الحاجة للدولار عوَّضته بزراعات صالحة للتصدير.. زراعة القطن تتحول لعبء على الحكومة المصرية، والفلاح المتضرر الأول

عربي بوست
تم النشر: 2024/05/12 الساعة 13:15 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2024/05/12 الساعة 13:15 بتوقيت غرينتش
الوضع الاقتصادي لمصر في انهيار متزايد بسبب تعويم الجنيه - shutterstock

عزف عدد كبير من مزارعي القطن في مصر عن زراعته خلال السنوات الأخيرة، رغم كونه يعرف بـ"الذهب الأبيض" كناية عن جودته وتنافس المزارعين والتجار عليه خلال السنوات الماضية، وهو ما ترتب عليه الاكتفاء بزراعة عُشر المساحة الزراعية التي كانت تصل قبل عقود إلى أكثر من مليون ونصف المليون فدان.

وهناك اتهامات للحكومة المصرية بإهمال محصول القطن الذي كان يصنف على أنه استراتيجي مع التوسع في زراعة الفواكه التي يتم تصديرها بكثافة إلى الخارج؛ كونها تحقق عوائد مهمة للعملة الصعبة على حساب صناعة النسيج المصرية.

ووفقاً لبيان صادر أخيراً عن اتحاد مصدري الأقطان المصرية، فإن التعاقدات التصديرية للقطن المصري تراجعت منذ بداية الموسم التصديري الجاري بنحو 30% إلى 42.4 ألف طن حتى 20 أبريل/نيسان 2024 مقارنة بنحو 60 ألف طن في الفترة نفسها من الموسم الماضي.

وتوقعت وزارة الزراعة الأمريكية في تقرير حديث لها تراجع إنتاج القطن المصري في موسم الجني المقبل بنحو 11.4% أو (40 ألف بالة) ليهبط إلى 310 آلاف بالة، وقدرت الوزارة الأمريكية وزن البالة بنحو (217.724 كيلوغرام).

وقالت إن تراجع المساحات سببه هبوط أسعار القطن محلياً في آخر مزاد عُقد لتسويق إنتاج الموسم، وكان في مطلع مارس/آذار 2024 وهبط فيه سعر القنطار إلى نحو 10.6 ألف جنيه مقارنة بنحو 14 ألف جنيه في المزاد السابق له مباشرة.

الفلاح.. المتضرر الأول

كشف أحد مزارعي القطن لـ"عربي بوست"، شريطة عدم ذكر اسمه، أن أول أسباب عزوف الفلاحين عن زراعة القطن يتمثل في تذبذب أسعار مزادات شرائه من المزارعين.

وقال المتحدث إنه ليس من المنطقي أن يصل سعر القنطار إلى 18 ألف جنيه قبل عدة أشهر ليتراجع الآن إلى ما يقرب من 9 آلاف جنيه، وهو أمر يتكرر دائماً خلال السنوات الماضية بفعل التربيطات التي تحدث بين التجار وشركات النسيج الحكومية بهدف ضرب الفلاحين.

وأوضح أن هذا العام كان شاهداً على أزمة جديدة، إذ ذهب الفلاحون لاستعادة كميات القطن التي كان من المفترض توريدها إلى الجمعيات الحكومية وقاموا بتخزينها بعد أن اكتشفوا أنهم سيتعرضون لخسائر فادحة مع ارتفاع تكاليف الزراعة التي تستمر لفترة طويلة تمتد لثمانية أشهر، وبدا هناك أزمة فقدان ثقة بين المزارعين وبين الحكومة التي تتم مزادات البيع تحت إشرافها.

وأشار المتحدث إلى أن الحكومة بدلاً من أن تشجع على زراعة القطن وتوفر مزيداً من سبل الدعم للفلاحين تذهب باتجاه التنسيق مع التجار، ويبقى هدفها الأول هو توفير كميات للمصانع الحكومية وضمان تصدير الباقي للخارج للاستفادة من العملة الصعبة دون النظر إلى أوضاع الفلاحين.

وشدد على أن الفلاحين ساروا على نفس نهج الحكومة خلال السنوات الماضية، إذ إنهم اتجهوا أيضاً لزراعة المحاصيل التي تحقق عوائد مرتفعة وهناك إقبال كبير على تصديرها وهو ما ينعكس على الاتجاه نحو زراعة النباتات الطبية والعطرية. 

وحسب المتحدث، فإن هناك توسعاً في زراعة الذرة التي وصل سعر الطن منها إلى 18 ألف جنيه، وكذلك الأرز الذي وصل سعر الطن منه إلى 19 ألف جنيه ويتم بيعه بسهولة للتجار ولا يوجد رقابة على توجيهه إلى الحكومة.

ولفت إلى أن الحكومة المصرية لا تتعامل مع القطن كمحصول استراتيجي، بل إنها تتبع سياسات منفرة من زراعته والدليل على ذلك أنها ما زالت تعتمد على نظام المزايدات في البيع والتي تخدم التجار وليس المزارعين.

وأشار المتحدث إلى أن الحكومة لم تستجب للمزارعين التي كان لديهم رغبة في تحديد سعر استرشادي مسبق للبيع أسوة بالقمح، على أن تلتزم الحكومة بشرائه لكن ذلك لم يحدث، كما أنها لا تولي اهتماماً بتوعية المزارعين بأهمية زراعة القطن وتترك الحرية دون النظر إلى الخسائر الفادحة التي تترتب على تراجع المساحات المزروعة.

التغيرات المناخية بريئة من تراجع زراعة المحصول 

وأظهرت بيانات رسمية من الهيئة العامة للتحكيم واختبارات القطن أن إجمالي المعروض من القطن المحلي "الشعر" في الموسم التسويقي الجاري بلغ نحو 102 ألف طن، موزعة بين 84 ألف طن هي إنتاج الموسم الجاري، بالإضافة إلى نحو 18 ألف طن متبقية من إنتاج الموسم السابق.

وتوقعت وزارة الزراعة الأمريكية هبوطاً بنسبة 9% في مساحات الزراعة في الموسم الجديد، نزولاً إلى 238 ألف فدان مقابل 260 ألف فدان بالموسم الماضي، و333 ألف فدان في الموسم السابق له، كما توقعت هبوط صادرات المحصول المتوقعة للموسم المقبل بواقع 66 ألف بالة لتنخفض إلى 184 ألف بالة.

وأشار مزراع آخر إلى أن تراجع احتياجات مصانع الغزل والنسيج المصرية للقطن جراء تدهور أوضاعها خلال العقود الأخيرة انعكس سلباً على زراعته، إلى جانب اتجاه تلك المصانع للاستعانة بالقطن قصير التيلة غير المنتشر في مصر لتصنيع ملابس زهيدة الثمن تتماشى مع الأسواق المصرية.

وقال المتحدث لـ"عربي بوست" إن الفلاحين غير قادرين على الاستفادة القصوى من محصول القطن في مصر؛ لأن تراجع الرقعة الزراعية بشكل كبير خلال سنوات قليلة تسبب في إغلاق العديد من المعاصر التي كانت تستخدم في تصنيع بذور القطن واستخراج الزيوت والعلف والذي كان يتم بيعه ويحقق مكاسب كبيرة للمزارعين، لكنها تحتاج إلى أراضٍ شاسعة مزروعة بالقطن لكي يتم تشغيلها.

ويُمثل قطاع تصنيع المنسوجات والملابس بالكامل نحو 3% من إجمالي الناتج المحلي المصري، ونحو 27% من إجمالي الناتج الصناعي، وحوالي 12% من إجمالي قيمة الصادرات.

وأوضح المصدر ذاته أن غياب الدورة الزراعية التي كانت تقوم بالأساس على زراعة القطن دفع المزارعين للتفكير بطرق مختلفة، وبدا هناك قناعة بأن الحكومة تسعى لتحقيق أهدافها دون أن تقدم الدعم اللازم للمزارع، وذلك عبر إشرافها على المزادات التي لا تراعي أبسط حقوق المزارعين وهو تحقيق ربحية تشجعهم على الاستمرار في زراعته.

وأشار المتحدث إلى أن التغيرات المناخية في مصر تعد سبباً في تراجع زراعة محصول القطر أمر غير دقيق؛ لأن ارتفاع درجات الحرارة يخدم المحصول ولا يؤثر عليه عكس ما يتم الترويج له.

وشدد على أن المزارعين الآن يواجهون مأزقاً قد يؤدي إلى انخفاض نسبة المساحات المزروعة إلى النصف، وذلك بعد أن اتجهوا لسحب كميات كبيرة من القطن التي كان من المفترض بيعها في المزاد الأخير في شهر مارس/آذار 2024 نتيجة الخسائر التي تعرضوا لها.

وقال المتحدث إن الحكومة المصرية قالت إنها سوف تنظم مزاداً استثنائياً قبل نهاية شهر أبريل/نيسان 2024 غير أن ذلك لم يحدث أيضاً، وبالتالي فإن الاتجاه إلى البحث عن زراعات أخرى يبقى قائماً.

ولفت إلى أن حديث الحكومة عن أن المزارعين حققوا هذا العام أرباحاً بعد أن تضاعف سعر بيع القنطار من 4500 جنيه العام الماضي إلى ما يقرب من 10 آلاف جنيه هذا العام غير دقيق.

وقال المتحدث إن سعر القطن ارتفع لكن قيمة الجنيه مقابل الدولار نزلت، وارتفعت تكاليف الزراعة بصورة كبيرة، وحاجة المزارعين لتحقيق أرباح تساعدهم على الصمود أثناء زراعة المحصول الجديد، حيث يبدأ موسم زراعة القطن في منتصف فبراير/شباط من كل عام ويمتد حتى نهاية مايو/أيار التالي له.

وعرفت مصر زراعة القطن منذ آلاف السنين، وظل أحد المحاصيل النقدية الرئيسة للمزارعين في دلتا النيل، إذ وثقت أغاني المصريين التراثية ما يحظى به المحصول من أهمية استراتيجية بالنظر إلى قطاع صناعة المنسوجات.

وتفيد بيانات مركز البحوث الزراعية المصري بأن القاهرة تسهم بـ25% إلى 30% من الإمدادات العالمية من القطن طويل التيلة، ويعد قطاع النسيج والتصنيع في البلاد ثاني أعلى محرك اقتصادي مدر للدخل بعد القطاع الزراعي في البلاد.

زراعة القطن تتحول من بهجة إلى عبء ثقيل

من جهته، قال باحث في مركز البحوث الزراعية إن تكاليف زراعة القطن تضاعفت بسبب الطقس الحار الذي ترتب عليه ندرة الموارد المائية وتراجع معدلات الأمطار إلى جانب أزمات شح المياه التي تعانيها مصر جراء تأثيرات بناء سد النهضة، إلى جانب تكاليف العمالة التي أضحت خلال السنوات الماضية تستحوذ على ما يقرب من 60% من إجمالي تكاليف الزراعة.

وقال "عربي بوست" إن مصر انفردت بزراعة القطن وتميزت به عن باقي دول العالم لعقود طويلة قبل أن تتدخل ضغوطات خارجية دفعت نحو تحويل كثير من الأراضي الزراعية في الدلتا لزراعة إلى محاصيل أخرى أو تحويل كثير من الأراضي التي كانت تتميز بالتربة الجيدة إلى مناطق ومنتجعات سياحية.

وبالتالي، حسب المتحدث، تدهورت زراعة القطن في مصر خلال الثلاثة عقود الماضية، وأصبح حجم زراعة القطن طويل التيلة لا يتجاوز 89 ألف فدان بعد أن كانت مليوناً يقترب من 2 مليون فدان في حقبة الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي  بإنتاجية تصل إلى أقل من 700 ألف قنطار مقارنةً بـ10 ملايين قنطار في الفترة ذاتها قبل 50 عاماً .

وذكر أن زراعة القطن كانت تمثل بهجة للفلاحين قبل أن تتحول إلى عبء ثقيل عليهم وكثير منهم أصبح مثقلاً بالديون جراء الخسائر المستمرة التي تعرضوا لها دون أن تتدخل الحكومة لتعويضهم.

وأشار المتحدث إلى أن تبني سياسات زراعية خاطئة منذ تحرير المحصول في إطار ما يسمى بالانفتاح الاقتصادي بداية التسعينيات وترك المزارع حراً دون توجيه دفع إلى أن استغنى معظم المزارعين عن القطن بعد أن تدنى سعره  للفلاح، كما أن مصانع القطاع الخاص تعتمد على القطن قصير التيلة المستورد من الخارج، مما اُضطر الفلاح إلى هجره وزراعة الأرز بديلاً للقطن في ظل أزمة ارتفاع أسعاره الأخيرة.

ولفت إلى أن الحكومة المصرية كانت تتبنى في السابق ما يسمى بنظام التسويق التعاوني للقطن، إذ كانت تتولى عملية تجميع وتسويق جميع الأقطان المزروعة ولم يكن الفلاحون يخشون من مسألة عدم البيع أو التسويق.

بل كانت الدولة، حسب المتحدث، تدفع مقدم سعر للفلاحين تصل قيمته إلى 70% من إجمالي قيمة القنطار الواحد، ثم يتم دفع باقي السعر حسب الجودة، وكان ذلك يشكل عامل إرضاء كبير للفلاحين الذين كانوا يعتبرون أن ذلك بمثابة العصر الذهبي للقطن حتى بداية التسعينيات.

وأكد أنه منذ إلغاء هذا النظام والاتجاه نحو تحرير صناعة القطن من خلال قانون التجارة الحرة في العام 1994، أصبح شراء القطن من المزارعين قطعياً دون النظر إلى الرتبة التي تفرز الأنواع الجيدة أو حجم التصافي في المحصول.

وبالتالي لم يعد لدى الفلاحين نفس الاهتمام بالمحصول أثناء زراعته وبعدها تراجعت سمعة القطن المصري لدى الأسواق العالمية، مع انتشار ظاهرة تلوث الأقطان بالخيوط المصنعة.

وتقدر وزارة الزراعة المصرية إجمالي المساحة المنزرعة بالقطن في الوجهين القبلي والبحري بنحو 255 ألف فدان بإنتاج كلي متوقع أن يصل إلى نحو 1.8 مليون قنطار وتستحوذ محافظات الوجه البحري على النسبة الكبرى من إجمالي المساحة المزروعة بنحو 228.488 فدان مقابل 26.445 فدان في الوجه القبلي، وتتصدر محافظة كفر الشيخ النسبة الكبرى لمساحة القطن المزروعة بإجمالي 84.283 فدان.

تحميل المزيد