حينما وُلد إدين دجيكو، تحديداً في عام 1986، كان الصبي الصغير على موعد مع أحداث درامية ومؤسفة ستُغير مسيرته للأبد: حرب الإبادة التي شنتها صربيا على البوسنة والهرسك!
لم يكن إدين قد أتم عامه السابع بعد، حين بدأ الحصار الذي صُنِّف كأطول حصار في تاريخ الحروب الحديثة لمدينة واحدة؛ وهو الحصار الذي فرضه الصِرب على مدينة سراييفو البوسنية.
سراييفو، كانت المدينة التي وُلد بها إدين دجيكو، حيث لم يتمكن من فهم ما يحدث فيها، لكنه كان يسمع أمه دائماً ما تمنعه من اللعب في الخارج؛ مخافة غدر الحرب وقصفها.
عرف إدين دجيكو حينها أن الكرة عادةً لن تُركل في سراييفو، إلا عن طريق كُرة اصطناعية صممها بنفسه ليلعب بها ويصطحبها في كل الأماكن التي تنقلت إليها الأسرة، حيث لم تمكث الأسرة، بفعل الحرب، في مكان واحد!
فخرجت الأسرة من بيتها، الذي تحول إلى ركام بسبب القذائف والمدفعية المهولة التي دخلت بها صربيا لمدينة سراييفو، ولم يبقَ من المنزل سوى أثره ومكانه ليس إلا.
وبخروج الأسرة، اضطرت إلى قبول منازل أقل شأناً، وأصغر مساحة، منازل ضيقة لكنها آمنة إذا أردنا الدقة، وبعيدة عن بيتهم الأصلي رغم أنها آوت أكثر من 35 فرداً بين جدرانها!
لقد خرج إدين دجيكو إلى هذه الحياة، وهو يسمع ويرى الأقارب والأصدقاء يُقتلون ويُغتالون من حين لآخر، كان يعرف أن الضحايا كُثر، والوحشية الصربية ضد شعبه المسلم في البلاد، والفوضى التي تُحدثها لا يُمكن ردعها.
في يوم من الأيام، ألحَّ إدين دجيكو على أمه للخروج ولعب كرة القدم، كعادة الأطفال، لكنها أصرت على عدم الخروج، وحرمته من لذة اللهو قليلاً مع الأصدقاء الذين ذهبوا لواحد من أهم ملاعب مدينة سراييفو؛ لنفض غبار الحرب عن أجسادهم ولو لساعات فقط.
لكن المأساة، أن تلك المساحة التي اختارها الأطفال للعب كرة القدم، كانت عبارة عن خنادق ضخمة للحرب الضارية، وظن الصِرب أنها مأوى للبوسنيين، وفي أثناء وصول أصدقاء إدين دجيكو، الذين بلغ عددهم سبعة أطفال؛ كانت القنابل في انتظارهم، فانتهت أحلامهم ليلتها، دون صديقهم الذي حالت أمه والظروف دون أن ينضم إليهم؛ ليُصبح فيما بعد، القائدَ التاريخي للبلاد!
إدين دجيكو.. موهبة لم تكسرها الحرب
لم تمر هذه الفترة العصيبة على إدين دجيكو مرور الكرام، وفي الوقت نفسه لم يُحرم من سرد هذه التفاصيل الصعبة، حيث استطاع أخيراً، وبعد انتهاء الحرب، التي استمرت أربعة أعوام، أن يخرج ويُمارس حقه الشرعي في إظهار موهبته للعالم.
رافقت دجيكو صفةٌ طوال الوقت؛ اللاعب الجيد، لكنه ليس الرائعَ الذي تحلم به وتتمناه، حدث ذلك منذ المحطات الأولى في مسيرته، حيث رأى مُشجعو نادي زيلييزنيكار البوسني أن الصفقة التي جلبها فريقهم صفقة مغشوشة!
إذ كان، وما زال، طويل القامة، نحيف الجسد، وهذه المعضلة لم يُلاحظها فريقه الأول إلا بعد تجربته في مركز لاعب الوسط، حيث أثبت بالتجربة والمعاينة ثِقل حركته وصعوبة تمرير الكرات التي تُتوقع من لاعبي الوسط عادةً.
لكن الرهان الأكبر كان في فريق تبليتسه التشيكي، الفريق الذي دفع في إدين دجيكو مبلغ 25000 يورو، وهو ما جعل مسؤولو فريقه السابق يعتقدون أن خروج دجيكو بمثل هذا المبلغ، أشبه بربح اليانصيب!
لم يكن إدين دجيكو مُقدَّراً في وطنه، إذ ظل في نظرهم اللاعبَ الجيد، لكن ليس الرائعَ، وفهم من تلك اللحظة، أن وطنه ليس سوى ساحة للحرب، سواء كانت بالأسلحة التي منعته عن ممارسة كرة القدم، أو مساحة للحرب النفسية التي فُرضت عليه في شبابه بعد أن حاول إثبات نفسه.
نجح إدين دجيكو نجاحاً مُبهراً خارج البوسنة والهرسك، ونجح أكثر مع منتخب بلاده، وأصبح الهدافَ التاريخي للبوسنة، وكذلك اللاعب الأكثر حضوراً في لحظاته المصيرية.
ورفض تمثيل معظم الدول التي دخلها لاعباً، رغم عُلو اسمها وقيمتها بالنظر إلى منتخب البوسنة والهرسك الذي اختار تمثيله، وكان من الممكن رؤية إدين دجيكو بقميص المنتخب الألماني أو حتى التشيكي!
لكن، من الواضح أن الدوافع التي قادته إلى الخروج من بلاده، هي نفسها من حجبته خارجها، حيث رافقته صفةُ كونِه اللاعبَ الجيد، لكن ليس الرائعَ، بعد أن لعب في صفوف نادي فولفسبورغ الألماني.
وحقق للفريق لقب بطولة الدوري الألماني، في إنجاز تاريخي لم يُحققه الفريق، لا قبل هذا الموسم، ولا حتى بعده، واتجه على الفور إلى صفوف نادي مانشستر سيتي الإنجليزي، كأحد أهم لاعبي الكرة الألمانية، في موسم استثنائي للاعب لم يكن معروفاً من قبل.
في إنجلترا، منح الفريقَ أهم لقب في تاريخه الحديث؛ وحسم الصراعَ الأشهر بين قطبي مدينة مانشستر على درع الدوري في موسم 2011-2012، حيث استطاع إدين دجيكو أن يُسجل الهدف ما قبل الأخير في مباراة حسم اللقب أمام كوينز بارك رينجرز.
لم يدرِ أحد، متى حل دجيكو بديلاً؟ ومتى سجل هدف تعديل الكفتين؟ لكن الجميع يعلم كيف سجل أجويرو هدفه الشهير، وكيف صنع ماريو بالوتيللي هذا الهدف المثالي!
حقق دجيكو مع الفريق لقبين لبطولة الدوري الإنجليزي، وحقق لقب بطولة الدرع الخيرية، وكذلك بطولة كأس إنجلترا وكأس الرابطة الإنجليزية، وأتى الإبحار نحو الجُزر الإيطالية، وبدأها في روما.
الجيد، لكن ليس الرائع، لم يُكتب له أن يُحقق ما حلم به في صفوف فريق روما، وخرج خالي الوفاض، رغم وجود الجيل الذهبي لروما تاريخياً: محمد صلاح، رادجا نايجولان، فرانشيسكو توتي، دانييلي دي روسي، أليسون بيكر.
الجيد، لكن ليس الرائعَ، أسهم في الريمونتادا التاريخية التي حدثت أمام نادي برشلونة، حين سجل الهدف الأول وتسبب في ركلة الجزاء التي أتى منها الهدف الثاني، لكن كالعادة، ذهب المجد كله لصاحب هدف الانتصار الذهبي: كوستاس مانولاس، اليوناني الذي اشتهر بسبب هذه المباراة شهرة جعلته حديث الساعة!
وظل قارب إدين دجيكو هكذا، متأرجح، حتى استقر عند ميناء ميلان الإيطالية، وذهب نحو إنتر ميلان، الذي حصد معه لقب بطولة الدوري وكذلك بطولة كأس السوبر، إضافة إلى كأس إيطاليا، وذهابه إلى نهائي دوري الأبطال أوروبا في إسطنبول.
ويبدو أن أنه أعجب بمنظر البسفور، فانتقل إلى أحد كبار أندية تركيا وإسطنبول تحديداً، ناي فنربخشة، لكن يبدو أن بدا رائعاً هذه الأيام في عين الأتراك، فبعمر الـ38 يحتل إدين دجيكو صدارة هدافي الدوري التركي برصيد 18 هدفاً.
خارج الملعب، ظل إدين دجيكو، ابنُ البوسنة، وفياً لبلده وجِراحها التي لم تلتئم إلى اليوم، فظل يشارك في الأعمال الخيرية ببلاده البوسنة والهرسك؛ لمُساعدة المتضررين من الحروب التي نشبت في البلقان، إدراكاً منه لأثر مثل هذه الحروب على الناس وتحديداً الأطفال، الذين كان أحدهم في يوم من الأيام.
ورغم المعاناة التي عاناها دجيكو في طفولته وما حققه من مسيرته، وتغلبه على صعاب عدة، فإن دجيكو لم يتمكن قط من التغلب على ذلك الانطباع الذي عُرف به عند أغلب مشجعي كرة القدم: الجيد، لكن ليس الرائع!
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.