التأمل في حركة التاريخ يوقفنا على أن صناعته وصياغته لا تكون إلا على أيدي القوى الفاعلة، أما تلك الكسولة والخاملة فهي لن تكون إلا صدىً لأفكار وقرارات وتوجهات غيرها، ولا محاباة في ذلك مهما كانت النوايا طيبة.
مثلما أنه لا ثبات على حال، فالفاعلية تبقى متبادلة في مواقعها حسب امتلاك شروطها وتنفيذ التزاماتها المطلوبة (وتلك الأيام نداولها بين الناس)، فسيبقى الكون تحت ظل هذا التعاقب الذي يديم الحياة وتنمو به الحضارات وتتجدد صورها.
ومنذ وقت طويل يفرض الكبار قولهم وخطابهم على الشعوب المستضعفة، بل ويكتشف في لحظة تجلٍّ لحقيقة هذا العالم أن معاني الحرية والشفافية ليست أكثر من عناوين توظف للحاجة متى ما أراد أصحابها ممن يرسمون شكل الحياة وفق قاموسهم وخرائطهم، ويطلبون من غيرهم حين يتحدثون الإنصات بل والإلقاء بأنفسهم في أتون نيران الصراع من أجل إشباع غريزة البقاء عندهم.
فهل التعاقب والتبدل بالمواقع مرهون بالدول الكبرى وحدها أم ماذا؟
في الحقيقة إن الأمر مرتبط بدواخل تلك الكيانات أكثر من موقعها الراهن، بل على العكس فإن التداول الحضاري الذي نقصده إنما يفاجئ في بعض الأحيان المتابعين له ببروز قوة صاعدة على حين غفلة من الطامعين والحيتان الكبار!
وربما لسيادة السكون الشعبي لعقود، غدا الإيمان بقدرة الشعوب على التغيير محط شك وعدم إيمان، ولذلك احتاج العالم هزّات عنيفة لاستعادة الاستيقاظ وبالشكل المطلوب.
وهنا لا يملك المراقب لصورة التظاهرات في الجامعات الأمريكية إلا أن يبدي تعجبه وإعجابه، فمن كان يتصور أن شاشات القنوات تتوزع بين ولايات القطب الحاكم الأكبر وتتحول من غزة الصمود إليها لتنقل اتساع الكلمة الإنسانية الحرة وقمع أدعياء الديمقراطية لها.
وهذا درس عظيم مضاف لطوفان الأقصى العظيم الذي -وكما كتبنا في أوله- سيعيد ترتيب الخرائط مجدداً، وهذه المرة بمواقف الطلبة والمثقفين من بلد الداعم الأساسي للاحتلال الإسرائيلي الغاصب.
لقد أثبت 7 أكتوبر للعالم أجمع أن معيار الموقع الكبير قد يتغير ويضم له فئة صغيرة العدة والعدد ولكنها شديدة الإيمان، كبيرة الهمة، وأن صدق النوايا وعظيم الالتزام لن يمرّ بهدوء، بل سيحرك المياه الراكدة في الأراضي الصامتة والتي تمتلك ولو في هدوء القابلية للاستجابة المتميزة والإسناد.
وهنا تتجلى السنن الربانية والقوانين التاريخية في أن فعل التغيير لن يكون إلا من داخل النفوس، وأن المواقع تؤخذ لا تمنح وأن الإنسانية هي التي ستنتصر ولو بعد حين!
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.