على بعد 20 كيلومتراً من العاصمة عمّان، يقف مخيم البقعة يستحضر حكاية تاريخية تمتد لخمسين عاماً، حكاية المعاناة والألم والشتات التي يؤدي الشعب الفلسطيني دور البطل فيها. أنشئ المخيم عام 1968 لتلبية احتياجات اللاجئين والنازحين الفلسطينيين الذين اضطروا للفرار مخيمات اللجوء في الضفة الغربية وقطاع غزة جرّاء حرب 1967 واحتلال إسرائيل لتلك المدن.
الجيل الأول من سكان مخيم البقعة هم "لاجئو اللاجئين"، اضطروا للجوء مرتين؛ الأولى عندما طردتهم إسرائيل من أراضيهم وسرقتها العصابات الصهيونية قبل النكسة، ثم عندما استولت إسرائيل على المخيمات التي لجأوا إليها.
تحوّل المخيم الذي أنشئ في منطقة حوض البقعة من منطقة زراعية مساحتها 1.5 كيلومتر مربع أقيم عليها 5000 خيمة إلى مجتمع يسكنه أكثر من 177.450 ألف نسمة من اللاجئين الفلسطينيين يعيشون في مساكن إسمنتية. بهذا العدد الضخم الذي لا يمتلكه أي مخيم آخر للفلسطينيين، يصبح مخيم البقعة هو أكبر مخيم للاجئين الفلسطينيين في العالم أو "عاصمة الشتات الفلسطيني".
تاريخه الطويل لا يحكي فقط عن اللحظات الصعبة التي مر بها، بل يروي قصة تحول مخيم كبير إلى مجتمع مصرّ على الحياة رغم المشاكل الاقتصادية والاجتماعية المعقدة.
يعاني سكان المخيم الآن من تحديات عديدة، حيث يواجهون مستويات مرتفعة من البطالة والفقر. تشير التقديرات إلى أن أكثر من ثلث سكان المخيم يعيشون تحت خط الفقر، ما يستدعي الاعتماد على المعونات الخيرية وإمدادات وكالة غوث وتشغيل اللاجئين "الأونروا". وتشرف على تدبير شؤون المخيم "لجنة خدمات مخيم البقعة" وتتعاون مع عشرات الجمعيات الأهلية والمؤسسات المجتمعية من أجل الحفاظ على مستوى المعيشة الأساسي.
رغم موقع المخيم القريب من النشاط الحضري والاقتصادي، يبقى المخيم محافظاً على هويته الفلسطينية ويعتبر بمثابة مركز ثقافي واجتماعي مميز يحافظ على موروثه التاريخي.
سكان المخيم يتنوعون بين الطبقات الاجتماعية والمهن المختلفة، لكن غالبية اليد العاملة من العمال غير مهرة، وأصحاب الحرف، وآخرون موظفون بأجور منخفضة وبعض أصحاب المحال التجارية.
أبو جاجة.. ابن مخيم البقعة
في هذا المخيم يتجلى إصرار وإرادة البقاء والتطلع للنجاح عند اللاجئين الفلسطينيين، وسط تحديات الحياة اليومية وأمل في تحقيق مستقبل أفضل.
تجسدت تلك الإرادة عند محمد أبو جاجة، الفتى الصغير الذي كبر وترعرع في مخيم البقعة. انطلقت رحلته في حلبة الملاكمة منذ سنوات الطفولة الأولى، حين كان عمره لا يتجاوز العشر سنوات، ودخل لأول مرة إلى هذا العالم الرياضي في نادي البقعة.
تجمعت في هذا النادي أجيالٌ من الملاكمين الفلسطينيين، بدايةً من الأجيال الأولى التي أسست قاعدةً قويةً لهذا الفن الرياضي في التسعينيات. ولم يقتصر إرث الملاكمة في هذا المكان على الأجيال الأولى فقط، بل استمر الإرث مع أجيالٍ جديدة مثل أبو جاجة، الذي شق طريقه بقوة وإصرار داخل حلبة الملاكمة.
رغم تدريباته المكثفة واجتهاده في الحلبة، واجه أبو جاجة تحدياتٍ عدة، خاصةً الصعوبات المعيشية التي أثرت على قراراته. كان يوازن بين حلمه في الملاكمة وواقع حياته الصعب، فترك التدريبات لفتراتٍ للعمل في مجالات مختلفة من أجل العيش. فعمل محمد أبو جاجة نجاراً في شركة خاصة لتركيب المطابخ وخزائن الحائط براتب 190 ديناراً أردنياً، قبلها عمل عاملاً في نقل الخضراوات والفواكه. كاد يهجر أبو جاجة الملاكمة تماماً بسبب الظروف المعيشية إذ تراكمت عليه الديون، ولولا إصرار وإلحاح والدته بأن يستمر في مطاردة حلمه لخسرت الأردن بطلًا عالمياً.
على كلٍّ، مرت السنوات وحاول أبو جاجة الموازنة بين الملاكمة والعمل، وتوالت البطولات المحلية التي حقق فيها أبو جاجة إنجازات ملحوظة. حصل على الميدالية البرونزية في بطولة المملكة للملاكمة عام 2008، ولكن هذا الإنجاز لم يكن سوى بداية رحلته الطويلة في عالم الملاكمة.
من ثم، تمكن أبو جاجة من تحقيق إنجازات أخرى ملموسة، حيث حصد الميدالية الذهبية في بطولة المملكة بوزن ثلاثين كيلو غراماً في عام 2009 وحافظ على تألقه في السنوات التالية. وذهبية بطولة المملكة عام 2021 بالرغم من الصعوبات والمشاق التي واجهها.
تكللت مجهودات البطل عندما حقق ذهبية بطولة آسيا 2022 للملاكمة في منافسات تحت وزن 60 كيلوغراماً وبرونزية العالم في الملاكمة 2023 لنفس الوزن، ويحتل حالياً المركز الثالث في التصنيف العالمي للملاكمين. الآن تزداد الضغوطات على أبو جاجه إذ يطالبه الجمهور الأردني بميدالية أولمبية في أولمبياد باريس 2024.