في مواجهة صعود البحرية الصينية، تستكشف البحرية الأمريكية دمج المسيرات الغاطسة غير المأهولة (الغواصات المسيّرة) مع الغواصات النووية الهجومية من أجل إحداث ثورة في عالم الحرب المضادة للغواصات.
وقد اعتمدت القوات البحرية المختلفة تاريخياً على الأنظمة المستقلة أو شبه المستقلة، مثل الطوربيدات الموجهة بالأسلاك، لتحديد الأهداف أو الاشتباك معها.
وتتضمن التطورات المعاصرة تطوير الولايات المتحدة ومنافسيها لتقنيات الغواصات المسيّرة حتى تعزز قدرات مطاردة الغواصات، الأمر الذي قد يجعل المنصات التقليدية عرضةً للخطر، حسبما ورد في تقرير لمجلة The National Interest الأمريكية.
لماذا تعد الغواصات المسيّرة أداة فعالة في الحرب البحرية؟
وتوفر الغواصات المسيّرة نقاط تفوّق استراتيجية في رصد الغواصات الأهدأ التي تعمل بالديزل والكهرباء، وكذلك غواصات الدفع المستقل عن الهواء، سواء عن طريق الانتظار أو المطاردة النشطة.
ويشير مفهوم الدمج بين الغواصات المسيرة وبين الطوربيدات إلى مستقبل سيشهد نشر الغواصات النووية للمسيّرات من أجل توسيع عمليات رصد التهديدات والاشتباك تحت الماء، وهذا سيحوّل الغواصات إلى ما يشبه حاملات الطائرات تحت الماء.
ويتوقف حدوث هذا التحول على اجتياز تحديات الاتصال والتشغيل في بيئات تحت الماء.
ولا شك أن التطورات في مجالي الذكاء الاصطناعي والاتصال تُعد ضرورية من أجل تحقيق الإمكانات المحتملة للغواصات المسيّرة القتالية، التي قد تُحدث تغييراً كبيراً في ديناميات الحرب البحرية عن طريق توسيع مدى الفتك والتنوع العملياتي للغواصات النووية.
ولك أن تتصور مستقبلاً تستطيع خلاله الغواصات النووية الهجومية نشر الغواصات المسيّرات تحت الماء لمطاردة غواصات العدو، وربما القضاء عليها. إذ تأخذ البحرية الأمريكية -على الأقل- خطوات لتحويل ذلك التصور إلى واقع. فما الأثر الذي سيتركه ذلك؟
من ناحية، تستطيع الغواصات المسيّرة أن تقلب موازين الحرب المضادة للغواصات رأساً على عقب، وأن تُعرِّض المنصات الحالية للخطر أو تحوّلها إلى منصات عفى عليها الزمن.
وعلى الناحية الأخرى، قد يعزز تطوير الغواصات المسيرة من التسلسل الهرمي الحالي للمركبات. حيث تكون المنظمات الراسخة عادةً هي الأقدر على التكيف مع الابتكارات العسكرية الفارقة، بعكس التصور الشائع. ولهذا يتوقف مستقبل البحرية الأمريكية بدرجةٍ كبيرة على الفرضية التي ستتحول إلى واقع من بينهما.
الغواصات المسيرة تعود للحرب العالمية الثانية
يُمكن القول إن المسيّرات التي تطلقها الغواصات كانت موجودة منذ فترة. وحتى أثناء الحرب العالمية الثانية، اعتمدت القوات البحرية المختلفة على تتبع الأنماط أو الإرشاد الصوتي من أجل العثور على الأهداف. بينما دخلت الطوربيدات الموجهة بالأسلاك في الخدمة خلال الستينيات، ما منح الغواصة درجة تحكم في طريقة اقتراب السلاح من هدفه. وتُعد هذه الطوربيدات بمثابة غواصات انتحارية، كما هو حال صواريخ كروز الجوالة مثلاً. إذ تمثل أسلحةً يُمكن إطلاقها ثم توجيهها نحو هدفها باستخدام آليات مستقلة أو بواسطة واجهة مستخدم.
وقد سعت الولايات المتحدة والدول المنافسة بكل حماس لتطوير إمكانات الغواصات المسيرة. إذ تستطيع الغواصات المسيرة المساهمة في نشاطي مطاردة الهدف والقضاء عليه ضمن نطاق الحرب المضادة للغواصات، رغم أن الخطط المؤكدة الوحيدة حتى الآن تتعلق بالاستخدام الأول. حيث توفر هذه الغواصات المسيّرة فرصاً أفضل لتعقب وتدمير الغواصات التي تعمل بالديزل والكهرباء، وحتى تلك التي تستخدم تقنية الدفع المستقل عن الهواء. ويمكن لتلك المركبات المسيّرة العمل بهدوء أكبر من الغواصات المأهولة، والبقاء غاطسةً تحت الماء لفترة أطول من الوقت. وبدلاً من مطاردة غواصات العدو، تستطيع المسيّرات أن تربض في مكانها حتى تأتي الفريسة إليها.
ما دور الغواصات الأم في هذا النمط الجديد من الحرب؟
يمزج التفكير الجديد بين الغواصات المسيّرة وبين الطوربيدات. إذ تأمل البحرية الأمريكية استخدام الغواصات المسيرة الصغيرة، التي يمكن إطلاقها من أنابيب الطوربيدات، وذلك لتكوين صورة للماء تحت سطح البحر تشبه الصور التي تصنعها الأقمار الصناعية والرادارات والطائرات المسيّرة للفضاء الجوي.
وباستخدام موجات السونار النشطة والسلبية، يُمكن نشر الغواصات المسيّرة من غواصة نووية هجومية لاستكشاف المنطقة ومحاولة رصد أي تهديدات للسفينة الأم.
وعند التأكد من وجود تهديدات، يمكن للغواصات المسيّرة إضاءة الهدف بالسونار النشط (حتى تستطيع الغواصة النووية استهدافه وتدميره بالطوربيدات)، أو نقل المعلومات سلبياً إلى السفينة الأم، أو ربما تنفيذ هجوم "انتحاري" ضد الأهداف بنفسها. وتستطيع الغواصات المسيّرة توسيع مدى الفتك الخاص بالسفينة الأم فعلياً والتعامل مع التهديدات في منطقتها.
الاتصالات أم مشكلات تحت الماء.. فهل اقتربت البحرية الأمريكية من التغلب عليها؟
يعتمد نجاح الغواصات المسيّرة -إلى حدٍّ ما- على تطوير تقنيات اتصالات تُتيح للمشغلين البشر البقاء على تواصل مع المسيّرات، وتتيح للمسيّرات نفسها نقل صورة دقيقة لمحيطها.
ولا شك أن طبيعة الماء تجعل تحقيق ذلك في البحر أصعب من الجو، لكن وكالة مشاريع أبحاث الدفاع المتقدمة التابعة لوزارة الدفاع الأمريكية "داربا"، ونظيراتها في الصين وروسيا على الأرجح، بدأت العمل على تحسين الاتصال والشفافية تحت سطح البحر. ومع ذلك فإن جهود نقل البيانات إلى السفينة الأم تستطيع كشف موقع الأخيرة. كما أن الإشكالية الأكبر تتمثل في أن الغواصة المسيّرة التي تستخدم السونار النشط قد تكشف موقع السفينة الأم بالخطأ، ما قد يترك الأخيرة عرضةً للهجوم.
وتعاني فكرة الغواصات المسيّرة الانتحارية من مشكلاتها الخاصة أيضاً. إذ لطالما كانت القوات البحرية المختلفة مرتاحةً لفكرة استخدام الطوربيدات الموجهة صوتياً، التي تستطيع الاقتراب من الهدف بمفردها، لكن المسيّرات الأكثر تطوراً التي تعمل على مسافات أبعد من السفينة الأم قد تحتاج لمعايير أكثر تعقيداً في اتخاذ القرار.
وتواجه هذه المسألة نفس التعقيدات التي تعاني منها آلات القتال المستقلة على البر وفي الجو، مع إضافة صعوبات التواصل التي تفرضها بيئات تحت البحر.
هل ستتحول الغواصات النووية إلى منصات تشبه حاملات الطائرات ولكن تحت الماء؟
في رواية "الأسطول الشبح Ghost Fleet" لبيتر سينغر وأوغست كول، تلجأ البحرية الأمريكية إلى الغواصات المسيّرة للقضاء على الغواصات الصينية، وذلك بعد خسارة الشطر الأكبر من أسطول غواصاتها النووية الهجومية. إذ أدى اليأس إلى توفير حافز قوي للابتكار.
ومع التقدم في مجالي الاتصالات والذكاء الاصطناعي، ليس من المستحيل إطلاقاً تصور سيناريوهات لغواصة نووية هجومية تلعب دور السفينة الأم وهي تنشر قوةً فتّاكة من الطوربيدات المدمرة، التي تستطيع التمركز داخل مواقعها لأيام (أو أكثر) في انتظار الضحية.
ويتطلب هذا الأمر درجة تساهل معينة مع الخطر؛ لأن المشغلين قد يفقدون السيطرة على مسيّراتهم حتى أثناء العمل تحت أفضل الظروف.
لكن هذا الاتجاه سيوفر كذلك وسيلةً تُتيح للغواصات النووية الهجومية الكبيرة والقوية فرصةً لاسترداد الأفضلية التي ربما بدأت تخسرها البحرية الأمريكية، وذلك لصالح زوارق الدفع المستقل عن الهواء الصغيرة والهادئة التي شرعت القوات البحرية المختلفة في استخدامها بدرجةٍ متزايدة.