لقد كانت إسرائيل بالفعل على مفترق طرق بشأن ما ينبغي عليها فعله بعد الحرب على قطاع غزة: أيتعيَّن عليها أن تضغط من أجل اتفاق يُعيد لها أسراها هناك في أقرب وقت ممكن، حتى لو كان ذلك يستدعي أن تدفع الثمن الباهظ لعدم تفكيك قدرات حركة حماس؟ أم ينبغي لها أن تصبر، حتى لو عرَّض ذلك المحتجزين لمزيد من الخطر، وأن تواصل السعى لصفقة جزئية أخرى، أو اتفاق على هدنة مؤقتة لوقف إطلاق النار؟
معضلة إسرائيل تتفاقم بعد "عملية المغازي"
هذه التساؤلات طرحتها صحيفة The Jerusalem Post الإسرائيلية، التي قالت إن المعضلة ازدادت تعقيداً بعد الهجوم الذي وقع في 22 يناير/كانون الثاني، وأسفر عن مقتل 24 جندياً إسرائيلياً في ضربة واحدة، لا سيما أن الهجوم جاء بعد أسبوعين فقط من "حادث" آخر قُتل فيه أيضاً عدد كبير من الجنود. وقد قوَّى ما حدث من حجة الذين يريدون صفقة تُعيد الأسرى وتُنهي الحرب، حتى لو لم يتمكن الجيش الإسرائيلي بعد من تفكيك حماس وقدراتها، وقد بات لأصحاب هذا الرأي اليد العليا مؤقتاً في هذا الجدل القائم بشأن الحرب داخل إسرائيل.
وحتى قبل أن يقع هذا الهجوم، كان بيني غانتس وغادي آيزنكوت، القائدان البارزان لحزب "الوحدة الوطنية" والوزيران في حكومة الحرب، ومعهما زعيم المعارضة يائير لابيد، وطائفة متزايدة من ذوي الأسرى الإسرائيليين، يضغطون بقوة أكبر من أي وقت مضى من أجل التوصل إلى اتفاق يُعيد لإسرائيل جميع أسراها، وإن لم تتمكن بعدُ من إتمام تفكيك حماس وقدراتها.
تقول الصحيفة العبرية إن أنصار هذا الرأي يحتجون على صحته بأن إسرائيل مرتبطة بـ"التزام أخلاقي" يوجب عليها أن تبذل وسعها لإعادة الإسرائيليين الذين أُسروا في جنوب إسرائيل -لا سيما وأنها ليست منطقة متنازع عليها من الناحية القانونية، كما هي الحال في الضفة الغربية [بحسب المزاعم الإسرائيلية]- حتى لو أسفر ذلك عن خطر أكبر على الشعب الإسرائيلي في المستقبل. ويقولون إن الدولة والجيش الإسرائيلي "خذلا" هؤلاء "المدنيين"، ومن ثم يجب على إسرائيل إعادتهم إلى بر الأمان قبل النظر في أي مصلحة وطنية أخرى.
خسائر إسرائيل في ازدياد
ومن الحجج التي يستدل بها أصحاب هذا الرأي كذلك، أن خسائر الجيش الإسرائيلي في ازدياد، وأنه لا ضمانة لأن تبلغ إسرائيل أي شيء جديد بالاستمرار في القتال. فقد أوضح كبار مسؤولي الجيش الإسرائيلي أنهم تلقوا أوامر من القيادة السياسية بعدم إطلاق النار أبداً على الأماكن التي يعرفون أن هناك أسرى إسرائيليين فيها، حتى لو كان ذلك يعني السماح لمقاتلي حماس بالفرار مؤقتاً.
ويقول مؤيدو الصفقة "إن أوامر القيادة السياسية بخصوص الأسرى تقتضي تقييد قواعد الاشتباك، ويعني ذلك أن قوات الجيش لا تستطيع القضاء على القيادة العليا لحماس ما دام الأسرى في غزة، ومن ثم فإن إسرائيل لم تعد قادرة على تحقيق إنجازات استراتيجية أكبر مما حققته بالفعل، وأن ذلك يرجِّح السعي إلى الاتفاق، حتى لو كان الثمن باهظاً".
ويدّعي أنصار الصفقة أن "إسرائيل تسيطر على شمال غزة وتوشك أن تسيطر على وسط غزة ومعظم مناطق خان يونس فوق الأرض، ولن يبقى لقوات الجيش شيء تفعله"، ويزعمون أن استمرار الحرب يعني المخاطرة بارتفاع عدد القتلى من جنود الجيش إلى 150 أو 200 أو 300، وربما 500 قتيل في نهاية المطاف، وأن ذلك إهدار لمئات القتلى من الجيش بلا هدف استراتيجي واضح.
وواقع الأمر أن مقتل 24 جندياً في هجوم واحد يقوِّي وجاهة هذه الحجة، ويزيد المخاوف من تضاعف عدد القتلى من الجيش الإسرائيلي في هذه المرحلة من القتال، والتي يفترض أنها تضمن انتشاراً أقل للجيش في قطاع غزة، وثباتاً أكبر لقواته في مواقع محددة، علاوة على أن تقليل القوة الهجومية في القطاع، ونقل بعض القوات إلى جنوب غزة وجبهات أخرى، كل ذلك يسهل على الفصائل الفلسطينية إعداد الفخاخ والكمائن للجنود الإسرائيليين.
مجلس الحرب لا يعرف ماذا يريد
مع ذلك، أعلن غانتس يوم الثلاثاء 23 يناير/كانون الثاني أن الجيش الإسرائيلي عليه مواصلة الحرب أمداً طويلاً، وهو الرأي نفسه الذي لا يفتأ يدعو إليه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع يوآف غالانت. أما زعيم المعارضة لابيد فلم يتحدّث في تعزيته عن إبطاء وتيرة الحرب؛ بل اكتفى بالتعبير عن حزنه لمقتل الجنود. ولم يستغل أحد من الشخصيات المؤثرة هذا الهجوم لمعارضة استمرار الحرب، والضغط من أجل التوصل إلى اتفاق سريع وانسحاب الجيش الإسرائيلي من غزة.
إلا أن ذلك ليس لأن غانتس ولابيد وسائر المطالبين بالاتفاق القريب قد أصبحوا أكثر معارضة له بعد الهجوم ومقتل 21 جندياً في ضربة واحدة، بل غالب الظن أن سكوتهم عن التصريح بذلك بعد الهجوم إنما هي خطوة قصيرة مؤقتة، لأن الكياسة والحساسية يقتضيان عدم استغلال الهجوم ذريعة للمطالبة باتفاق لإنقاذ الأسرى، والانسحاب من غزة في هذا الوقت، كما تقول الصحيفة العبرية.
علاوة على ذلك، فإن حركة حماس لا تزال ترفض شروط إسرائيل حتى الآن، ومنها الشروط التي يطالب بها غانتس وآيزنكوت، فالجماعة لا تريد فقط اتفاقاً ينهي الحرب في غزة، بل وانسحاب قوات الجيش الإسرائيلي من القطاع، وتقديم ضمانات بعدم استئناف الحرب بعد الإفراج عن الأسرى. أما ما يريده غانتس وآيزنكوت على الحقيقة، فهو إعادة جميع الأسرى إلى إسرائيل في أقرب وقت، ثم تحين الفرصة لاستئناف القتال والهجوم على حماس.
هجوم المغازي نقطة تحول
بناءً على ذلك، يبدو أن مقتل هذا العدد الكبير من الجنود في هجوم واحد قد يكون محطة تحول تفضي إلى كسر عزيمة إسرائيل على مواصلة الحرب. ومع ذلك، فإن هذا الحدث وغيره من الهجمات التي تسفر عن مقتل عدد كبير من الجنود، يتوقع أن تشجع أنصار الصفقة العاجلة على استئناف مساعيهم وزيادة ضغوطهم عما قريب، وربما يصبح الأمر حينئذ محطة تحول تفضي إلى حسم التوجه إلى أحد هذين المسارين: إما صفقة للإفراج عن الأسرى، وإما نهاية قريبة للتحالف بين نتنياهو وغانتس.
وفي السياق ذاته، نشرت صحيفة The Times البريطانية تقريراً عنوانه "هل ما زال الإسرائيليون يؤيدون استمرار الحرب في غزة؟" وتساءلت فيه الصحيفة عن تداعيات هجوم الإثنين 22 يناير/كانون الثاني، وتأثيره في مدى تأييد الرأي العام الإسرائيلي لاستمرار الحرب أو لإيقافها. وقالت الصحيفة إنه لما كان الهجوم قد أسفر عن أكبر عدد من القتلى الإسرائيليين في يوم واحد منذ بداية الحرب البرية في غزة، فإن المتوقع أن يؤجِّج الجدل المحتدم داخل إسرائيل بشأن وجهة الحرب.
وأشارت الصحيفة إلى أن الظروف التي قُتل فيها جنود الاحتلال تزيد من مخاوف الإسرائيليين، فقد وقعت المقتلة بعد أن أصابت قذيفة فلسطينية متفجرات أعدَّتها قوات الاحتلال لتفجير مباني في قطاع غزة، وزاد ذلك من الشكوك في جدوى الوسائل التي يستعملها الجيش الإسرائيلي لمواصلة مساعيه في تفكيك البنية التحتية لحركة حماس في غزة، إذ لا تزال هناك مئات الكيلومترات من الأنفاق التي تستخدمها الجماعة، واستمرار عمليات الهدم والتفجير يعني المخاطرة بمزيد من هذه الحوادث في ساحة المعركة.
واستدعى الهجوم مزيداً من الارتياب في خطط الجيش الإسرائيلي لنشرِ قواته في المناطق التي يعتقد أنه "فكك" كتائب حماس فيها. فقد سرَّح جيش الاحتلال جزءاً كبيراً من جنود الاحتياط الذين حُشدوا في بداية الحرب، ومع ذلك فإن المخاوف من قدرة حماس على العودة إلى مناطقها لا تزال قائمة، ومن ثم استعان الجيش بقوات تحاصر القطاع وتحرس محاوره وتنتشر في المنطقة العازلة التي تفصله عن المستوطنات، إلا أن هذا الانتشار يزيد من أخطار الكمائن والخسائر التي يتعرّض لها جنود الجيش الإسرائيلي في القطاع.
وعلى الرغم من أن الجيش الإسرائيلي وبعض السياسيين الإسرائيليين مقتنعون بأن استمرار المعركة لا غنى عنه لمواصلة الضغط على حماس، فإن استطلاعات الرأي تشير إلى أن نسبة متزايدة من الجمهور الإسرائيلي (تصل إلى النصف وفقاً لبعض الاستطلاعات) ترى أن الوقت قد حان للبحث في إمكانية التوصل إلى هدنة مؤقتة، أو حتى وقف إطلاق نار طويل الأمد لتيسير الإفراج عن الأسرى المحتجزين لدى حماس والفصائل الفلسطينية في غزة.
الاحتجاجات التي تطالب بوقف إطلاق النار تزداد
وقد تزايدت في الأيام الماضية الاحتجاجات المطالبة بوقف إطلاق النار، ويتزعم هذه الاحتجاجات أهالي الأسرى الإسرائيليين، وقد خيَّم بعضهم أمام منزلي نتنياهو في القدس وقيسارية. وسكب متظاهرون سوائل بلون الدم في الشارع الذي يقطنه نتنياهو في القدس، واتهموه بأن "يديه ملطختان بدماء (الرهائن)".
لكن المشكلة الأصعب أمام نتنياهو الآن هي أن هناك فصيلاً في مجلس الحرب مستعد للبحث في اتفاق لوقف إطلاق النار مقابل الإفراج عن الأسرى، وهو الفصيل الذي يضم غانتس وآيزنكوت، وقد أومأ كلاهما إلى مغادرة المجلس إذا لم تتخذ الحكومة قراراً حاسماً في مسار الحرب.
علاوة على ذلك، فإن أبرز حلفاء إسرائيل، أي الولايات المتحدة، ومعها السعودية، يضغطان على نتنياهو للموافقة على مسار يشمل الانسحاب من غزة بعد الحرب، وتسليم الحكم في القطاع إلى السلطة الفلسطينية التي تسيطر على الضفة الغربية. ويبدو أن البلدين حريصان على توجيه إسرائيل إلى الشروع في مسار دبلوماسي يؤول إلى النظر في إمكان "حل الدولتين"، وهو أمر أعرب نتنياهو مراراً عن معارضته له.
ومع ذلك، يصرّ شركاء نتنياهو من اليمين المتطرف في ائتلافه الحكومي على أن الحرب على حماس يجب أن تستمر، وقد هددوا بالخروج من الائتلاف إذا وافق رئيس الوزراء على وقف إطلاق النار، سواء أكان ذلك للإفراج عن الأسرى، أم لإرضاء الولايات المتحدة والسعوديين.
لا يريد نتنياهو أن يعرّض أغلبيته في الكنيست لخطر التفكك، ولا يرغب في المجازفة بانتخابات مبكرة بعد أن تراجعت شعبيته في استطلاعات الرأي، إلا أن تزايد القتلى من الجنود في ساحة المعركة، وتصاعد التأييد لوقف إطلاق النار بين الجمهور الإسرائيلي ربما يزيدان شيئاً فشيئاً من صعوبة تمسُّكه بالمتطرفين اليمينيين في حكومته.