لم تكن سيناء عبارة عن قنطرة بين مشرق العالم الإسلامي وغربه فقط، إذ كانت ممر الهجرات البشرية من أفريقيا إلى العالم أجمع، وسكنتها شعوب عربية وقبائل سامية، ووُلد فيها الحرف السينائي الذي استلهم منه الفينيقيون الحروف التي هي الجد السامي القديم لفكرة الحرف التي تكتب بها اللغات.
يسكن سيناء أكثر من 600 ألف نسمة، الكثافة السكانية الأكبر تقع شمال سيناء. تداخل الأنساب والقبائل بين سيناء ومثلث العقبة في الأردن وجنوب فلسطين، حتى إن الحركة بينهم قبل إعلان الاحتلال الإسرائيلي يكاد يكون سهلاً.
بين سيناء وجوارها روابط ثقافية وتاريخية، إذ لا يمكن فصلها عن أردن اليوم أو فلسطين وجنوب الشام بصفة عامة، فقد استوطنتها شعوب عربية منذ القدم، أقدم من الإسلام، وبذلك ترتبط سيناء تاريخاً بالنطاق الشامي، كما أنها لعبت دوراً رئيسياً في ربط مصر بعالمها الشرقي الذي أثراها وأثرته، من السيطرة المصرية الطويلة نسبياً على جنوب الشام وسيناء، وبين قدوم الغزاة والأديان.
شعوب سيناء في القدم
سيناء طريق الغزاة أو البوابة الشرقية لمصر، وهي أضعف نقطة بالنسبة للقطر المصري، ومنها حدثت الغزوات وجاء منها الفاتحون المسلمون. فجاء منها الهكسوس، والكنعانيون، وبنو إسرائيل، وفيها تاهوا، وعليها كلم الله موسى عند الأديان السماوية.
أول ذكر للشعوب السامية التي استوطنت شبه جزيرة سيناء هم شعوب الرعاة "الهكسوس"، وهم من نسل العموريين القادمين من شمال الشام "سوريا حالياً"، بسبب الأمراض والأوبئة هاجر بعضهم جنوباً، وفيها استقروا إلى أن فتحت لهم الأبواب الشرقية لمصر، وأسسوا تجارتهم ثم دولتهم، وإليها طرودا إلى جنوب الشام.
بعد طرد الهكسوس تنبه حكام القطر المصري إلى ثغر سيناء، فحاولوا طوال التاريخ ملء ذلك الفراغ، إما بحاميات أو بتحالف مع قبائل، حتى وُلدت فكرة السيطرة الكاملة على جنوب الشام "فلسطين" لتأمين القطر المصري من الغزوات.
لقد دلت الآثار التي خلفها الفراعنة في سيناء أن سكان هذه الجزيرة كانوا منذ بدء التاريخ من أصل سامي كسكان سوريا، وكانوا يتكلمون لغة غير لغة المصريين، وقد عُرِفوا على الآثار المصرية باسم "هيروشاتيو" أي أسياد الرمال، وعرف سكان بلاد الطور خاصة باسم "مونيتو"، وعرفوا في التوراة عند مرور بني إسرائيل في الجزيرة بـ"العمالقة".
كتب نعوم بك شقير: "رأيت في دِرج في دير سيناء أنَّ سكان الجزيرة في عهد يوستينيانوس في أوائل القرن السادس للمسيح هم "الأعراب بنو إسماعيل"، وبنى يوستينيانوس المذكور ديراً لرهبان طور سيناء، وبعث إليه بحامية خليط من أروام ومصريين عُرفوا "بالجباليَّة" نسبة إلى جبل الطور، وما زالوا يسكنون ضواحي الجبال إلى اليوم".
من المؤكد وجود العرب في سيناء قديماً، إذ تذهب بعض المصادر إلى أن شبه الجزيرة هي امتداد للجزيرة العربية، ولا يزال ذلك الأمر مشكوكاً فيه نظراً لمكانة الجزيرة كحاجز طبيعي بين جنوب الشام ومصر، فمن الطبيعي تعاقب الأجيال والشعوب عليها حسب الظروف السياسية والبيئية التي تدفع الشعوب للهجرة.
حضور عربي قديم
سيناء جزء من محيطها الشامي، فقد وصل إلى أطرافها في شمال شرقها في القرن الثاني عشر قبل الميلاد شعوب البحر "الفلسطينيون" غزة اليوم، وكانت شاهدة على الصراع المصري مع الحيثيين قبلها بقرن، وصعود الكنعانيين.
حتى جاء العرب النبط من الحجاز والجزيرة العربية في القرن السابع قبل الميلاد اجتاحوا بلاد الأدوميين، ويؤسسون مملكتهم في الحجر "البتراء" في الأردن اليوم، ويمتد انتشارها غرباً حول العقبة وصولاً إلى الطور وجزيرة سيناء، وذلك لتأمين خطوط التجارة التي اشتغلوا فيها. وهو بداية استيطان العرب في سيناء إلى يومنا هذا.
تبع ذلك هجرة العرب من اليمن في القرن الرابع قبل الميلاد، وتلاه بثلاث مئة عام هجرة التنوخيين من قضاعة الحميرية "اليمن"، إذ وُجدت لهم آثار في شرق جزيرة سيناء، ذكر الهمداني في كتاب وصف جزيرة العرب استيطان سيناء من قبائل "بلي" تنسب إلى قضاعة الحميرية، التي استوطنت شمال الجزيرة العربية وجنوب الشام وشرق وشمال جزيرة سيناء وذلك في القرن الأول قبل الميلاد.
وأربعة قرون كان هناك وجود باهت نسبياً لقبائل كهلان القحطانية، وبنو مرة وطيء الذين استوطنوا شمال الجزيرة، وجاوروا الغساسنة في تلك الديار، وانتشرت بعض بطونهم في شرق سيناء، ضمن الامتداد الجغرافي لهم فيما يعرف اليوم الأردن وجنوب الشام بصفة عامة.
كما تنتشر في شبه جزيرة سيناء الجذاميون واللخميون وهي بطون تنحدر من طيء وبني مرة، مع ضعف الدولة البيزنطية وقبل قدوم الإسلام امتدوا من العراق إلى الغساسنة في الشام وصولاً إلى سيناء، ومن جذام بني عقبة، ومنهم قبيلة الحويطات وفيهم قال النبي صلى الله عليه وسلم إنهم قوم شعيب وأصهار موسى عليهما السلام، وفيه دلالة على قدم وجود قبائل جذام في سيناء، وهي موجودة حتى يومنا هذا في الأردن وسيناء والنقب في جنوب فلسطين المحتلة.
العرب مكون يمتد إلى فلسطين
أقدم القبائل الأصلية التي بقي لها أثر في الجزيرة بعد أن افتتحها العرب المسلمون هم الحَماضة من الأزد، والتَّبَنة، والمواطرة في بلاد الطور "جنوب سيناء"، والبدارة في جبال العجمة من بلاد التيه "شمال سيناء"، وقد دخلوا في حمى العرب الفاتحين، واتخذوا لغتهم وديانتهم وعاداتهم، ولكنهم ما زالوا منفصلين عنهم في الجنس، فالبدو الفاتحون لا يزوجونهم ولا يتزوجون منهم، ولا يقيمون حرباً عليهم إلى اليوم.
ويعتقد أن من هاجر من العرب المسلمين بعد الفتح 75 قبيلة من نجد والحجاز في سنة واحدة، فسكنوا مصر وسيناء وجنوب فلسطين، ثم هاجر بعضهم إلى شمال الشام وشمال أفريقيا. ومن هذه القبائل (الوحيدات، الرشيدات، الرتيمات، الجبارات، العايد، المعازة، الطميلات، بنو واصل، بنو سليمان، العيايدة، النفيعات).
ذكر في درر الفرائد سنة 1548م أن " الوحيدات والرشيدات" فرعان من بني عطية، وأن عليهما درك النقب "نقب العقبة"، وأنهم في سيناء، واليوم لم يبق منهم أي نسل في سيناء لكن بقيتهم في غزة. وأما "الرتيمات والجبارات" فقد كانت مساكنهم في بلاد العريش الشرقية، فطردهم الترابين منها إلى بلاد غزة في أوائل القرن التاسع عشر بعد حرب دامت نحو عشرين سنة بين القبيلتين.
وتعتبر أهم القبائل التي لها امتداد في غزة والأردن والنقب هي قبيلة الترابين والتي منها إبراهيم العرجاني وسالم لافي، وقبيلة السواركة والتي منها إبراهيم المنيعي والتي عملت في تهريب السلاح إلى غزة، ودخلت في قتال بينها وبين الترابين خلال العقد الماضي، وقبائل الرميلات والحويطات والتياهة، والعزازمة والتي منها عبد الله عزام في فلسطين، ومنها في مصر عائلة عبد الرحمن عزام أول أمين لجامعة الدول العربية.
تعبر خريطة القبائل العربية في سيناء عن التداخل بين شعوب المنطقة في فلسطين والأردن، كذا تؤكد عن الامتداد العربي لفلسطين الضارب في القدم، وعلى سيناء قنطرة تصل بين شرق العالم الإسلامي وغربه. سيناء جزء لا يتجزأ من المشكلة الفلسطينية؛ إذ كانت من الأراضي التي تعرضت للاحتلال الإسرائيلي، وعند جلاء الاحتلال عنها ظلت أزمة التداخل بين العائلات على ضفتي الحدود عائقاً كبيراً لسكان المنطقة، ولا تزال تلك التداخلات قائمة حتى يومنا هذا.