إن انكشاف نفاق الغرب ومعاييره المزدوجة في تطبيق المبادئ التي يدعو إليها ليس بجديد، ويمكن تفسيره من خلال مفهوم "الاستشراق" الذي نظّر له المفكر إدوارد سعيد وما صاحب ذلك من أدلة وبراهين على ترّسخ النظرة الحضارية العنصرية للغرب إلى الفلسطينيين أو غيرهم من الأفريقيين والآسيويين.
فهناك نزعة عنصرية ممنهجة في أعمال بعض فلاسفة عصر التنوير الذي يُعدّ الأساس الفكري لنظام الحداثة الغربي مثل كانط وهيجل وفولتير وجون لوك. كما ارتكب الأوربيون في ذروة عصر إمبراطورياتهم الحديثة جرائم عديدة مثل جرائم الإبادة الجماعية لألمانيا في ناميبيا، والجرائم ضد الإنسانية لبلجيكا في الكونغو، ولفرنسا في الجزائر، ولبريطانيا في الهند، وغيرها الكثير.
لكن ابتذال الخطاب السياسي الأمريكي والغربي وصل إلى مستويات غير مسبوقة في المدى والعمق بحيث أصبح يمس جوهر الحضارة الغربية نفسها وأساسها الأخلاقي.
ولعل من أوضح دلائل هذا الابتذال هو إصرار أمريكا والغرب على إنكار جرائم الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في غزة، على الرغم من أن محكمة العدل الدولية أخذت بوجاهة هذا الاتهام وشرعت في التحقيق فيه، بل وفرضت على إسرائيل إجراءات احترازية لمنع استمرار هذه الجرائم. أما بالنسبة لمحكمة الجنايات الدولية، فقد أجبرت أمريكا المحكمة على اتهام روسيا بالإبادة الجماعية في أوكرانيا وإصدار مذكرة اعتقال بحق الرئيس الروسي بوتين، لكنها هددت المدعي العام لنفس المحكمة بملاحقته إذا باشر في إصدار مذكرات التوقيف بحق قادة إسرائيل المسؤولين عن جرائم الاحتلال في حرب غزة.
كذلك يساهم الغرب في حرب الإبادة ضد الفلسطينيين من خلال الدعم العسكري والاقتصادي لإسرائيل، بالإضافة إلى حمايتها سياسياً عبر استخدام الفيتو في مجلس الأمن، وإعلامياً من خلال تسخير إعلامها العالمي لترويج السردية الاسرائيلية.
لقد تناسى وتغافل الغرب عن جرائم الإبادة الجماعية التي تقترفها إسرائيل في غزة ضد المدنيين الفلسطينيين والتي أثارت الاستنكار والاحتجاج العالمي حتى في قلب الغرب نفسه؛ فقد تم استهداف الآلاف من المدنيين معظمهم من الأطفال والنساء، مع التدمير الكامل للمنشآت الصحية والخدمية والتعليمية التي حوّلت غزة إلى أرض من دون حياة فاقت حالة الدمار التي شهدتها ألمانيا في نهاية الحرب العالمية الثانية.
كذلك سعت إسرائيل إلى التطهير العرقي في غزة وشرعت بارتكاب الإبادة الجماعية بتحريض ديني-سياسي من النخبة السياسية الحاكمة، كما وثّقت ذلك جنوب أفريقيا في دعواها ضد إسرائيل في محكمة العدل الدولية. يضاف إلى ذلك التوثيق المصور للجرائم التي يندى لها جبين الإنسانية مثل مقتل الطفلة هند رجب، ومجزرة مستشفى الشفاء، وقنص النساء والأطفال وكبار السن، مع التحقير لإنسانية الفلسطينيين بتسميتهم بالحيوانات البشرية.
لقد أنكر وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن جرائم إسرائيل في خطابه في أبريل الماضي -بمناسبة إصدار تقرير حقوق الإنسان لعام 2023- مكتفياً "بالقلق" للخسائر الفادحة في أرواح المدنيين في غزة ومبرّراً هذه الجرائم "لممارسة إسرائيل حقها لضمان عدم حدوث مثل هذه الهجمات مرة أخرى".
لكنه في نفس الوقت، تجرّأ بالتلويح بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وتبجح بالمنهجية التي اتبعها موظفوه في إعدادهم لهذا التقرير؛ بينما لم يفته أن يستنكر تجاوزات حقوق الإنسان في بيلاروسيا وفنزويلا وكوبا بالإضافة إلى روسيا ونيكاراغوا، وأن يتعاطف مع نساء أفغانستان تحت حكم طالبان ثم يتضامن مع المجتمعات المثلية في أوغندا.
أما فكرياً، فقد تراصف العديد من المفكرين الغربيين للدفاع عن إسرائيل في عدوانها على غزة، من بينهم الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس -المُنظّر لمفهوم الفضاء العام ونظريات متعلقة بخطاب الأخلاق وإعادة البناء العقلاني- الذي وقّع مع مفكرين آخرين "مبادئ التضامن"، عادّاً الانتقام العسكري الإسرائيلي "مُبرَراً من حيث المبدأ"، ومدعياً أن أي "معايير للتقييم تخطئ تماماً عندما تنسب نوايا الإبادة الجماعية إلى الأفعال الإسرائيلية"، وأن "روح الديمقراطية" المتمحورة حول حماية حقوق الإنسان في ألمانيا مرتبطة بحق إسرائيل في الوجود.
لكن انكشاف لاأخلاقية الغرب في التعامل مع تداعيات حرب غزة تخطى العنصرية ضد الفلسطينيين، إلى التجاوز على حرية التعبير والحرية الشخصية داخل الغرب نفسه، ما أصبح يمس الفكر الليبرالي الغربي في الصميم.
فقد عُوقب الموظفون في المؤسسات العامة والخاصة بسبب التعبير عن مساندتهم للقضية الفلسطينية، وقُمعَ طلاب وأساتذة الجامعات بوحشية عند اعتصامهم ومطالبتهم بوقف الاستثمار والتعاون الأكاديمي مع إسرائيل، لا بل تم اعتقال الأشخاص لمجرد ارتدائهم لملابس قد يُفهم منها تعاطفهم مع حركة حماس. كما تواطأت كبرى شركات التكنولوجيا الرقمية في الانحياز الخوارزمي والرقابي إلى جانب الاحتلال الإسرائيلي وحجب المنشورات المساندة لفلسطين على منصات التواصل الاجتماعي المملوكة لهم.
إلا أن الأكثر مفارقة هو في كشف حصر القيمة الإنسانية للفلسطينيين فيما تُوّفِر هذه القيمة من إضافة لمصالح الغرب المادية.
فقد أشار جاريد كوشنر، صهر وكبير المستشارين للرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، في لقاء مع البروفيسور طارق مسعود من مركز الدراسات الشرق أوسطية في جامعة هارفارد، إلى أن أرض غزة "هي من ممتلكات الواجهة البحرية التي يمكن أن تكون ذات قيمة كبيرة للذين يسعون للبناء والتعمير"، وأنه لو كان معنياً بالأمر مباشرةً، "كان سيعمل جهده لنقل الناس خارج المنطقة وتنظيف القطاع".
فقيمة أرض غزة من منظور كوشنر -وهو يمثل الشريحة الأكثر سيطرة على سياسات الغرب الداخلية والخارجية- هي فقط كعقارات بواجهة بحرية يمكن أن تكون مُربحة للمستثمرين إذا تم التخلص من الفلسطينيين وعبئهم "الإرهابي"؛ أي لا توجد أي قيمة مضافة لحق الفلسطينيين في أرضهم التاريخية، إذ رأى أن الدولة الفلسطينية هي "فكرة سيئة للغاية". كما هلّل كوشنر للنموذج الحداثي السعودي بقيادة محمد بن سلمان الذي تخلص من الراديكالية في المجتمع السعودي وبات يعمل على تحويله إلى مجتمع ليبرالي خلاق متصالح مع قيم الحداثة الغربية ومتحالف مع إسرائيل اقتصادياً وعسكرياً، كمثال يمكن تطبيقه في أراضي الفلسطينيين.
لقد كشفت الحرب الوحشية الإسرائيلية-الغربية على الفلسطينيين في غزة على تأصّل دافع الجشع المادي في القيم الأخلاقية الغربية الذي يمكن أن يخفي الوحشية واللا إنسانية خلف واجهة من الحداثة والتنوير. فبالنسبة إلى المفكرين الأخلاقيين الألمان، فإن حياة الطفل الفلسطيني ليس لها نفس القيمة لحياة الطفل اليهودي في إسرائيل "الديمقراطية" والمنتمية الى الحضارة الغربية؛ لأن الثمن الذي سيدفعه هؤلاء مقابل اتهامهم باللاسامية هو أكبر بكثير من الثمن الذي سيدفعونه إذا تم اتهامهم بالعنصرية أو النفاق. وفي نفس الوقت يمكن تسويق الطفل الفلسطيني كرقم بدون اسم أو قصة حياة في مجتمع متخلف ليس من المتوقع فيه أن يقدّم أي مشاركة حضارية في المستقبل، مقابل الطفل اليهودي "المتحضر" مع كل احتماليات مساهمته الحضارية، فتخسر الإنسانية جمعاء لمقتله.
تجدر الإشارة في هذا السياق، إلى أن العديد من المفكرين العرب والغربيين مثل وائل حلاق وطه عبد الرحمن وميشال فوكو وألسدير ماكنتاير قد شخصوا جوهرية الأزمة الأخلاقية في الحضارة الغربية والقصور البنيوي في الأساس الأخلاقي لمفهوم الحداثة الغربية. ومن هنا ينبغي التشديد على أهمية نقد أسس هذه الحداثة بصورة موضوعية بما تتضمنه من مفاهيم مثل الديمقراطية والعلمانية والاقتصاد الحر وأسس المعرفة وحقوق الإنسان في الحريات الفردية.
فهذه المفاهيم كانت قد تطورت إلى ما نراه الآن من خلال ظروف المجتمعات الأوروبية في القرون الوسطى والتي تختلف جوهرياً عن ظروف مجتمعاتنا المشرقية عند تفاعلها مع الحداثة الغربية. ومع ذلك لا نزال نرى الكثير من المثقفين يصنفون أنفسهم إما إلى مدنيين (أو علمانيين) ينزهون المفاهيم الحداثية الغربية، أو إسلاميين (محافظين) يرفضون هذه المفاهيم أو بعضها، مع أن كلا الصنفين لا ينقدان هذه المفاهيم موضوعياً أو يقدمون بدائل مناسبة لمجتمعاتنا.
أخيراً، هناك حقائق لا يمكن تغافلها وهي:
أولاً: أن الحضارة الغربية المستندة على الحداثة الأوروبية تعيش أزمة أخلاقية تهدد استمراريتها في الهيمنة على العالم. وثانياً: لم يتم ترسيخ القيم الغربية في مجتمعاتنا العربية طوال أكثر من قرن رغم أن الغرب نفسه كان قد أسس هذه المجتمعات على أساس الحداثة الغربية. وثالثاً: أن هناك مجتمعات في العالم أصبحت دولها تنافس الغرب في التقدم مثل الصين وروسيا والهند لها حداثتها الخاصة وقيمها الحضارية المختلفة عن القيم الغربية. فهل نبقى متشبثين بالمركب الغربي رغم أن مؤشرات كثيرة الآن تشير إلى أنه في مرحلة الصراع على البقاء؟ أم نحاول أن نتنور بدراسة تجارب الأمم الصاعدة ونبني مركبنا الخاص بمجتمعاتنا المشرقية؟
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.