لم تكن عملية مخيم المغازي أسوأ هجوم تعرض له جيش الاحتلال منذ اجتياحه غزة برياً فقط، لكنها سلطت الضوء على خطة إسرائيل لإنشاء منطقة عازلة في غزة، بطول حدود القطاع مع دولة الاحتلال بدعوى حماية مستعمراتها، ولكي يتمكن سكانها من العودة، ولكن محللين إسرائيليين يشككون في الجدوى العسكرية لهذا المشروع.
وحتى قبل عملية مخيم المغازي، كان هناك حديث بين جنود وضباط الاحتلال يدور حول خلق منطقة عازلة في غزة بعرض 1000 متر من الحدود مع إسرائيل، خاصة في حي الشجاعية شرق مدينة غزة وبلدة بيت حانون الواقعة إلى الشمال الشرقي منها.
ونشرت صحيفة Haaretz الإسرائيلية مقالاً للصحفي البريطاني الإسرائيلي أنشيل بيبر، يسلط فيه الضوء على خطة إسرائيل لإنشاء منطقة عازلة في غزة باعتبارها جزءاً من ترتيبات ما بعد الحرب. وقال الكاتب إن الحادث الذي وقع يوم الإثنين 22 يناير/كانون الثاني في مخيم المغازي، حيث قُتل 21 جندياً من جنود الاحتياط خلال عمليات تستهدف هدم بنايات عند الحافة الغربية للمخيم، يوجه دفة الانتباه نحو العملية التي تدور تقريباً منذ بداية الحرب البرية في قطاع غزة، بهدف إنشاء منطقة عازلة داخل القطاع المحاصر، على طول الحدود مع إسرائيل.
مهتهم محو المنازل المدمرة
ويشير بيبر إلى ما قاله ضابط في ألوية الاحتياط التي تنشط شمال قطاع غزة الثلاثاء 23 يناير/كانون الثاني، بأن مهمة قوة الهندسة التي وقعت في كمين المقاومة الفلسطينية، كانت جزءاً من مهماتهم تقريباً طيلة الحرب، حيث يمحون البنايات المشتبه في أنها تحتوي على أنفاق، وكذلك للتأكد من أن المناطق الأقرب من الحدود الإسرائيلية تظل مكشوفة".
أي أنهم يمحون من على الأرض ما سبق أن دمره سلاح الطيران الإسرائيلي بالفعل.
ويقول ضابط آخر إن "هذا يُعرف بأنه مهمة القيادة. وأحياناً تُوكل إلى القوة التي تنشط بالفعل في القطاع، وأحياناً ترسِل القيادة الجنوبية وحدات أخرى للاعتناء بالبنايات المتبقية في المنطقة العازلة (في إشارة لتدميرها بالكامل)".
وفي المناطق التي تقع في شمال قطاع غزة، التي تعرضت لقصف مكثف، مثل بيت حانون التي تقع مقابل مستوطنة سديروت وحي الشجاعية الذي يقع في مقابل كيبوتس ناحل عوز وكيبوتس كفار عزة، يظهر أن جميع البنايات في الشوارع القريبة إلى السياج الحدودي، (تبعد كيلومتراً عنه)، أنها دُمرت جميعها وسويت بالأرض، عن طريق القصف الجوي أولاً، وبعد ذلك من خلال العمليات البرية، مثل العملية التي كانت تُفترض أن تُنفذ يوم الإثنين في مخيم المغازي، قبل أن تحول حماس العملية لكارثة لجيش الاحتلال.
إنشاء منطقة عازلة في غزة يتقدم، ولكن قادة الاحتلال لا يعرفون إذا ما كانت ستحميهم حقاً؟
ولكن في حين أن العمل في المنطقة العازلة، أو الشريط الأمني، صار بالفعل في مراحل متقدمة، لا يزال القادة في قوات الاحتلال التي تنفذ العمليات في غزة غير مستوعبين تماماً ماهية الطريقة التي يُفترض أن تعمل بها هذه المنطقة العازلة، أو ما إذا كانت ستحمل أية مزايا أمنية باستثناء الحقيقة التي تقول إن السكان الإسرائيليين في المناطق المحيطة لن يروا أهل غزة من نوافذهم، حسب تعبير كاتب تقرير هآرتس.
في بيان أدلى به الثلاثاء 23 يناير/كانون الثاني هرتسي هاليفي، رئيس هيئة الأركان، قيل إن هذه العمليات كانت مصممة لـ "إنشاء ظروف أمنية من أجل العودة الآمنة للسكان في قطاع غزة".
قد تتحول لفخ لجيش الاحتلال مثلما جرى في جنوب لبنان
ولا يزال قدامى جنود الاحتياط في الجيش الإسرائيلي، لا سيما طبقة كبار الضباط الذين كانوا في الخدمة في الـ24 عاماً الماضية، يتذكرون المدة الطويلة التي شهدت وجود الجيش الإسرائيلي في القطاع الأمني جنوب لبنان، وخلف الكواليس يمكن أن تُسمع النقاشات حول ضرورة تكرار وجود ذلك القطاع.
وخلال الأعوام الـ 15 بين عامي 1985 و2000، التي احتل فيها الجيش الإسرائيلي المنطقة الأمنية، لم تكن هناك أية اقتحامات إلى المستوطنات التي تقع عند الحدود الشمالية لإسرائيل.
ولا يزال هناك من يؤمنون بأن هذا القطاع الأمني حقق ما استُهدف منه في حماية المستعمرات الشمالية، حسب الصحيفة الإسرائيلية.
500 جندي إسرائيلي قُتلوا خلال سنوات الشريط الأمني بجنوب لبنان
بينما يقول آخرون إن عدم استهدف مستوطنات الشمال الإسرائيلي خلال تلك الحقبة، لا يُعزى إلا إلى الحقيقة التي تقول إن الخصم الرئيسي، المتمثل في حزب الله، كان قانعاً بالهجوم على قوات جيش الاحتلال الإسرائيلي داخل جنوب لبنان، مما تسبب في تكبد الجيش الإسرائيلي خسائر في صفوفه قُدرت بـ 500 قتيل خلال هذه السنوات، (وهي خسائر لم تمنعها المنطقة العازلة، بل قد تكون قد تسببت فيها).
وعلى أي حال، تعد هذه المقارنة إشكالية. فهؤلاء الذين يشكّون في فاعلية المنطقة العازلة في قطاع غزة، يشيرون كذلك إلى حقيقة مفادها أنها منطقة أصغر بكثير من المنطقة الأمنية في لبنان، وأن كيلومتراً واحداً من الأراضي المكشوفة سوف يصعب بالتأكيد على حماس تنفيذ أي هجوم بري في المستقبل، مثلما فعلوا في عملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر/تشرين الأول، أو أن يطلقوا النار عبر تشكيل مباشر من الأسلحة الصغيرة والصواريخ المضادة للدبابات، لكن هذه المنطقة لن تمنع تهديدات الصواريخ أو قذائف الهاون التي تطلقها حركة حماس وحركة الجهاد الإسلامي.
ويمكن لحماس التعويض عن غياب الاستهداف المباشر على خط البصر باستخدام الطائرات المسيرة في ضوء أن اللقطات اللازمة للاستهدف يمكن الوصول إليها عبر صور الأقمار الصناعية بسهولة من خلال الإنترنت، حسب صحيفة Haaretz.
لا يزال هناك انعدام وضوح حول الطريقة التي سينتشر بها جيش الاحتلال داخل المنطقة العازلة، لاسيما بعد أن تضاءلت أعداد قواته البرية في القطاع أو تُسحب كلياً. وثمة احتمالية تشير إلى إنشاء بؤر استيطانية. وقد تجد هذه البؤر نفسها تتعرض للهجوم، سواء عن طريق قذائف الهاون أو الصواريخ أو الهجمات التي تُنفذ باستخدام الأنفاق التي لم يُكشف عنها النقاب كلياً ولم يدمرها الجيش الإسرائيلي. في هذه الحالة سيكون الوضع أشبه بمحور فيلادلفيا في السنوات الدموية السابقة للانسحاب الإسرائيلي من غزة.
تتضمن الخيارات الأخرى، التي أوردها تقرير الصحيفة الإسرائيلية الإبقاء على حركة مستمرة لقوات الاحتلال المتنقلة، التي سوف تكون مكشوفة أيضاً أمام الكمائن الصاروخية، ولكن على الأقل لن تكون هناك أهداف متمركزة، أو منع الاحتلال للفلسطينيين من دخول المنطقة عبر التهديد بقتل من يدخلها منهم.
وبينما يعني تدمير المباني في المناطق العازلة أن العديد من الأنفاق والممرات طُمرت، لكن ستظل هناك أنفاق لم يكتشفها الجيش الإسرائيلي ويمكن استخدامها من قِبل المقاومة الفلسطينية.
إسرائيل حاولت إنشاء منطقة عازلة في غزة منذ انسحابها من القطاع
وذكرت مصادر في جيش الاحتلال أنه منذ فك الارتباط، حاول مراراً إنشاء مثل هذه المنطقة، بعرض حوالي 300 متر من السياج الحدودي، ولكن مع مرور الوقت وجد الجيش الإسرائيلي أنه من الصعب فرض القيود.
كذلك ثمة مسألة بسيطة متمثلة في القانون الدولي الذي قد يُصعّب على جيش الاحتلال الإسرائيلي تدمير جميع البنايات في المنطقة العازلة، لا سيما في هذه الأيام التي تواجه فيها إسرائيل اتهامات بارتكاب الإبادة الجماعية وجرائم الحرب في محكمة العدل الدولية في لاهاي.
وهناك فرصة أقل بأنهم سوف يقبلون الحجة التي تقول إن جميع البنايات القريبة من الحدود كانت مُستخدمة من جانب حركة حماس لأغراض عسكرية، أو أنها ربما تستخدم في المستقبل بوصفها قواعد لعمليات المقاومة.
بل إن وجود جيش الاحتلال داخل قطاع غزة، حتى بعد انتهاء مرحلة القتال في خان يونس، سوف يُصعّب على إسرائيل استيفاء الشروط التي وضعتها إدارة بايدن، التي تتضمن انسحاباً شاملاً من جميع مناطق قطاع غزة.
إنها بديل لغياب استراتيجية واضحة لمرحلة ما بعد الحرب وورقة للمساومة
ويصعب تجنب الشعور بأن الجيش الإسرائيلي يُنشئ المنطقة العازلة بوصفها خياراً بديلاً عن وجود استراتيجية واضحة فيما يتعلق بالمرحلة التالية للحرب على غزة، التي لم تأت على الصعيد السياسي، ووفقاً لصحيفة Haaretz.
وفي غياب التوجيه، ليس في جعبة الجيش الإسرائيلي الكثير من الطرق الأخرى للتأهب للمقاومة الفلسطينية.
ويقول تقرير الصحيفة الإسرائيلية إن البعض يرى أن إنشاء منطقة عازلة يمثل رصيداً استراتيجياً، أو ورقة بيد الإسرائيليين للمساومة مع الفلسطينيين والمجتمع الدولي على غرار استمرار منع أكثر من مليون فلسطيني من سكان غزة من العودة إلى شمال القطاع، إذ تستطيع إسرائيل أن تساوم بها للمطالبة بالإفراج عن الأسرى الإسرائيليين أو تتفاوض حول الشروط الأمنية في غزة، مقابل إجلاء المنطقة العازلة.
في المقابل، قد تتعرض إسرائيل لضغط دولي ثقيل للغاية من أجل إخلاء المنطقة العازلة والسماح للفلسطينيين الذين يعيشون هناك بإعادة بناء منازلهم.
ولكن إنشاء منطقة عازلة في غزة قد يتحول إلى سبب للخلاف داخل إسرائيل، لأنه منذ اللحظة التي ستصير فيها المنطقة العازلة أمراً واقعاً، لاسيما عندما يُنظر إليها على أنها شرط لعودة سكان مستوطنة عطاف إلى منازلهم، سيكون من الصعب للغاية رؤية كيف ستتمكن الحكومة الإسرائيلية، حتى تلك الحكومة التي ستُشكل في المستقبل، من الصمود أمام الانتقادات العامة بسبب هذا الإخلاء، (حيث تحول الرأي العام على تحويل الغنائم المؤقتة لأسلاب دائمة).