في رحلة مليئة بالتحدي نحو قمة جبل "توبقال"، الأعلى في شمال أفريقيا بارتفاع يناهز 4.167 متراً، يجد هواة التسلق في قرية "سيدي شمهروش" محطتهم الأولى للراحة.
تعد هذه القرية الصغيرة، الواقعة على بعد نحو ستين كيلومتراً من مراكش المغربية، نقطة توقف استراتيجية لالتقاط الأنفاس قبل الاستمرار في الصعود الشاق. لكن بالنسبة للبعض، "سيدي شمهروش" ليست مجرد محطة توقف بل وجهة بحد ذاتها، حيث يقصدها الزوار لزيارة مقام يُعتقد أنه لأحد أشهر ملوك الجن المسلمين، ملك من ملوك الأرض السبعة، بغية حل نزاعاتهم مع عالم آخر.
تقع "إمليل"، آخر قرية تتصل بها وسائل النقل الحديثة ونقطة البداية نحو "شمهروش"، على بعد حوالي ساعتين مشياً منها. عند الوصول، يستقبل الزائر منظر منازل متواضعة، قبة بيضاء وأسراب من الغربان "المسكونة"، معلنة عن الدخول إلى هذا الفضاء الروحاني. داخل القرية، تبرز الشموع البيضاء الموزعة هنا وهناك، احتفاءً بالإيمان بقدرات المكان الخارقة. بجانب المسجد الصغير، يوجد تجويف في صخرة كبيرة تعلوه أعلام بيضاء وخضراء، مكان يُمنع على غير المسلمين دخوله أو تصويره، مضيفاً طبقة من الغموض والتقديس لهذه الزاوية من العالم.
سيدي شمهروش.. محكمة الجن على الأرض
وفقاً للروايات الشعبية الغنية بالأساطير والمعتقدات، تبرز شخصية "شمهروش" كشخصية أسطورية، حاكم وقاضي الجن على الأرض، وأبرز ملوكهم السبعة وأكثرهم خبرةً وحكمةً. ينظر إليه كالأب الروحي للجن الأرضيين، حيث يُقال إن عرشه، المتمثل في قبر صغير مغطى بثوب أخضر، يقع داخل صخرة ضخمة ويحيط به جدران مزينة بآيات قرآنية وأدعية دينية، مما يضفي على المكان قدسية وروحانية عميقة.
التقاليد المحلية و"كتب الجن" التاريخية تشير إلى وجود سبعة ملوك جن أرضيين، كل واحد منهم يحكم يوماً معيناً من أيام الأسبوع، ويتميز بصفات وقدرات فريدة. منهم الملك عبد الله المذهب الذي يظهر يوم الأحد، و"لالة ميرا" التي تفسر أغوار النفس البشرية يوم الإثنين، وأبا محرز الأحمر بخدعه العسكرية يوم الثلاثاء، ويتبعهم الملك برقان والملك الأبيض وسيدي ميمون، كل في يومه المخصص. أما الخميس، فيُخصص لـ"شمهروش"، مع تقديسه للألوان الأبيض والأخضر، التي تُعد أيضاً ألوان العدالة والسلام.
يعد يوم الخميس، يوم المحاكمات الأسبوعية، لحظة حاسمة يحج فيها العديد من الأشخاص إلى القرية، قاصدين تقديم الهدايا والقرابين لـ"شمهروش"؛ أملاً في حل قضاياهم أو تحقيق بعض الرغبات. يُعتقد أن ظهور علامات معينة، مثل حديث الجن المسكن للشخص أو تغير الأحوال الجوية، ينذر ببدء المحاكمة، في طقوس تجمع بين الإيمان العميق والتقاليد الشعبية.
كما تتضمن هذه المعتقدات طقوساً للعلاج والتداوي من الأمراض الروحية كالمس والسحر، تستمر لثلاثة أيام، تبدأ بذبح القرابين وتوزيعها من قبل سلالة "إد بلعيد"، وتتبعها "الحضرة" أو "الزار"، وهي جلسات روحانية تعبيرية تنقل "الممسوس" إلى عالم الجن من خلال الرقص والإيقاعات الطقوسية. في حال فشل هذه الطقوس في تحقيق الشفاء، يُلجأ إلى المحاكمة الروحانية كحل أخير، مما يبرز تداخل الإيمان بالعالم الغيبي مع التقاليد الشعبية في تشكيل نسيج ثقافي فريد.
من هو شمهروش حسب المؤرخين؟
يروي محمد، حفيد الحاج إد بلعيد الذي أسس المقام على جانب الصخرة في عام 1929، قصة "الشيخ أبو الوليد شمهروش"، وصفه بأنه جني مسلم وصحابي ظل على قيد الحياة منذ أكثر من 14 قرناً، بعد أن عاصر النبي محمد. يُعتقد أن لـ"شمهروش" عدداً كبيراً من الأبناء والبنات، بأسماء تعكس تنوعاً وغنى في التقاليد الأسرية لملوك الجن. كما يزعم أن "شمهروش" تنازل عن عرشه لصالح ابنه عبد الرحمن، محتفظاً بدور المشاركة فقط في أبرز المحاكمات بين الملوك.
الروايات حول طقوس المحاكمة والتداوي من السحر في ضريح "شمهروش" تتضارب، وتُروى قصص عن تعليمات ملك الجن بخصوص تقديم الهدايا وذبح القرابين واغتسال المرضى كوسيلة للتخلص من الأمراض الروحية، وذلك استناداً إلى ظهوره أمام سكان القرى المجاورة في الماضي. "الحضرة" أو "الليلة" تُعد من الطقوس الشائعة التي تتم ممارستها لطرد الجن أو تكريمهم، بحسب الاعتقادات والرغبات المختلفة.
في المقام، تُعلق يافطة كبيرة بالعربية والفرنسية تنص على أن الدخول مسموح للمسلمين فقط، مما يشير إلى حصرية الزيارة وفقاً للمعتقدات الدينية المحلية. حسن، وهو شخصية أخرى ضمن الرواية، ينقل وجهة نظر تشير إلى أن أسطورة "شمهروش" تعتبر جزءاً لا يتجزأ من التراث الثقافي لقبائل آيت ميزان، على الرغم من السمعة السلبية المرتبطة بالمنطقة واتهامات الشعوذة والدجل. يوضح حسن التحديات التي تواجهها المجتمعات المحلية في مواجهة نفوذ سلالة بلعيد، معبراً عن موقف يجمع بين الحذر والرغبة في توضيح الحقائق للزوار.
ملك ملوك الجن في المغرب
حسن رشيق، أستاذ الدراسات الأنثروبولوجية في جامعة الحسن الثاني، يلقي الضوء على تاريخ ظهور سلطان الجن في المنطقة، مشيراً إلى أن سلالة "إد بلعيد" تعود بجذورها إلى منتصف القرن الثامن عشر. يروي رشيق قصة موسى بن إدريس، الذي يُعتقد أنه أول من صادف سيدي شمهروش، الذي ظهر في هيئة كلب أسود لمدة سبعة أيام.
من خلال مراقبة موسى لهذا الكلب، كشف شمهروش عن هويته وأعلن عن دور موسى وقبيلته في رعاية المقام وإقامة الطقوس المتعلقة بالذبائح.
أما علي شعباني، أستاذ علم الاجتماع، يتحدث عن استمرار الاعتقاد بخوارق "سيدي شمهروش" ويعتبره جزءاً من الثقافة الشعبية المغربية، مشيراً إلى أن الربط بين الجن والذكر القرآني لهم يعزز الإيمان بمثل هذه الأساطير. يناقش شعباني كيف تتحول الممارسات البسيطة إلى طقوس ثابتة تُمارس عبر الأجيال، ويشير إلى أن هناك من يستفيد من الترويج لهذه الطقوس لأغراض تجارية.
كما أوضح فيصل طهاري، أخصائي نفسي، كيف يمكن للأساطير والمعتقدات الشعبية أن تؤثر على الحالة النفسية للأشخاص، مشيراً إلى أن الإيمان بالعلاج من خلال زيارة المقامات قد يُحدث تحسناً مؤقتاً في الحالة النفسية للزائرين. يؤكد طهاري أهمية العلاجات الدوائية والسلوكية للأمراض النفسية، في حين يستمر البعض في إرجاع هذه الاضطرابات إلى الأرواح الشريرة والجن، مما يعكس تحدياً كبيراً في مجال الصحة النفسية.
تُظهر هذه الآراء تعقيد العلاقة بين الأساطير الشعبية والفهم العلمي للظواهر النفسية، مشددةً على الحاجة إلى نهج أكثر تعليماً ووعياً للتعامل مع الأمراض النفسية وتفكيك الخرافات المحيطة بالجن والمس.