رغم أن بداية عام 2024 حملت مؤشرات إيجابية للغاية بالنسبة للعلاقات بين تركيا وأمريكا، إلا أن الحرب الإسرائيلية على غزة وملفات أخرى تمثل تحديات في علاقات البلدين، فكيف ستتعامل أنقرة وواشنطن مع هذه الأوقات الصعبة؟
مجلة National Interest الأمريكية نشرت تقريراً يرصد التأثير المحتمل لحرب غزة والصراع الروسي الغربي على الأراضي الأوكرانية على العلاقات الأمريكية-التركية.
وتواجه تركيا وأمريكا تحديات أخرى، ففي الوقت نفسه، من المحتمل أنَّ الانتخابات الرئاسية الأمريكية المقبلة ستعيد تشكيل مسار العلاقة بين البلدين، في ظل العودة المحتملة لدونالد ترامب إلى البيت الأبيض.
تقارب وتحسن في العلاقات
في هذا السياق الذي يسوده عدم اليقين، ثمة سؤال رئيسي لا يزال بحاجة إلى إجابة، وهو كيف ستتعامل تركيا والولايات المتحدة مع هذه الأوقات الصعبة وكيف سيكون شكل العلاقة بينهما؟
كانت بداية عام 2024 قد شكلت مرحلة إيجابية على نحوٍ ملحوظ بالنسبة للعلاقات التركية-الأمريكية بعد عدة سنوات حافلة بالتوترات والتحديات. فسرعان ما أُعلن عن أنَّ الولايات المتحدة ستبيع طائرات مقاتلة طراز "إف-16" إلى تركيا في صفقة قيمتها 23 مليار دولار عقب الموافقة على انضمام السويد إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو). في هذه الأثناء، قررت كندا أيضاً رفع حظر الأسلحة المفروض على تركيا.
وذهبت نائبة وزير الخارجية الأمريكي للشؤون السياسية، فيكتوريا نولاند، إلى أبعد من ذلك خلال زيارة إلى أنقرة بقولها: "إذا استطاعت تركيا إنهاء مخاوفنا بشأن منظومة الدفاع الجوي الروسية "S-400″، فمن الممكن أن تستعيد مشاركتها في برنامج إنتاج مقاتلات "F-35".
يشير بيان نولاند، الذي صدر في وقتٍ عصيب بالنسبة لأمن أوروبا وحلف الناتو، إلى كيفية اتخاذ إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن عدة خطوات لتهدئة التوترات وتحسين العلاقات مع تركيا. وعلى الرغم من أنَّ الأزمة القائمة المتمثلة في اعتراض أمريكا على شراء تركيا منظومة "إس-400" الروسية لا تزال عقبة كبيرة في مسار العلاقات الثنائية، إلا أن الزيارة الأخيرة لاثنين من أعضاء مجلس الشيوخ الأمريكي تشير إلى نية واشنطن إصلاح العلاقات مع أنقرة.
ومع ذلك، يجب عدم الخلط بين التوجهات الحالية للسياسة الخارجية التركية، والتي أصبحت أكثر ارتباطاً بالمعاملات التجارية، وتوجهات السياسة الأمنية. فقد بدأت تركيا في توسيع نطاق تعاملاتها واعتمدت نهجاً دقيقاً في السياسة الخارجية يخدم مصالحها في المقام الأول، كما يتضح جلياً من علاقاتها المستمرة مع روسيا.
علاقات تركيا وأمريكا وفصل من التوترات
كانت العلاقات التركية-الأمريكية قد شهدت توترات وتحديات كثيرة على مدى السنوات الماضية، لاسيما بعد محاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا عام 2016. وبينما كانت استجابة إدارة باراك أوباما بطيئة في أعقاب محاولة الانقلاب ضد الرئيس رجب طيب أردوغان، كان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من أوائل رؤساء الدول الذين اتصلوا بأردوغان، الذي كان رئيساً للوزراء آنذاك، وأعرب عن دعمه له.
ولا يزال هذا الموقف محفوراً في الذاكرة الجماعية التركية وساهم بدرجة كبيرة في تشكيل نظرة الشعب التركي إلى الولايات المتحدة والغرب. في حين يُشكّل التعاون الأمني جوهر العلاقة الثنائية بين البلدين، فإنَّ العلاقات بين الشعبين لم تتطور بالقدر الكافي على الإطلاق -كما يتضح من المستوى العالي من المشاعر المعادية لأمريكا في تركيا.
برزت أهمية العلاقات التركية-الأمريكية، مع تداعياتها المباشرة على العلاقات بين تركيا والاتحاد الأوروبي، من خلال التصريحات الأخيرة الصادرة عن دونالد ترامب، الذي قال إنَّ الولايات المتحدة لن تحمي أعضاء الناتو من العدوان الروسي إذا لم تدفع ما يكفي لميزانية الحلف.
تصريحات ترامب بشأن الناتو
كان الرئيس الأمريكي السابق، الذي حسم ترشيح حزبه الجمهوري للرئاسيات المقبلة في نوفمبر/تشرين الثاني، قد أدلى بتصريحات له أثارت صدمة كبرى في العواصم الأوروبية. فخلال تجمع انتخابي في ساوث كارولاينا، قال ترامب إن رئيس "دولة كبيرة"، لم يذكر اسمها، سأله: "حسناً يا سيدي، إذا لم ندفع، وتعرّضنا لهجوم من روسيا، هل ستحمينا؟". وتابع ترامب: "قلت: إذا لم تدفع؟ وأنت متأخر في السداد؟ قال: نعم، لنفترض أن ذلك قد حدث. قلت: لا، لن أحميك. في الواقع، سأشجعهم على فعل ما يريدون. عليك أن تدفع".
لذلك؛ تسعى أوروبا إلى اتباع نهج أكثر تكاملاً بين الدول الأعضاء بما يمكنها من تعزيز قدرة الصناعات الدفاعية على الإنتاج الجماعي بشكل أسرع وأفضل، وتقليل اعتماد الاتحاد على الأسلحة الأمريكية، ومن ثم، تحقيق المزيد من الاكتفاء الذاتي في مجال الصناعات الدفاعية على المدى البعيد.
إذ سلَّط هذا التصريح الضوء على الحاجة الملحة لأن تبدأ أوروبا وتركيا التفكير في الاستقلال الدفاعي. في أعقاب الهجوم الروسي المتواصل في أوكرانيا، توافقت إلى حدٍ ما المصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة وتركيا فيما يخص معارضة الأهداف التوسعية الروسية، لاسيما على طول ساحل البحر الأسود. لذا، عززت تركيا القدرات الدفاعية لأوكرانيا بالتعاون مع دول الحلف الأخرى.
حرب إسرائيل على غزة
لكن تأرجح العلاقات بين تركيا والولايات المتحدة بين التعاون والتوتر بشأن قضايا رئيسية مختلفة، يجعل مستويات التوتر العالية بين البلدين على إثر الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة أمراً غير مفاجئ.
وخلال المراحل المبكرة من إدارة الرئيس جو بايدن، حوَّلت الولايات المتحدة تركيزها الأساسي من منطقة الشرق الأوسط إلى منطقة المحيطين الهندي والهادئ. وكان الانسحاب من أفغانستان يهدف إلى إنهاء الانخراطات العسكرية الأمريكية في الشرق الأوسط إلى حدٍ كبير.
لكن بعد ذلك تبنت الولايات المتحدة نهجاً أكثر نشاطاً في المنطقة بعد إدراكها السمعة السيئة المرتبطة بالاستراتيجية السلبية والانسحاب العشوائي والتدابير المتخذة من جانب الصين لحيازة النفوذ وملء الفراغ الأمريكي في مختلف مناطق العالم.
وفي هذا الإطار، سعت إدارة جو بايدن إلى الاضطلاع بدورٍ استباقي أكثر نشاطاً في تعزيز التعاون وتخفيف التوترات بين دول الشرق الأوسط، وإن كان هذا التوجه ركز بشكل شبه حصري على تحسين العلاقات بين الدول العربية وإسرائيل، أو بمعنى أكثر تحديداً مواصلة مسار التطبيع الذي كانت إدارة دونالد ترامب قد بدأته وأثمر عن توقيع اتفاقية أبراهام بين الإمارات والمغرب والسودان والبحرين مع الدولة العبرية.
وركزت إدارة بايدن على محاولات التوصل إلى صفقة لتطبيع العلاقات بين المملكة العربية السعودية وإسرائيل.
إدارة بايدن وملفات الشرق الأوسط
لكن الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة وموقف جو بايدن الداعم بشكل مطلق لتل أبيب أشعل الموقف أكثر في المنطقة، على عكس ما يصرح به الرئيس الأمريكي من أنه يريد أن يحتوي الموقف المشتعل في الشرق الأوسط. ورصد تقرير لشبكة CNN، عنوانه "الضربات الأمريكية ترسل رسالة خاطئة"، هذا التناقض بين أقوال بايدن وأفعاله.
على الجانب الآخر أدت الوساطة الصينية في المنطقة إلى نتيجة مباشرة وإيجابية تمثلت في تطبيع العلاقات بين السعودية وإيران. لكن قبل ذلك، كانت السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة والبحرين ومصر قد أنهت مقاطعة قطر، الحليفة الرئيسية لتركيا. في هذه الأثناء، أعادت تركيا علاقاتها الدبلوماسية مع إسرائيل، وهو تطور اعتبرته الدوائر السياسية في واشنطن إيجابياً.
لكن الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة أعادت تسليط الضوء على مدى هشاشة العلاقات التركية-الإسرائيلية وجاءت بمثابة تذكير لكلٍ من تركيا والولايات المتحدة بنقاط الخلاف الرئيسية بينهما في منطقة الشرق الأوسط -والتي من بينها القضية الفلسطينية وقوات سوريا الديمقراطية حليفة الولايات المتحدة في سوريا بينما تعتبرها تركيا تهديداً أمنياً خطيراً، حيث تعتبرها أنقرة فصيلاً تابعاً لحزب العمال الكردستاني المصنف كتنظيم إرهابي.
وحتى عندما حدث التقارب بين تركيا وإسرائيل في عام 2022، ظل السؤال الخاص بكيفية استجابة تركيا في حال نشوب صراع إسرائيلي-فلسطيني محتمل بدون إجابة. كان متوقعاً دعم تركيا للفلسطينيين، لكن لم يكن واضحاً إلى أي مدى سيكون هذا الدعم.
موقف تركيا من المقاومة الفلسطينية
بعد فترة وجيزة من الهدوء الاستراتيجي، وجهت تركيا انتقادات شديدة لإسرائيل بسبب هجماتها الجوية على قطاع غزة. أعربت أنقرة أيضاً عن قلقها من أنَّ واشنطن تخطط لعسكرة القضية الفلسطينية بإرسال حاملات طائرات إلى المنطقة.
علاوة على ذلك، اتضح جلياً أنَّ تركيا والولايات المتحدة تنظران إلى القضية الفلسطينية من منظور مختلف تماماً. فواشنطن حليف تل أبيب وراعيها الأول وهو ما يجعل الإدارات الأمريكية يصنفون فصائل المقاومة الفلسطينية، وبخاصة حركة المقاومة الإسلامية الفلسطينية حماس، كإرهابيين. وعلى الجانب الأخر، يعيش بعض قادة المقاومة في الخارج في تركيا ويصف الرئيس أردوغان مقاومي حماس وغيرهم من المقاومين الفلسطينيين بأنَّهم مقاتلون من أجل الحرية.
ملفات شائكة بين أنقرة وواشنطن
على الرغم من بعض مجالات التوافق، لاسيما المجال الأمني، لا تبدو العلاقات بين أنقرة وواشنطن في الشرق الأوسط مشرقة للغاية في المستقبل المنظور، بحسب تقرير المجلة الأمريكية.
إذ إنه بغض النظر عمَّن سيفوز في الانتخابات الرئاسية الأمريكية المقبلة، ستظل القضية الفلسطينية وقوات سوريا الديمقراطية من أهم القضايا الخلافية العالقة بين تركيا والولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط. ويُتوقع أن تتواتر الخلافات الكبيرة بشأن غزة وقوات سوريا الديمقراطية لمدة 4 سنوات أخرى في حال فوز بايدن بولاية رئاسية جديدة. وفي هذه الحالة، يمكن توقع نهج أمريكي بارد بوجهٍ عام تجاه تركيا في المنطقة، وهو ما سيُقيّد سبل الوساطة التركية في الحرب.
على الجانب الآخر، قد لا يحمل الفوز المحتمل لدونالد ترامب في انتخابات نوفمبر/تشرين الثاني سوى تأثير طفيف على العلاقات بين البلدين. فعلى الرغم من انتقادات ترامب اللاذعة لحكومة بنيامين نتنياهو، ستواصل الولايات المتحدة على الأرجح دعمها التاريخي لإسرائيل في عهد ترامب أيضاً.
ماذا لو عاد ترامب إلى البيت الأبيض؟
نتيجة لذلك، سوف تستمر على الأرجح الخلافات بين الولايات المتحدة وتركيا بشأن هذه القضية. ومع ذلك، فإن الميول الانعزالية العرضية لإدارة ترامب قد تقود إلى رغبة في إنهاء الصراع المسلح في أقرب وقت، حتى لو لم يكن ذلك مفيداً تماماً لمصلحة إسرائيل.
لكن بالنظر إلى خطة ترامب المقترحة سابقاً للسلام في منطقة الشرق الأوسط (صفقة القرن)، فإنَّ الاتفاق أيضاً لن يكون مثالياً بالنسبة للفلسطينيين. نتيجة لذلك، قد يكون ترامب أكثر ميلاً إلى إعفاء الولايات المتحدة من مسؤولية تنسيق الصراع في فلسطين من خلال التوصل إلى اتفاق إقليمي مع قوى وسيطة مثل تركيا.
وبناءً عليه، من المرجح أن يسعى ترامب للوصول إلى حل توافقي بشأن قتال تركيا ضد قوات سوريا الديمقراطية. ومع ذلك، لا يمكن الجزم بأي شيء حتى الآن نظراً لعدم القدرة على التنبؤ بنهج السياسة الخارجية لترامب، كما يقول تقرير ناشيونال إنتريست.
من ناحية أخرى، قد تنظر تركيا إلى رئاسة ترامب الجديدة على نحوٍ إيجابي؛ لأنَّها قد تزيد التعاون على مستوى القيادة، وهو ما يُسهّل معالجة بعض القضايا القائمة منذ فترة طويلة من خلال التعامل مع ترامب مباشرةً.
وتستطيع تركيا إيجاد أرضية مشتركة بسهولة أكبر مع إدارة ترامب فيما يتعلق بشؤون منطقة الشرق الأوسط تحديداً. أما بالنسبة للقضايا المتعلقة بحلف الناتو أو روسيا، قد يحقق التعامل مع إدارة بايدن نتائج أكثر فاعلية.