لا احتمال لتفسير آخر غير أنه يكشف ما تضمره الصهيونية الدينية، فالحاخام إلياهو مالي ظهر معبراً عن آلاف حاخامات إسرائيل، متحدثاً عن "الحرب المقدسة" (ضد الفلسطينيين، والعرب بصورة خاصة)، التي لا تُبقي شيخاً ولا طفلاً ولا امرأةً ولا حيواناً ولا جماداً، تشجيعاً للمذابح التي عرفها دم ولحم الفلسطيني منذ ما قبل نكبة 1948 على يد عصابات صهيونية إرهابية. لا جديد في الأمر الذي حفظه الفلسطيني عن ظهر قلب، ولم يصدقه عربٌ كثيرون، في قولبة وصناعة أجيال يهودية غارقة في مرض اعتبار جرائم الإبادة والتطهير العرقي كذروة التدين و"انصياع للرب ووصاياه".
ويبدو عبثياً إجراء مقاربة من مثل: ماذا لو كان الحاخام الملتحي شيخاً مسلماً، أو قساً فلسطينياً، أو يسارياً ماركسياً حتى، خرج ليقول: "نعم، يجب قتل اليهود، صغيرهم قبل كبيرهم، النساء والرجال والأطفال، وكل من يدبّ منهم على الأرض؟". العبثية هنا منبعها الواقع العربي بحد ذاته، إذ ليس من يطالب بـ"إبادة اليهود" من تعج بهم زنازين الأنظمة، بل من يربط بين دينه وواجبه الإنساني الوقوف مع العدالة ونصرة المظلوم والمضطهد في فلسطين، وغيرها.
بالمناسبة، حتى حركة "حماس"، هذا عداك عن بقية مكونات حركة التحرر الوطني الفلسطيني، لم تجد أن هدفها من الكفاح هو مسألة "إبادة اليهود"، فلو كان محتل فلسطين وثنيين ولا دينيين سيقاومه الفلسطيني؛ لأنه محتل، ولأنه يقوم على الجريمة والمذابح والتطهير، وهذه المرة مستخدماً تعاليم تلمودية وتوراتية موغلة في لغة السيوف والغدر وقطع الرؤوس وإسالة الدماء، دون رحمة ولا شفقة حتى بحق الرضع، في جرائم مكتملة الأركان، بحجة "درء" أن يكبر الصغار ويطالبوا بحقوقهم التاريخية، ألا يذكّر ذلك ببروباغندا الفاشية والنازية الأوروبية بحق اليهود أنفسهم؟
على كلٍّ، القارئُ ذكي وقادر على إيجاد الجواب الحقيقي والواقعي على سؤال: هل يجوز قتل المدنيين؟ البديهي، إذا لم يكن العقل مريضاً، لا أخلاق ولا ضمير، فضلاً عن التدين، في التفكير الإنساني السوي، تقبل بما يحرض عليه إلياهو، ويربي مع الآلاف تلك الأجيال الإسرائيلية المريضة التي ترونها ترتكب تحت مسمى "جنود" كل الموبقات في غزة، وقبلها عبر تاريخ الصهيونية، وبالطبع قبل أن ترصدهم سرعة انتشار حقيقتهم عارية بلا رتوش. بالمناسبة في ثقافة القطيع الصهيونية يبدو غريباً أن تجد في مجتمع الهوس بالقتل قلة قليلة ممن يعترضون على التحريض الديني المعتوه طيلة 75 سنة.
فلو أنَّ عربياً بمنصب حرَّض على مثل ما ذهب إليه إلياهو من أن "جميع اليهود في فلسطين، صغارهم قبل كبارهم، يؤيدون إبادة الشعب الفلسطيني، وسيكبرون على تعاليم الحاخامات لقتل العرب، ومن الواجب في حرب مقدسة التخلص من اليهود كلهم".
تخيل ما سيصير عليه المسؤول، وعشيرته، ودولته، مؤكد أننا سنكون أمام تفجع وبكائيات عن "العربي الهمجي" و"الإرهاب الإسلامي" وضرورة تغيير المناهج التعليمية والصحافة والفنون، وكل ما ينتج ذلك المرض القائم بين الصهاينة. وربما يطالب البعض في الغرب المنافق بحملات صليبية "لتخليص البشرية من الوحوش الآدمية". ألا يفهم العرب أن تصريحات مجرمي الحرب في دولة الاحتلال الإسرائيلي عن "الوحوش والحيوانات البشرية"، في وصف الفلسطينيين في غزة، ورفض التمييز بين مدني وعسكري، ليست زلات لسان، بل تقوم على تعاليم تلمودية حاخامية؟ وعلى حقيقة ما قامت عليه بالأصل ما تسمى "إسرائيل".
مشكلة العقل العربي ليس في أنه لا يدرك عمق ما يواجهه مع مشروع صهيوني يلعب دوماً على حافة اختراع ما يشبه "مواجهة دينية"، تتداعى العقول الاستعلائية الغربية تحت عناوين كذابة من مثل "الثقافة اليهو-مسيحية"، لحشد ما جرى حشوه في العقل الباطني لمطبّعي الفاشية وأماني استعادة التفوق الاستعماري الأبيض.
مع أن تلك "الثقافة" هي التي لعنت "سنسفيل" أجداد اليهود، والولوغ في دمهم عبر التاريخ في أوروبا، ليس فقط في جرائم النازية الألمانية بين 1933 و1945، بل لقرون طويلة خلت.
وحتى اليوم، ثمة أمثلة شعبية في ألمانيا والدول الشمالية (إسكندنافيا) تستهدف اليهود، مثل وصف الشخص البخيل بأنه "يهودي". وفي تنميط واحتقار اليهود لا يزال عقل اليمين المتطرف (بعيداً عن رتوش الانتهازية) يروج بعمق وإيمان بأن ما يجري في دول أوروبا، وحتى في أمريكا، سببه "اليهود ونخبتهم المالية والإعلامية"، وبالتعاون مع ما يسمونه "الدولة العميقة للماسونية". بل إن فيكتور أوربان المجري لم يتردد في وصف ذلك حين يهاجم الملياردير اليهودي-المجري الأمريكي جورج سوروس بالتعاون مع "النخبة"، من أجل فرض "الاستبدال العظيم" و"أسلمة القارة الأوروبية"، من خلال تدفق الهجرة واللجوء.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.