بعد أيام قليلة تنتهي المهلة (نهاية مارس/آذار 2024) التي أعطاها ملك المغرب محمد السادس للجنة خاصة، وذلك بغرض إصلاح مدونة الأسرة في المغرب (قانون الأسرة).
ومع اقتراب انتهاء المهلة احتدم النقاش بين الإسلاميين واليساريين من منظمات حقوقية ونسائية، بخصوص بعض الفصول كالمساواة في الإرث، وتجريم تزويج القاصرات، والسماح بالحق في الإجهاض والتعدد.
وكان الملك محمد السادس دعا، في سبتمبر/أيلول 2023، إلى إطلاق مشاورات موسعة لإصلاح مدونة الأسرة في المغرب، وذلك من أجل تجاوز الاختلالات بعد 20 سنة من إقرار المدونة.
العدالة والتنمية: نتصدى لتحريف الشريعة
حزب العدالة والتنمية الذي يمثل واحدة من أقوى التيارات الإسلامية في المغرب، خرج ليؤكد على ضرورة التصدي لبعض المقترحات التي تُقدم بخصوص تعديلات مدونة الأسرة في المغرب.
وقصد حزب العدالة والتنمية، في البلاغ الذي نشره على موقعه الرسمي، المجلس الوطني لحقوق الإنسان (مؤسسة دستورية)، واعتبرها تخالف بشكل واضح المرجعية الإسلامية.
واقترحت مذكرة المجلس الوطنية لحقوق الإنسان تغيير نظام الإرث، بما يوسع من استفادة النساء منه، وإعطاء صاحب الأموال الحق في الاختيار بين الوصية أو تفعيل قسم الميراث.
ويُطالب المجلس في مقترحاته لتعديل مدونة الأسرة بمراجعة نص يمنع الزواج المؤقت، وزواج المسلمة بغير المسلم، والمسلم بغير المسلمة ما لم تكن كتابية.
من بين النقاط الشائكة التي حملتها مذكرة مقترحات المجلس الوطني لحقوق الإنسان لتعديل مدونة الأسرة، دعوته إلى منع تعدد الزوجات، والتخلي عن المقتضيات المرتبطة بتقييده في المدونة.
وطالب المجلس بمنع تزويج القاصرات وتجريمه وتجريم المشاركة فيه، ويقترح المجلس حذف الاستثناء في تزويج القاصرات، وتثبيت قاعدة تحديد سن الزواج في 18 سنة شمسية كاملة.
بثينة القروي، أستاذة القانون بجامعة محمد السادس، وبرلمانية سابقة وقيادية في حزب العدالة والتنمية، قالت "في الحالة المغربية هناك مقاربتان مختلفتان لمقاربة موضوع المرأة والأسرة، تلتقيان في بعض النقاط وتختلفان في نقاط أخرى".
وأضافت القيادية في العدالة والتنمية في تصريح لـ"عربي بوست" أن هناك بعض التوجهات تبالغ في الاقتباس من التجارب الغربية، ولا تراعي خصوصية المجتمع المغربي.
تقول أستاذة القانون بجامعة محمد الخامس بالرباط إن "الاختلاف في وجهات النظر طبيعي، فليس من المفترض تنميط المجتمع بأفراده وجمعياته وأحزابه لكي يتبنى رؤية واحدة".
لكن مع ذلك، تقول المتحدثة "ينبغي لجميع وجهات النظر أن تعبر عن نفسها تحت سقف الدستور، فنحن نُشرّع للمجتمع المغربي بهوية تتميز بتبوأ الدين الإسلامي لمكانة الصدارة كما جاء في الدستور".
وكان حزب العدالة والتنمية قد أصدر بلاغاً يقول فيه إن تعديل مدونة الأسرة يجب أن يستحضر "المرجعيات والمحددات المتمثلة في المرجعية الإسلامية والمقتضيات الدستورية والتوجيهات الملكية، باعتبار الملك أميراً للمؤمنين، وكذا اختيارات وقناعات المجتمع المغربي المسلم".
ولم يكن عبد الإله بنكيران، الأمين العام، بعيداً عن النقاش الدائر بخصوص تعديلات مدونة الأسرة في المغرب، وشنَّ هجوماً على مذكرة المجلس الوطني لحقوق الإنسان التي قدَّم فيها مقترحاته.
وقال الأمين العام لحزب العدالة والتنمية إن "مقترحات تعديلات المجلس الوطني لحقوق الإنسان بخصوص مدونة الأسرة في المغرب تخرق أحكام الدستور".
ورفض بنكيران المساس بالشريعة الإسلامية في نص المدونة، ملوحاً بالخرج في مسيرة مليونية، كتلك التي نفذتها القوى الإسلامية ضد خطة إدماج المرأة في التنمية عام 2001، والتي انتهت بتحكيم ملكي.
مدونة الأسرة في المغرب واحتجاج العلماء
النقاش لم يطفُ على السطح حول المدونة على مستوى الهيئات والتنظيمات السياسية المختلفة، بل بدأ أول الأمر داخل المؤسسة الدستورية التي تُعنى بالشأن الحقوقي لكل المغاربة، ويتعلق الأمر بالمجلس الوطني لحقوق الإنسان، الذي تترأسه أمينة بوعياش.
موقف حزب العدالة والتنمية يُوافقه بشكل قاطع بعض أعضاء المجلس العلمي الأعلى (يُعنى بالإفتاء ويترأسه الملك)، والذين أعلنوا عن احتجاجهم ضد المساس بمقتضيات الشريعة.
وأفضت دورة للمجلس قبل أيام إلى خروج عضو المجلس العلمي الأعلى، العلامة إدريس خليفة، معلناً موقفاً حاداً ضد مذكرة المجلس الوطني لحقوق الإنسان، في إعداد مذكرة مراجعة مدونة الأسرة.
وأكد عضو المجلس العلمي الأعلى، في تصريح لموقع صوت المغرب، أنه منذ بداية النقاش حول المدونة داخل المجلس الوطني لحقوق الإنسان لاحظ أن هناك "مخالفات كثيرة".
وأضاف المتحدث أن "ما يريده المسؤولون عن المجلس الوطني لحقوق الإنسان بخصوص موضوع تعديل مدونة الأسرة في المغرب مخالفة للشريعة وللقرآن والسنة والعرف الاجتماعي للأمة المغربية".
الباحث بلال التليدي يرى أن "المشكلة المرتبطة بتفاصيل تعديل مدونة الأسرة في المغرب لم تكن في الهيئة التي عيّنها الملك، بل المشكلة حصلت داخل هيئة شريكة، وهي المجلس الوطني لحقوق الإنسان".
وأوضح التليدي، في تصريحه لـ"عربي بوست"، أن "المجلس الوطني لحقوق الإنسان أصدر مذكرة تتضمن مقترحاته حول مدونة الأسرة، دون أن يفتح الاستشارة الداخلية حولها".
وحسب المتحدث أن كل هذا دفع بعض مكونات المجلس العلمي الأعلى، الممثل بالعلامة إدريس خليفة، للخروج للعلن، وانتقاد المذكرة من باب التبرؤ.
ولفت المتحدث ذاته إلى أن "الطريقة التي خرجت بها مذكرة المجلس توحي بوجود اختراق معين، أو للدقة جهة تريد أن تجعل من مؤسسة دستورية ورقةً ما لدعم مواقف خاصة، ليست بالضرورة محل إجماع مجتمعي".
لا يمكن أن نحلل مع حرم الله
تميل آراء مراقِبة إلى أنه لن يكون لمذكرة المجلس الوطني لحقوق الإنسان أي ترجمة في نص المدونة، إلا فيما سيقبله توافق المجلس العلمي الأعلى والمجلس الأعلى للسلطة القضائية.
وقالت أستاذة القانون بثينة القروي، في حديثها مع "عربي بوست": "في الواقع كان يمكن للنقاش أن يكون أكثر عقلانية وأقل حدة، لو التزم الجميع بمحددات الخطاب الذي أعلن فيه الملك عن ورش التعديل، بالإضافة إلى الرسالة الملكية الموجهة لرئيس الحكومة، والخطاب الافتتاحي للسنة التشريعية الحالية".
وقالت المتحدثة ذاتها: "كان ينبغي التركيز على المشاكل الحقيقية التي تعاني منها المرأة والأسرة في الواقع، باستحضار الوثيقة الدستورية باعتبارها أسمى قانون، ومكانة الصدارة التي يتبوأها الدين الإسلامي في هوية المجتمع المغربي، وتجنب بعض المطالب التي تتعارض مع القطعيات الدينية".
ووسط النقاش المحتدم حول تعديلات مدونة الأسرة، علقت عواطف حيار، وزيرة التضامن والإدماج الاجتماعي والأسرة وعضو الهيئة المكلفة بمراجعة مدونة الأسرة، على هذا السجال.
وأوضحت الوزيرة أن ما يؤطر ورش تعديل مدونة الأسرة في المغرب واضح، وهي الشريعة الإسلامية، ولا يمكن الخروج عنها ولا اجتهاد مع وجود النص، لكن الدين الإسلامي فيه اجتهاد، لماذا نريده أن يقف الآن".
وكان العاهل المغربي الملك محمد السادس أكد في رسالته الموجهة لرئيس الحكومة، أنه "لا يمكننا أن نُحلّ ما حرَّم الله، ولا أن نُحرِّم ما أحلَّه جل وعلا".
وحرص الملك محمد السادس في رسالته لرئيس الحكومة على أن يتم تعديل المدونة "في إطار مقاصد الشريعة الإسلامية، وخصوصيات المجتمع المغربي، وأن يتم الاعتماد على فضائل الاعتدال، والاجتهاد المنفتح".
وأضافت رسالة الملك محمد السادس، الموجهة لرئيس الحكومة، عزيز أخنوش، أن "إعمال فضيلة الاجتهاد البناء هو السبيل الواجب سلوكه لتحقيق الملاءمة بين المرجعية الإسلامية ومقاصدها المثلى، وبين المستجدات الحقوقية المتفق عليها عالمياً".
ومن بين أبرز مقترحات التعديلات التي عليها نقاش، نجد منع التعدد الذي يُدافع عن الإسلاميين ويرفضه التيار اليساري، وزواج القاصرات، والمساواة في الإرث وإسقاط التعصيب.
وهناك نقاش بين الإسلاميين بعضهم البعض على واحدة من أهم مقترحات تعديلات مدونة الأسرة في المغرب، وهي قضية إثبات نسب الابن الناتج عن علاقة غير شرعية.
وتُعارض حركة التوحيد والإصلاح الدعوية نسب الطفل المولود خارج مؤسسة الزواج، في الوقت الذي يرى فيه الوزير السابق والقيادي السابق في العدالة والتنمية أن الطفل يُنسب لوالده ولو ولد خارج مؤسسة الزواج.
من جهتها قالت القيادية في العدالة والتنمية، بثينة القروي، إن المطالبة ببعض التعديلات التي تتعارض مع الشريعة الإسلامية يعتبر خطأً منهجياً كبيراً.
وأضافت المتحدثة أن هذه المطالب تتعارض مع المرجعية الدينية للمغاربة، وتتعارض مع الدستور، فضلاً عن أنها لا تجيب عن الاختلالات الحقيقية التي كشف عنها تطبيق مدونة الأسرة في المغرب لمدة 20 سنة.
وأوضحت القروي أن "الاجتهاد يتم فيما ليس فيه دليل قطعي من الأحكام، أما كل ما فيه دليل ظني في ثبوته أو دلالاته أو فيهما معاً، أو ليس فيه نص دليل، فهو مجال رحب للاجتهاد".
وأشارت المتحدثة إلى أن الاجتهاد هو الذي يعطي للمرجعية الإسلامية خصوبتها وثراءها، ويجعلها قادرةً على مسايرة العصر دون تفريط في حدود الله، ودون تضييع لحقوق الإنسان.
ولفتت المتحدثة إلى وجود "تكامل خلّاق بين المرجعية الإسلامية والمرجعية الكونية لحقوق الإنسان، وتعتبر منظومة حقوق الإنسان محصلة تفاعل الكثير من الفلسفات والحضارات والثقافات، إذ إن التراكم الذي حققته البشرية في مجال احترام حقوق الإنسان والنهوض بها أسهمت فيه الحضارة الإسلامية بشكل كبير".