ظل تنظيم القاعدة، وزعيمه الراحل أسامة بن لادن، سراً كبيراً لم يصل كثيرون إليه، رغم مرور 17 عاماً على هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001 التي هزت الولايات المتحدة الأميركية وغيرت وجهة العام.
لكن ثمة عميل نجح في اختراق هذا التنظيم الحديدي ومكث فيه عدة سنوات، بعد إلقاء القبض عليه من قبل الاستخبارات البريطانية في البحرين بتهمة الانضمام للقاعدة ومن ثم تم إعادة زرع هذا الرجل داخل التنظيم.
صحيفة The Guardian البريطانية ذكرت قصة الكتاب الذي نشره هذا العميل وقص فيه الفترة التي عاشها داخل التنظيم وكيف وصل إلى أن أصبحاً عضواً هاماً داخله.
كتاب Nine Lives، الذي تحدث عن الجاسوس الذي اختار لنفسه اسم أيمن دين، وهو غير حقيقي كما تقول الصحيفة رصد المراحل التي مر بها العميل داخل التنظيم وكيف غيره فكره من مؤيد وداعم لـ"القاعدة" إلى جاسوس ينقل أخباره إلى "الأعداء".
وبحسب الكتاب حين انهار نظام طالبان في أفغانستان في نوفمبر/تشرين الثاني 2001، اندفع الصحفيون الذين كانوا منتظرين في أجزاءٍ من الدولة خارج سيطرة القاعدة أو في دولٍ مجاورة لباكستان إلى معسكرات التدريب المقصوفة والمهجورة، حيثُ بنت القاعدة قوتها الضاربة التي نفذت هجمات 11 سبتمبر/أيلول.
ويتابع مؤلف الكتاب قائلاً: "كنت في مدينة جلال أباد الشرقية، حيثُ ما زالت قوات المعارضة في اشتباكاتٍ مع بقايا القاعدة في مساء ليلة سقوط المدينة. وبعد ليلة في الفندق الوحيد الذي لم يتوقف عن العمل في المدينة، قدتُ عدة أميال عبر طريقٍ مليئة بالحفر إلى كابول. كنتُ قد سمعت في العديد من رحلات تغطية الأحداث في أفغانستان في ظل حكم طالبان عن معسكر للتدريب يقع بالقرب من خزانٍ اسمه دارونتا، على بعد ميل من الطريق الرئيسي. لم يكن من الصعب الوصول إليه: مجمع من الأكواخ الطينية والثكنات بالقرب من الطريق".
قصة خزان دارونتا
وتلعب دارونتا دوراً محورياً في القصة الاستثنائية المحكية في كتاب Nine Lives. من النادر لأجهزة الاستخبارات الغربية أن تزرع جاسوساً في منظمة مثل القاعدة، والأكثر نُدرة أن يُكشَف عن هوية الجاسوس. ولم يسبق أن نشر أحدهم مذكراتٍ مُفصلة لأكثر من 10 أعوام عن نشاطه مع ما يكاد أن يكون أعلى مستوى من التشدد الإسلامي.
ويحكي أيمن دين -هذا ليس حتماً اسمه الحقيقي- الحكاية جيداً. ساعده باقتدار بول كروكشانك، وهو صحفي وباحث يعيش في أميركا، لديه معرفة عميقة بالموضوع وقدرة على تحويل ذكريات عميل في صورتها الأولية الخام إلى مادة قابلة للفهم للجمهور العام. (وهناك مشارك آخر، وهو تيم ليستر، مراسل CNN صاحب الخبرة الطويلة في هذا الشأن).
وكتاب Nine Lives يتناول القصة من مستوياتٍ عدة: حكايةٌ إنسانية عن الإيمان والعنف والصدمة، وأخيراً صورة من صور الافتداء، وتعمق في الأعمال الداخلية التنظيم الأكثر تشدداً في العالم، وتاريخاً موجزاً عن التهديد الذي ما زال يواجهنا.
الجاسوس نشأ في السعودية وانتقل إلى التنظيم
يروي دين نشأته في السعودية، وكيف اقتيد إلى مجموعة للدراسة الدينية، التي بدت بريئةً وصالحةً، لكنها تنتج في النهاية متشددين على أعلى مستوى. بحلول عام 1994، كان مراهقاً، وفي البوسنة يقاتل مع مسلمين إلى جانب الكروات. وأثرت تلك الأمور فيه، لكنَّها عززت التزامه بالنضال للدفاع عن "الأمة" الإسلامية، ضد "العدوان المزعوم" من الغرب وحلفائه المحليين في العالم الإسلامي. ثم سافر إلى أفغانستان وإلى دارونتا، حيث شارك في محاولة صناعة أسلحة كيميائية وبيولوجية. وانضم إلى القاعدة أيضاً، وأجرى مع مقابلةً أسامة بن لادن بنفسه، بحسب الصحيفة البريطانية.
لم يكن بن لادن هو المتشدد البارز الوحيد الذي قابله دين، إذ ذكر في الكتاب كل شخصيات المتشددين الرئيسية الناشطة في تلك الحقبة، من الإسلاميين الناشطين في المملكة المتحدة إلى خالد شيخ محمد، الذي خطط لهجمات 11 سبتمبر/أيلول، وأبومصعب الزرقاوي، من ذهب للعراق ليؤسس ويقود القاعدة هناك.
ويقدم الكتاب صوراً "شخصية عن قرب" للشخصيات القيادية، التي من الضروري فهم أفكارها وأعمالها لفهم كيفية تطور التنظيم المتشدد.
لماذا غير دين ولاءه؟
وبحسب الصحيفة البريطانية، كان قلق دين من تورّطه في صناعة قنابل الغاز، التي اختُبِرَت على مئات الأرانب. هو السبب في بعده عن التنظيم الجهادي وظل يتسائل هل من المفترض أن تستخدم أسلحة كتلك ضد المدنيين؟ هل الجهاد مبرر؟ وأخيراً، تردد تجاه التزامه تجاه القضية. وانتهى به الأمر إلى أن اُعتقل في البحرين، وسُلِّمَ إلى جهاز الاستخبارات البريطاني، الذي استخدمه كعميل لعدة سنوات، وأرسله مرةً أخرى إلى أفغانستان ودارونتا. ومن المذهل أن نعلم أنَّ بريطانيا امتلكت عميلاً قريباً من قيادة القاعدة وعمل في مكانٍ حساس كهذا.
روايات دين حول حياته المزدوجة، قبل وبعد هجمات 11 سبتمبر/أيلول، تقدم لنا لمحةً رائعة عن واقع التجسس. تضمن الأمر الكثير من العمليات المملة التي لا حصر لها لاستخلاص المعلومات في غرف فنادق عادية، لكن بها تفاصيل مثيرة. إذ تكشَّفت مؤامرات، وأُرسِلَت خطابات سرية. ولكن الأهم من كل هذا أنَّ القصة الإنسانية الآسرة.
ينتهي الأمر بدين إلى اضطراره للتجسس على عائلته، ويُجبر على التخلي عن مهمة الجاسوسية بعد أن كشف البيت الأبيض غطاءه بسبب تسريباتٍ لصحافي.
وبحسب الصحيفة البريطانية فإن الأمر الوحيد الغريب في ذلك الكتاب هو أنَّ دين على الأرجح لا يستطيع أن يتذكر حرفياً الحوار أثناء محادثاته التي حدثت قبل 20 عاماً تقريباً من كتابة حكايته، أو أن أحد ضباط جهاز الاستخبارات البريطاني رسم على لوحة خلال مقابلة بعينها في 2003، أو بم أجاب أحدهم على الهاتف في 2008. لكن دون تفاصيل كتلك، حتى لو كانت مُتخيَّلة، أي كتاب سيبدو ضعيفاً.
لكتاب Nine Lives نهاية مأساوية. إذ قتل ابن أخ دين (18 عاماً)، قريبه صغير السن الذي يحبه، في الحرب بسوريا بينما كان يحارب إلى جانب الفصائل الجهادية؛ لأنَّه لم يكن ينعم بالقدرة المذهلة للمؤلف على النجاة. زار دين قبر قريبه على عجل، ودعا له وابتعد دون أن ينظر خلفه.