أحد أكثر الأسلحة فتكاً في العالم هو السلاح الذي ليس من المفترض أن تراه. والغواصة التي سنتحدث عنها اليوم هي كذلك، حيث تبحر الغواصات الهجومية من طراز فيرجينيا التابعة للبحرية الأمريكية بصمت تحت الأمواج، ولا تكشف عن نفسها إلا عند عودتها إلى الميناء، أو عندما تطلق العنان لترسانتها من صواريخ كروز وطوربيدات، كما تقول مجلة popular mechanics الأمريكية.
وتُظهر مناورات عام 2022 مدى أهمية هذه الغواصات التي تعمل بالطاقة النووية في حالة الحرب، وذلك من خلال محاكاة غزو برمائي صيني افتراضي لتايوان. وكشفت المناورات أن الغواصات الأمريكية، التي كانت ستتكون من غواصات فيرجينيا، والغواصات الهجومية الأقدم من فئة لوس أنجلوس، كانت قادرة على إحداث دمار في الأسطول الصيني، وهو ما يؤكده تقرير مماثل صدر عام 2023.
غواصات فيرجينيا النووية.. قدرات فتاكة لمواجهة أسطول البحرية الصينية
تقول مجلة popular mechanics الأمريكية، إن الغواصات من طراز "يو إس إس فيرجينيا" هي السلاح الأكثر أهمية لدى أمريكا لإخماد الغزو الصيني لتايوان. ومن المرجح أن يشتمل مثل هذا الصراع على إطلاق وابل من الصواريخ الباليستية الصينية لتحييد القوة الجوية الأمريكية، من خلال تدمير القواعد الجوية مثل جزيرة غوام.
وسيتم استهداف السفن السطحية بمجموعة من الأسلحة، بما في ذلك الصواريخ الباليستية والصواريخ التي تفوق سرعتها سرعة الصوت "القاتلة لحاملات الطائرات". وبينما تعمل الصين على تحسين قدراتها الحربية المضادة للغواصات، قد تكون الغواصات من طراز فيرجينيا هي الأكثر قدرة على البقاء والصمود من بين المنصات الأمريكية.
ومع ذلك، بالنسبة لسفينة مهمة كهذه، ليس لدى فيرجينيا العديد من النسخ. حيث لا يوجد سوى 21 غواصة من طراز فيرجينيا في الخدمة، مع 17 أخرى تحت الطلب. في حين أن التفاصيل الفنية للغواصات هي من بين الأسرار الأكثر حراسة في أي بحرية -هناك سبب وراء تسمية أسطول الغواصات الأمريكي بـ"الخدمة الصامتة"- فإن ما هو معروف علناً يشير إلى القدرات الهائلة لفئة فرجينيا.
ما مميزات وخصائص الغواصة فيرجينيا؟
يبلغ طول الغواصات الأساسية من فئة فيرجينيا 115 متراً، وعرضها 10 أمتار، وتبلغ إزاحتها 7800 طن عند غمرها بالمياه. أما أحدث الطرازات منها مثل Block V، يبلغ طولها 140 متراً ووزنها 10.200 طن، وسيكون لها هيكل مطول لاستيعاب وحدة الحمولة "فيرجينيا" التي تحتوي على أنابيب صواريخ كروز إضافية. ويمكن للغواصة فيرجينيا، المدعومة بمفاعل نووي واحد، السفر تحت الماء بسرعة تزيد عن 25 عقدة (51 كيلومتر في الساعة) بينما تظل مخفية في أعماق المحيط لعدة أشهر.
وأحرزت تكنولوجيا الغواصات منذ الحرب العالمية الثانية تقدماً كبيراً منذ ذلك الحين، حيث إن غواصة كانت تابعة للبحرية الأمريكية من طراز جاتو من عام 1943 كانت تزن 2400 طن فقط تحت الماء، وتبحر بسرعة 9 عقدة (18 كيلومتراً) في الساعة تحت الماء و21 عقدة (44 كيلومتراً في الساعة) على السطح.
وكانت الغواصات التي تعمل بالديزل في الأربعينيات من القرن الماضي أبطأ تحت الماء، وكانت بحاجة إلى الصعود إلى السطح لإعادة الشحن بينما يأخذ الطاقم بعض الهواء النقي الذي كانوا في أمسّ الحاجة إليه.
في عام 2003 تم إطلاق اسم "يو إس إس فيرجينيا" على هذه الغواصة، التي أصبحت أكثر أنواع الغواصات فتكاً. وكانت النماذج الأولى لها تتمتع بقوة كبيرة، حيث تحتوي على 12 أنبوباً لنظام الإطلاق العمودي (VLS) لصواريخ توماهوك – كروز للهجوم الأرضي، بالإضافة إلى 4 أنابيب طوربيد لطوربيدات أو ألغام Mk-48. واستبدلت نسخة Block III نظام VLS بأنبوبي حمولة فيرجينيا بستة صواريخ. وستكون قوارب نسخة Block V من الغواصة فيرجينيا -قيد الإنشاء الآن- عبارة عن بطاريات صواريخ عائمة: ستضيف وحدة حمولة فيرجينيا الجديدة 4 أنابيب إطلاق رأسية كبيرة مسلحة بسبعة فتحات لصواريخ توماهوك لكل منها ليصبح المجموع 40 أنبوباً.
ومع العشرات من صواريخ توماهوك التي يمكنها ضرب أهداف على بعد 1600 متر، سيضاف لها لاحقاً صواريخ تفوق سرعتها سرعة الصوت، يمكن لفئة فيرجينيا ضرب عمق أراضي العدو أثناء الإبحار في المياه البعيدة. لكن التركيز فقط على الأسلحة يعني إغفال الصفات التي جعلت الغواصات فتاكة للغاية منذ ظهور أول غواصات يو في الحرب العالمية الأولى. حيث تمتلك طراد البحرية الأمريكية من طراز تيكونديروجا 122 أنبوباً صاروخياً من طراز VLS، ويمكن للحاملة من طراز فورد، إطلاق ما يقرب من 100 طائرة، ولكن لا يمكن لأي منهما الاختباء تحت المحيط.
كيف يمكن لغواصة فيرجينيا مواجهة غواصات الصين وروسيا المتقدمة؟
إن قدرة الغواصة على البقاء مخفية، والكشف عن هدف دون أن يتم اكتشافه، وتدمير ذلك الهدف والهروب هو ما يجعل هذه السفن هائلة للغاية. ولهذا السبب أيضاً فإن أفضل سلاح لتدمير غواصة نووية معادية هو استخدام غواصة أخرى. وقد تكون غواصات فرجينيا هي الأفضل في العالم في أداء هذه المهمة.
يقول بريان كلارك، ضابط الغواصات السابق بالبحرية الأمريكية، الباحث الآن في معهد هدسون، لمجلة Popular Mechanics: "إنها غواصة هادئة للغاية ولديها أجهزة استشعار جيدة جداً.. وفيما يتعلق بالتصدي للغواصات الصينية والروسية، فإن غواصة فيرجينيا تتفوق لأنها ستكتشف العدو قبل أن يتم اكتشافه".
وخدم كلارك لسنوات في الغواصات الهجومية الأمريكية الأقدم والغواصات الصاروخية الباليستية قبل أن تطأ قدمه لأول مرة غواصة فيرجينيا. لقد كانت تجربة ميدانية مذهلة بالنسبة له بسبب تقدمها التكنولوجي وتسليحها. ويوضح كلارك أنه في فئة فيرجينيا، "لا يمر منظار الغواصة عبر الهيكل". والمنظار هو مجرد كاميرا مثبتة على سارية ترتفع على سطح الماء، يتم مشاهدة كل ما ترصده من غرفة التحكم.
في أوائل الثمانينيات، شعرت البحرية بالقلق من أن الغواصات الهجومية الحالية من طراز لوس أنجلوس -والتي تم تشغيلها لأول مرة في عام 1976- لن تتمكن من التعامل مع جيل جديد من الغواصات السوفييتية مثل فئة أكولا الهادئة. وكان رد البحرية الأمريكية هو غواصة جديدة من فئة Seawolf، وهي مجموعة من الغواصات المتقدمة للغاية والتي كانت ستكلف 3 مليارات دولار للقطعة الواحدة (حوالي 6 مليارات دولار اليوم)، ما يجعلها أغلى الغواصات الهجومية الأمريكية. في النهاية، قامت البحرية ببناء 3 غواصات من فئة Seawolf فقط.
في الوقت نفسه، مع نهاية الحرب الباردة، بدا أن هناك حاجة قليلة لغواصات هجومية باهظة الثمن مصممة لمحاربة أسطول الغواصات الروسي المتقلص والمتهالك (ولم يكن من الممكن النظر إلى الصين بعد على أنها تهديد في هذه المرحلة).
إما أن تُطارِد أو يتم اصطيادك.. كيف يمكن مقارنة غواصة فيرجينيا بالغواصات الروسية والصينية؟
عندما بدأت أعمال التصميم لهذه الغواصة في أوائل التسعينيات لتحل محل غواصة لوس أنجلوس، كانت البحرية بحاجة إلى غواصة هجومية متقدمة على فئة "سي وولف": أقل تكلفة وأسرع وأسهل في البناء. وكانت النتيجة هي فئة فيرجينيا، التي ضمت العديد من التقنيات من "سي وولف"، ولكن في شكل أصغر وأبطأ. لذلك كان الإصدار الأحدث من غواصات فيرجينيا سيكلف 4.3 مليار دولار أمريكي لكل غواصة، وفقاً لخدمة أبحاث الكونغرس.
ويقول كلارك إن "غواصات فرجينيا كانت نوعاً من التسوية. حيث تم بناء غواصة قادرة على القيام بكل الأشياء التي قد يتعين على الغواصات القيام بها. القليل من العمليات الخاصة وإرسال القوات الخاصة إلى الشاطئ، والقليل من جمع المعلومات الاستخبارية الساحلية، وبعض الضربات بصواريخ كروز، لقد كانت غواصة متعددة المهام".
لكن رؤى قتال قوى من "الدرجة الثانية" مثل إيران وكوريا الشمالية بالنسبة للأمريكيين، حل محلها شبح حرب باردة جديدة بينما تفكر الولايات المتحدة في شن حرب ضد قوى كبرى مثل روسيا والصين لأول مرة منذ عقود. السؤال النهائي لفئة فرجينيا يتلخص في هذا: كيف يمكن مقارنتها بالغواصات الروسية والصينية التي ستطاردها؟
عندما قام خبراء البحرية الأمريكية بتحليل التصورات الصينية للغواصات الأمريكية في عام 2008، وجدوا أن الخبراء الصينيين "يحترمون الغواصات من طراز فيرجينيا بسبب التكنولوجيا المتقدمة والهدوء". ومع ذلك، فإن القوى العالمية الأخرى لديها غواصاتها الهائلة التي يجب على فئة فرجينيا أن تتعامل معها.
أفضل مقارنة لغواصة فئة فيرجينيا، هي غواصة فئة "ياسين إم" الغواصة الهجومية الأكثر تقدماً في روسيا. ويقول إدوارد جيست، الباحث في مؤسسة "راند" لمجلة Popular Mechanics، إن غواصة Yasen-M التي يبلغ وزنها 13.800 طن "هي جوهرة التاج للبحرية الروسية المعاصرة، وربما قمة التكنولوجيا العسكرية الروسية الحالية".
و"ياسين إم" هي سفينة مدججة بالسلاح مصممة لشن هجمات بالصواريخ. وهي مسلحة بـ32 أنبوباً صاروخياً يمكنها إطلاق صواريخ Zircon التي تفوق سرعتها سرعة الصوت وصواريخ كاليبر، بالإضافة إلى 10 أنابيب طوربيد.
ويقول مايكل بيترسن، مدير معهد الدراسات البحرية الروسية في كلية الحرب البحرية الأمريكية: "من منظور هدوء الغواصات، تعد غواصات "فيرجينيا" و"سي وولف" الأقدم من الغواصات الأكثر هدوءاً على هذا الكوكب". لكن غواصة Yasen -M الروسية تعد أيضاً واحدة من أهدأ الغواصات في العالم، حيث من الصعب للغاية تحديد موقعها وتتبعها".
ويصنف بيترسن فئة فيرجينيا على أنها متفوقة في تكنولوجيا السونار وبرامج معالجة الإشارات على نظيرتها الروسية. ويوضح بيترسن: "الهدوء ليس هو الشيء الوحيد الذي يهم في حرب الغواصات. إن قدرة الاستشعار أمر بالغ الأهمية بنفس القدر. ليس من الواضح بالنسبة لي أن روسيا تمكنت حتى الآن من مطابقة قدرات الاستشعار الموجودة في فئة فيرجينيا. وأعتقد أن روسيا لا تستطيع سوى بناء عدد قليل منها".
العدو الحقيقي لغواصات فيرجينيا هي نفسها
تقول المجلة الأمريكية، قد لا يكون العدو الأكثر خطورة لفئة فرجينيا هو الغواصات الروسية القاتلة أو المدمرات الصينية، بل متطلبات الصيانة الخاصة بها نفسها، ومهما كانت فضائل فئة فيرجينيا، فقد أثبتت أنها تمثل تحدياً كبيراً في الصيانة بالنسبة للبحرية الأمريكية. لسبب واحد، أن الأجزاء تتآكل بشكل أسرع مما توقعه المصممون. يقول كلارك: "لقد أدى هذا بالفعل إلى انخفاض توفر فئة فيرجينيا".
وعلى الرغم من أن البحرية الأمريكية تلتزم الصمت بشأن عناصر محددة، يبدو أن بعض المشكلات ناجمة عن مكونات تجارية جاهزة تم اعتمادها لتوفير المال. ويشير كلارك إلى أنه "لم يعتقد أحد أنها سوف تنكسر أو تبلى بهذه السرعة، ليس لدينا سلسلة توريد لها.. لم تقم بشراء كومة كبيرة من خامات تصنيعها تحسباً لأي فشل".
ومما يزيد المشكلة تعقيداً هو الافتقار إلى قدرة أحواض بناء السفن التابعة للبحرية، ما يحرم الغواصات والسفن الحربية الأخرى من الصيانة اللازمة. وحوالي ثلث الغواصات الهجومية الخمسين التابعة للبحرية غير عاملة حالياً في أي وقت بسبب تأخيرات الصيانة. وليس من المستغرب أن يتم تصميم الغواصة الهجومية من الجيل التالي التابعة للبحرية لتسهيل صيانتها.
ومن المقرر أن تتسلم أستراليا 5 غواصات أمريكية من فيرجينيا، بالإضافة إلى أن هناك دراسة للبحرية الأمريكية حول ما إذا كانت ستوسع أسطولها الفرعي الهجومي إلى 72 غواصة من فيرجينيا، بالتالي ستكون هناك حاجة لمزيد من هذه الغواصات. لكن سعة أحواض بناء السفن قد لا تكون موجودة. وتهدف البحرية الأمريكية إلى شراء غواصتين من نوع فيرجينيا سنوياً، بإجمالي 10 غواصات، بين عامي 2025 و2028. ومع ذلك، قد يستغرق الأمر حتى عام 2028 قبل أن تتمكن أحواض بناء السفن من إنتاج أكثر من المعدل الحالي البالغ 1.2 غواصة سنوياً.
ومع ذلك، ستظل فئة فيرجينيا العمود الفقري لأسطول الغواصات الهجومية الأمريكية لعقود قادمة. حيث سيتم تحديثها باستمرار بأسلحة وأجهزة استشعار جديدة، وستظل منصة هائلة تتربص بصمت تحت المحيط بانتظار لحظة مناسبة قد تندلع بها الحرب مع خصم شرس ويمتلك قدرات بحرية ضخمة مثل الصين.