في نفق مظلم مبطن بالخرسانة شرق قطاع غزة، قال العميد في جيش الاحتلال الإسرائيلي دان غولدفوس، الذي يقود فرقة المظليين 98، لجنوده وبحضور صحفيين: "إنها مهمة شاقة". حيث كُلِّفَ غولدفوس بالهجوم على مدينة خان يونس، أكبر مدن جنوب قطاع غزة، وتمثل هذه المهمة التحدي الأكثر تعقيداً الذي يواجهه الجيش حتى الآن، كما يقول مراسل صحيفة Wall Street Journal الأمريكية.
وتهدف قوات غولدفوس، التي لا تحاول اكتشاف المتاهة في قطاع غزة، إلى تقويض المقاومة التي بنت شبكات غير معروفة من هذه الأنفاق، وتقوم القوات بالمناورة من أجل ذلك، بحسب الصحيفة الأمريكية.
كيف يواجه الاحتلال مهمة معقدة في خان يونس؟
يقول الجيش الإسرائيلي إنه يسيطر على بعض المناطق شمال غزة بعد أن أدى القصف العنيف إلى تحويل الكثير من المناطق الحضرية إلى أنقاض واستشهاد الآلاف من المدنيين، وفرَّ معظم السكان إلى الجنوب. رغم ذلك لا تزال حماس تطلق صواريخها من شمال غزة على المستوطنات الإسرائيلية.
في الوقت نفسه، لا يوجد تقدم في الجنوب؛ حيث يواجه الاحتلال طريقاً مسدوداً. تضيِّق قوات إسرائيل الخناق على الأعداد المتزايدة من الفلسطينيين النازحين الذين لا يجدون أماكن للفرار. وتتصاعد الاحتجاجات الدولية بسبب العدد الكبير من الضحايا والجرحى بين المدنيين، مما يزيد الضغوط على إسرائيل لتغيير تكتيكاتها أو إنهاء حربها.
يُدفَع ما يقرب من مليوني نازح إلى مربعات أقل من أي وقتٍ مضى على رقعة القطاع. وقد تُتوَّج هذه العملية بوقف إطلاق النار، لكنه يسمح أيضاً لحماس بالبقاء والتعافي، وهو ما يمثل هزيمة إستراتيجية لإسرائيل، ويخاطر ذلك بأن ينتهي الأمر بحمام دم أكبر مما حدث في الشمال، كما تقول "وول ستريت جورنال".
في الوقت نفسه، فإن المأزق السياسي بين الحكومة الإسرائيلية والولايات المتحدة والدول العربية حول من يجب أن يدير غزة بعد حماس يزيد من تعقيد الحرب؛ حيث إن عدم وجود أي حكومة في غزة بعد الحرب قد يجعل من الصعب تقديم المساعدات الإنسانية، واستعادة النظام والخدمات الأساسية، أو تسهيل عودة السكان إلى الشمال. ويقول الجيش الإسرائيلي إنه يخشى أن "تستغل حماس الفراغ والعودة إلى المناطق التي ينسحب منها الجيش".
ويتعرض الجيش لضغوط في إسرائيل حتى لا يتخلى عن هدف "تدمير حماس" الذي فشل به، ويحذر كبار الضباط من أن القتال قد يستغرق عدة أشهر أخرى.
الزحف نحو الجنوب
لا يعرف العديد من المدنيين الفلسطينيين أين سينتهي بهم الأمر. غادر ناصر قاسم منزله في مدينة غزة في الشمال، حيث كان يملك متجراً للعطور، في 8 أكتوبر/تشرين الأول، لم يكن لدى ناصر وقتاً كافياً سوى لحزم المستندات والطعام والمال لديه والذهاب مع أطفاله الثلاثة، وأضاف أن الحي سُوِّيَ بالأرض بعد ساعات.
انتقل قاسم بعد ذلك مع والديه المسنَّين وإخوته وعائلاتهم إلى منزل فارغ يملكونه في خان يونس. عانت الأسرة من برد الشتاء بسبب نقص الملابس. وقال قاسم إنه فتش المتاجر الفارغة في المدينة، وعثر في نهاية المطاف على ملابس كبيرة الحجم لأطفاله، ولكن لم يجد أي شيء لنفسه.
كانت خان يونس مكتظة باللاجئين من الشمال. وسرعان ما انتقل الكثيرون إلى مكان آخر، خوفاً من أن تكون المدينة هي الهدف التالي لإسرائيل. وفي منتصف ديسمبر/كانون الأول، انتقل قاسم وعائلته إلى الجنوب أيضاً. قال: "كنا نسمع الاشتباكات طوال الوقت. غادرنا قبل أن تشتد حدة الاشتباكات". ولا يعرف قاسم إذا كان منزله في خان يونس لا يزال قائماً. قال: "نعلم أن المنطقة شهدت قتالاً عنيفاً".
وتُعد خان يونس، ثاني أكبر مدينة في غزة، والمكان الذي خرج منه العديد من كبار قادة حماس، بما في ذلك محمد الضيف ويحيى السنوار، الذين تتهمهم إسرائيل بتدبير هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول على المستوطنات. ويعتقد المسؤولون الإسرائيليون أن السنوار يتوارى في مكان ما في الأنفاق تحت خان يونس، مع بعض الأسرى المتبقين.
بدأ القتال للسيطرة على المدينة في ديسمبر/كانون الأول، عندما سيطرت القوات الإسرائيلية على الطرق الرئيسية. ومنذ ذلك الحين، توغلت الفرقة 98 بشكل مطرد في ضواحيها الشرقية الرملية ووسط المدينة المدمج. وبوجود 7 ألوية قتالية كاملة، يقود غولدفوس الآن أكبر فرقة في تاريخ إسرائيل.
"أشعر بالعار من نجاح حماس"
ومثله كمثل العديد من العسكريين الإسرائيليين، أعلن غولدفوس عن إحساسه بالعار إزاء نجاح حماس في هجومها يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول. وقد فشلت الأجهزة العسكرية والاستخباراتية الإسرائيلية المتفاخرة في منع الهجوم على مجتمعات الكيبوتس الريفية، وقواعد الجيش، فيما كان رد فعل الجيش في ذلك اليوم بطيئاً وفوضوياً.
وفي نفقٍ قريب، زعم الجيش الإسرائيلي أنه عثر على شعر وملابس وأمتعة شخصية لبعض المحتجزين الذين أُطلِقَ سراحهم في نوفمبر/تشرين الثاني. وقال إن عمليته كانت في المقام الأول مهمة إنقاذ المحتجزين المتبقين. ولكن حتى الآن، لم تتمكن إسرائيل من تحرير أي أسير في غزة خلال العملية العسكرية، وتواجه في جميع محاور غزة مقاومة شرسة، وضارية في خان يونس.
فوق الأرض، كشفت شمس الشتاء عن تأثير قوة النيران الإسرائيلية، وقد تحطمت المساكن القريبة من الممر السري للنفق بسبب القصف. وسوَّت الغارات الجوية بعض الشوارع بالأرض. انطلق دوي المدفعية المنطلقة ورشقات نارية من طائرة هليكوبتر حربية بعيداً.
وكانت جرافات الجيش قد حرثت المسارات الرملية للمنطقة في الطرق السريعة من أجل مرور المدرعات الإسرائيلية. وتدفقت الدبابات وناقلات الجند المدرعة من وإلى الحدود مع المستوطنات الإسرائيلية، مثيرةً سحباً من الغبار حتى توقفت خلف سواتر واقية من الرمال.
داخل إحدى المركبات المدرعة، قامت علامة التصويب على شاشة المدفعي بمسح المباني المدمرة على طول الطريق بحثاً عن أي علامة على وجود حماس. لم يكن هناك شيء.
الدمار من الجو
اقتحمت القوات البرية الإسرائيلية شمال غزة بعد قصف مكثف للمنازل والمستشفيات والمدارس، وكانت التحذيرات من ضربات وشيكة أقل شمولاً مما كانت عليه في حروب إسرائيل السابقة الأصغر حجماً في غزة، كما يقول العديد من سكان القطاع. وأدى القصف إلى انقطاع خطوط الهاتف والإنترنت لفترات طويلة، مما يزيد من صعوبة الوصول إلى الناس. وحذرت المنشورات التي أُسقِطَت من الجو المناطق من هجمات برية قادمة، لكن انتشار الأخبار قد يستغرق بعض الوقت.
استُشهد أكثر من 24 ألف فلسطيني في الغزو الإسرائيلي لغزة، معظمهم من النساء والأطفال، وفقاً للسلطات الصحية الفلسطينية. ويعترف الجيش الإسرائيلي بأن المدنيين يُقتلون بسبب الغارات الجوية. ويقول إنه "يتخذ جميع الاحتياطات الممكنة لتجنب سقوط ضحايا من المدنيين، ويلقي باللوم على حماس في زرع نفسها بين السكان"، على حد زعمه.
ولم يبقَ أي مدني تقريباً في شرق خان يونس. فر معظم السكان إلى منطقة تقع غرب المدينة، والتي يطلق عليها الضباط الإسرائيليون "منطقة أكثر أماناً"، ولكنها ليست منطقة آمنة على الإطلاق.
وتوجه العدد الأكبر من اللاجئين إلى مدينة رفح على الحدود الجنوبية لقطاع غزة. وحتى الآن، فرّ الكثير من الناس أكثر من مرة.
توجد عائلة قاسم الآن في رفح، بعد أن فرت من كامل قطاع غزة. لقد كانوا محظوظين، فقد سمح لهم أحد الأصدقاء بالسكن في منزله، وهو أمر نادر في رفح المكتظة بالسكان. وقد تضخم عدد سكان رفح قبل الحرب، الذي كان يبلغ نحو 300 ألف نسمة، إلى نحو 1.3 مليون نسمة. ويعيش معظم اللاجئين في الخيام. ويخشى الكثير من الناس في رفح أن تصبح مسرحاً للهجوم الإسرائيلي الأخير، في ظل وجود كتلة بشرية مُحاصَرة هنا.