلق أفكارك وأحاسيسك كائن أكثر نفوذاً حكيم مجهول يسكنك، إنه جسدك".
إن قول نيتشه هذا ينطوي على منافحة قوية ضد الاتجاهات الفلسفية "الروحية" التي تقدس النفس وتبخس الجسد، فتربط الأولى بعوالم ميتافيزيقية يعتقد أنها تتميز بالحكمة والثبات والصفاء، وتربط الثاني بعوالم أرضية يعتقد أنها تنضح بألوان الشهوة والغريزة والرغبة، على أساس أن هذا الأخير يتصدى للفكر ويمنع الإنسان من تحقيق الكمال، هذا الأمل التعيس الذي كان يحذوه منذ وجوده على هذه الأرض، فالكمال عنده لا يمكن أن يتحقق إلا إذا طوعنا الجسد وأخضعناه للروح التي لا تفنى، لا الجسد الذي يذبل، فوجود الإنسان في الجسد فهم بطريقة ميتافيزيقية وثيولوجية، لا بطريقة أنطولوجية فينومينولوجية.
فمن الناحية الأولى -أي الميتافيزيقية- يعتبر الجسد حاجزاً أمامنا لبلوغ الحقيقة المطلقة والمثلى، لأنه وببساطة مادة، والمادة تطالها الأعراض والتغيرات، وكل متغير متقلب، وكل متقلب لا يبقى على حاله لا يؤسس عليه ولا يتخذ مسلكاً ولا يوثق به، فلا يصلح والحالة هذه أن نؤسس معرفة يقينية على جسد واهن هش متراخٍ ومترهل يؤول بالطبيعة إلى الموت والهلاك، وهذه مشكلة أفلاطون مع الجسد، فضلاً أن هذه المشكلة تختلط بما هو ثيولوجي، على اعتبار أن أفلاطون لم يسلم من تأثير الديانات ولم تسلم الديانات من تأثيره، فقد انتعش فكره في العصور الوسطى حيث سيادة الدين أكثر من انتعاشه في اليونان حيث سيادة المنطق، وهذا ما يثير الاستغراب، وهذا الثيولوجي في فكره يتمثل في اعتقاده بأن الجسد كتلة لهب مشتعلة من الشهوات والغرائز والنزوات والرغبات التي لا تنتهي، إنه -بحسبه- قبر النفس؛ لأنها مدفونة فيه طوال الحياة.
إنها أشبه بالتابوت، فالإنسان الذي يحبس نفسه في سجن الجسد ولا يحاول الانعتاق من أغلال شهواته ورغباته يبقى أسيراً وعبيداً لها، الشيء الذي يؤدي إلى خنق العقل ووأد ملكة التفكير والانزلاق في مهاوي الضلال والوهم والسراب، حيث تنعدم الحقيقة، وحيث لا يوجد سبيل آخر للتسنم بالعقل إلى عالم المثل ، وفي هذا القول نصيب من الصحة، فلو اطلعنا على السيرة الذاتية لأعظم الشخصيات في التاريخ، خصوصاً الفلاسفة، سنجد أن أغلبهم قد كبح جماح جسده، واهتموا أيما اهتمام بمعرفة الذات، لكن لم يهتموا بالانهمام بالذات كما تحدث في ذلك الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو.
والحق أن تصور أفلاطون هذا في محاورة "فيدون" حول الجسد تعتريه الكثير من المغالطات وتعتوره العديد من التناقضات والمفارقات، لعل أبرزها هو أنه إذا كان الدين يحث الإنسان عن الانسحاب من عالم الشهوات والرغبات والتخلص منها ما أمكن ذلك، والانصراف من دائرة الجسد وما يطلبه منا، والانكباب بالمقابل على العبادة والطاعة، والانحشار في دائرة التنسك والتزهد والتبتل، فإن الفلسفة أيضاً تنص على تقويض ملذات الجسد لكي يتسنى لنا أن نتفرغ للتفكير العقلي لإنتاج معرفة منطقية ومطلقة. فكيف تجرأت الفلسفة على القطع بصفة نهائية مع الجسد كما الدين مع العلم بأنها منفصلة تماماً في جوهرها عن التصورات الدينية؟ لماذا لم تنتبه إلى الجسد ولم يحز نصيباً من اهتمامها؟
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.