منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 23023، تم حشد متطوعين ومبادرات منظمة للحرب الرقمية في غزة على مستوى العالم، لكنها معركة خسرتها إسرائيل بالفعل، بحسب تقرير لصحيفة هآرتس، فما هي الأسباب؟
تقرير هآرتس وصف الأمر بأنه "معركة خاسرة"، فعنوان التقرير يقول: "بمساعدة صغيرة من موسكو وبكين، خسرت إسرائيل معركة السوشيال ميديا"، أي الرأي العام العالمي على منصات التواصل الاجتماعي.
السبب من وجهة النظر الإسرائيلية
يركز تقرير صحيفة العبرية على ما وصفها بأنها "مزاعم زائفة" ويعتبر ذلك أحد أسباب ضعف الموقف الإسرائيلي في الحرب الرقمية. "كثيرون في إسرائيل يعتبرون المنشورات (التي تفضح الجرائم الإسرائيلية) ليست إلا دعاية كاذبة مصممة بغرض تحويل الرأي العام العالمي لينقلب على إسرائيل في الحرب على غزة".
منصة تيك توك، التي توصف بأنها صينية عكس المنصات الكبرى الأخرى مثل فيسبوك وإكس التي لا توصف بأنها أمريكية، لعبت أيضاً دوراً في إلحاق الهزيمة غير المسبوقة بالرواية الإسرائيلية في الحرب الرقمية، بحسب الصحيفة العبرية.
لكن، حتى هذا الطرح الذي لا يخلو من المغالطات الفاضحة، بحسب الداعمين للرواية الفلسطينية، ليس هو السبب الوحيد في خسارة إسرائيل للحرب الرقمية في الحرب على غزة، التي دخلت شهرها الثامن. إذ نقلت الصحيفة عن باحثين ونشطاء وخبراء في منصات التواصل، وصفتهم بأنهم يعملون على التصدي للأخبار الكاذبة، قولهم إن هناك جانباً آخر في القصة؛ فشل إسرائيل الذريع في حملتها الدبلوماسية، وهو الفشل الذي وقع رغم وجود تحذيرات سابقة من إمكانية حدوثه.
ويكشف تحليل لمنشورات عن مجزرة المستشفى الأهلي المعمداني التي ارتكبها جيش الاحتلال في غزة، لكن إسرائيل تزعم عدم مسؤوليتها عنها، وأن الأمر يتخطى وجود "رأي عام رقمي يدعم تلك المزاعم الكاذبة"، حيث يقول خبراء ونشطاء إسرائيليون إن المفندين للرواية الإسرائيلية "منظمون بشكل جيد للغاية"، وهو رأي يسانده أيضاً مجتمع الاستخبارات الإسرائيلي.
دور الصين وروسيا؟
أما السبب الآخر وراء خسارة إسرائيل لهذه المعركة الرقمية فيتمثل في الصين وروسيا، حتى وإن كان الدور الذي يفترض أن بكين وموسكو لعبتاه أو تلعبانه لا يهدف بالضرورة إلى هزيمة إسرائيل أو حتى دعم الفلسطينيين بقدر ما يهدف إلى إلحاق الضرر بالولايات المتحدة، والضرر هنا معنوي وأخلاقي بالأساس، أي تشويه صورة واشنطن على المسرح العالمي، بحسب تقرير هآرتس.
وفي هذا الإطار، يرى أنتوني غولدبلوم، مؤسس شركة تقنية اسمها كاجل اشترتها جوجل، أن منصة تيك توك لعبت دوراً ما في الترويج أكثر للرواية الفلسطينية، إذ قال لهآرتس إنه قام بجمع كم هائل من المعلومات من تيك توك في بداية الحرب، واكتشف أن معدل مقاطع الفيديو على التطبيق هو 45 مقطعاً داعماً لفلسطين مقابل مقطع واحد داعم لإسرائيل (أي أن النسبة هي 45 إلى 1).
50% من هذا المحتوى، الذي يشاهده الأمريكيون يبدو كأن مصدره إندونيسيا وماليزيا وباكستان ومصر والسعودية، بحسب غولدبلوم، الذي قام بتحليل ذلك المحتوى، رغم اعترافه بوجود صعوبة بالغة في جمع البيانات عبر تيك توك، ليجد أن بعضاً من المقاطع احتوت على محتوى وصفه بأنه "ينكر 7 أكتوبر/تشرين الأول، وبعضه يدعم حماس.. وكلها أمور كان يجب ألا تنشر عبر الإنترنت على أية حال".
حاول غولدبلوم أن يتحدث مع المدير التنفيذي لمنصة تيك توك شو زي تشو في الولايات المتحدة بشأن "هذه المشكلة" لكنه فشل، كما علمت هآرتس أن موظفين يهوداً يحملون جنسية إسرائيل، في الشركات العملاقة مثل ميتا (التي تمتلك منصات فيسبوك وإنستغرام) وجوجل، رصدوا أيضاً ما وصفوها بأنها "مشكلات" وحاولوا اللجوء للفرق المسؤولة عبر القنوات الداخلية في تلك الشركات لكنهم أيضاً "فشلوا".
إسرائيل ومنصات التواصل العملاقة
إذا كانت إسرائيل قد خسرت الحرب الرقمية في غزة هذه المرة، فمن الصعب هنا تصور أن يكون سبب الخسارة هو "الانحياز" من جانب شركات التكنولوجيا العملاقة للفلسطينيين، لماذا؟ لإن هذه الشركات -ميتا وجوجل وإكس وغيرها- هي شركات أمريكية ولمؤسسيها ومديريها مواقف داعمة لإسرائيل بشكل لا يقبل الجدال.
مجلس المشرفين على فيسبوك، على سبيل المثال، كان قد أصدر تقريراً رقابياً يرصد أداء عملاق التواصل الاجتماعي خلال حرب إسرائيل على غزة عام 2021، أكد على وجود "انحياز واضح" لإسرائيل، ووضع توصيات تهدف إلى التخفيف من حدة هذا الانحياز دون أن يتم تنفيذ أي من هذه التوصيات.
إذ كان عملاق منصات التواصل الاجتماعي فيسبوك والمنصات التي يمتلكها، خصوصاً إنستغرام، قد واجه حملة من الانتقادات العنيفة بأنه يمارس "الرقابة لصالح إسرائيل" على حساب الفلسطينيين الذين يدافعون عن أراضيهم المحتلة، بعد أن كشف تقرير لموقع The Intercept عن قيام فيسبوك بتغيير الخوارزمية التي يستخدمها في الرقابة على المحتوى الذي ينشره مستخدمو التطبيق، دون أن يعلن عملاق منصات التواصل الاجتماعي عن تلك التغييرات.
تمثل ذلك التغيير في ربط كلمة "صهيوني" باليهودية وإسرائيل، بمعنى أن أي محتوى يوجه انتقاداً للصهيونية يعتبره فيسبوك ضمنياً أنه انتقاد لليهودية وإسرائيل، ومن ثم يصنفه على أنه محتوى يحضّ على نشر الكراهية ويحرض على العنف ويقوم بحذفه وحظر حساب صاحبه.
كان فيسبوك قد طبق تلك القواعد منذ عام 2019 بشكل سري دون الإعلان عنها، وخلال الحرب على غزة في مايو/أيار 2021، بدأ تطبيق تلك القواعد يأخذ شكلاً أكثر تكثيفاً، وهو ما لفت الأنظار لما يحدث.
في ذلك الوقت، نفت إدارة فيسبوك صحة الاتهامات بالانحياز لإسرائيل، وكلفت مجلس المشرفين لديها بالنظر في الاتهامات الموجهة للشركة. أصدر المجلس حكمه وجاء في صورة "توصيات" بإجراء تحقيق مستقل في الاتهامات بالتحيّز التي وُجّهت إلى لجان المراجعين المشرفة على المنشورات الخاصة بفلسطين وإسرائيل.
ماذا فعلت إسرائيل منذ بدأت الحرب على غزة؟
بالعودة إلى إسرائيل وما قامت به في إطار الحرب الرقمية منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول، نجد أن خبراء مثل غولدبلوم وغيره، إضافة إلى ناشطين وأصحاب شركات تكنولوجيا، استخدموا كل ما يملكون من نفوذ وتأثير لدعم الرواية الإسرائيلية والتصدي لما وصفوه بحملة "التحريض وتسونامي المعلومات المضللة" على منصات التواصل الاجتماعي. وحتى مواطنون عاديون -هكذا وصفتهم هآرتس- وجدوا أن هناك فراغاً بسبب عدم التنظيم ونقص الكفاءة في منظمات الدبلوماسية الإسرائيلية، فشحذوا همتهم وعملوا على تعويض هذا الفراغ.
لكن حتى منظمات المجتمع المدني وشركات الإعلانات والتكنولوجيا -بعضها ضخم ومعروف جداً- قرروا "بشكل تلقائي ودون تنسيق" أن ينضموا لجهود مراقبة الإنترنت. وبحسب معلومات حصلت عليها هآرتس، تم إنشاء عشرات من "غرف الحرب الدبلوماسية"، منذ بداية الحرب وحتى بداية عام 2024، بهدف محاربة كل شيء من المعلومات الغائبة إلى المعلومات المضللة إلى معاداة السامية والتحريض على الكراهية، إضافة إلى إنتاج محتوى مساند للرواية الإسرائيلية.
جدار لم يكن أبداً بهذا الارتفاع!
لكن سرعان ما اصطدمت كل تلك الجهود الإسرائيلية بجدار يكشف عن مشكلة كان يحذر منها الباحثون الإسرائيليون في منصات التواصل على مدى سنوات؛ إسرائيل وشعبها لم يستعدوا للتصدي لهجوم معلوماتي بهذا الحجم، تقول هآرتس.
ما طبيعة هذا الجدار؟ المتطوعون وحتى هؤلاء الذين تساندهم التقنية المتطورة للغاية كانوا غير قادرين على "العثور على محتوى كي يبلغوا المنصات عنه"، بمعنى محتوى يرونه معادياً لإسرائيل -أو معادياً للسامية من وجهة نظرهم- فيرسلوا تقارير عنه إلى فرق المراقبة في المنصات ليتم حذفه.
جانب آخر من المشكلة تمثل في ضياع موارد ووقت ومجهود في محاولات "إدارة التعليقات"، بمعنى أن يكون هناك محتوى يعتبره هؤلاء الإسرائيليون "مهيناً أو فيه مشاكل"، لكن المحتوى يظل كما هو ولا تحذفه منصات التواصل رغم الجهود من الفريق الإسرائيلي، لماذا؟ لأن المحتوى لا يخالف قواعد منصات التواصل الاجتماعي.
التفسير الإسرائيلي لهذه المشكلة هو أن التمييز بين المحتوى غير القانوني، مثل المنشورات التي تحرض على العنف، وبين المحتوى "المحبط أو المزعج" للإسرائيليين، مسألة صعبة والقيام بها على مستوى بهذه الضخامة، يعتبر أمراً شبه مستحيل.
الصدق أقصر الطرق للقلوب والعقول!
توجد نقطة لافتة للغاية في هذه المعركة، وحتى في التفسير الإسرائيلي لها، وهي طبيعة منصات التواصل الاجتماعي نفسها. فهذه المنصات تختلف بشكل جذري عن وسائل الإعلام التقليدية بأنواعها (الصحف والراديو والتلفزيون وحتى المواقع الإخبارية الرقمية)، والاختلاف يتركز في مسألة التحكم في المحتوى المنشور وسرعة الوصول للجمهور.
هذا الاختلاف يفسر إلى حد كبير ما تشهده الدول الغربية منذ بدأت الحرب على غزة من تحول شعبي لافت في الموقف العام من الصراع على أرض فلسطين. فالأجيال الأصغر سناً (جيل الألفية وجيل زد وما يليهما) أكثر رفضاً للرواية الإسرائيلية وأقل ميلاً لتصديقها حتى في ظل التهديدات بعصا معاداة السامية.
فبعد عقود من إشهار إسرائيل لسيف "معاداة السامية" في وجه العالم عموماً، والغرب خصوصاً، وعلى الرغم من قمع الشرطة الأمريكية للطلاب واعتقال المئات وتهديدات بالترحيل ضد الأجانب، إلا أن الاحتجاجات في الجامعات الأمريكية ضد الحرب على غزة لا تتراجع أو تخفت، وهو ما يطرح تساؤلات عميقة بشأن ما إذا كانت أداة الترهيب الأولى من جانب السلطات والإعلام هناك، أي وصم التظاهر ضد إسرائيل بأنه معاداة للسامية، قد بدأت تفقد حدتها.
قصة معاداة السامية وتاريخها وكيفية توظيف إسرائيل لها لابتزاز العالم، وبخاصة الغرب، وتأثير الحرب على غزة في إفقاد إسرائيل هذه الأداة، تفسر في حد ذاتها جانباً هاماً وربما رئيسياً في مسألة خسارة الدولة العبرية للحرب الرقمية (قراءة التقرير كاملاً عبر هذا الرابط).
فمصادر المعلومات بالنسبة للأجيال الأصغر، أو الأجيال الرقمية، أكثر تنوعاً وأسرع في الوصول، بسبب منصات التواصل الاجتماعي وانتشار الهواتف الذكية، وبالتالي فإن ما يرتكبه جيش الاحتلال في قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول -أو على الأقل جانب منه- يجد طريقه إلى منصات التواصل سريعاً.
سقوط الإعلام الغربي في فخ التضليل
خسارة إسرائيل للحرب الرقمية على مستوى العالم تعتبر تغييراً لافتاً في جوهر الصراع على الأراضي الفلسطينية، بعد أن تسببت الحرب على غزة في تسليط الضوء على ما يرتكبه الاحتلال الإسرائيلي بحق الفلسطينيين والأسباب الجذرية للصراع، والمتمثلة في رفض تل أبيب لقرارات الشرعية الدولية المتعددة بشأن إقامة دولة فلسطينية مستقلة في القدس الشرقية والضفة الغربية وقطاع غزة.
وحدث هذا التحول اللافت، باعتراف الإسرائيليين أنفسهم كما يكشف تقرير هآرتس، على الرغم من الانحياز المطلق لوسائل الإعلام الغربية لإسرائيل وترديد الأكاذيب والمعلومات المضللة بشأن حقيقة ما حدث يوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول والأسباب التي أدت إلى عملية طوفان الأقصى العسكرية في ذلك اليوم.
فبينما تواصل إسرائيل استهداف المدنيين في غزة على مرأى ومسمع العالم أجمع منذ أكثر من 7 أشهر، اختار جانباً كبيراً من وسائل الإعلام والصحفيين الغربيين الانحياز المطلق لدولة الاحتلال ويروّجون قصصاً لا دليل عليها لتشويه صورة المقاومة.
فما تعرّضت له إسرائيل في السابع من أكتوبر/تشرين الأول كان هزيمة عسكرية على مستوى غير مسبوق منذ 50 عاماً، باعتراف كثير من المراقبين والخبراء الإسرائيليين أنفسهم، و"طوفان الأقصى" لم يكن فعلاً بل رد فعل على ما يرتكبه الاحتلال بحق الفلسطينيين في القدس والضفة المحتلتين، وقطاع غزة المحاصَر منذ أكثر من 16 عاماً، وبالتالي لم يأتِ هجوم المقاومة من فراغ، بنص تقرير لموقع Vox الإخباري الأمريكي، عنوانه "هجوم حماس لم يأتِ من فراغ".