لا تجد المأساة الإنسانية التي تجتاح غزة قدراً كبيراً من التعاطف في الخطاب العام الإسرائيلي، بل تتصاعد الدعوات لتنفيذ إبادة جماعية وتطهير عرقي في غزة بكل تبجح ودون مراعاة أن هذه تمثل دليلاً حياً يدعم الدعوى القضائية التي رفعتها جنوب أفريقيا أمام محكمة العدل الدولية لوقف الحرب على غزة باعتبارها عملية إبادة جماعية.
إذ لم تعد الأولوية لكثير من المسؤولين الإسرائيليين هزيمة حماس وتحرير الرهائن الأسرى في غزة.
بل في الواقع، إن التصريحات المستمرة التي يدلي بها المشرعون الإسرائيليون وغيرهم من الساسة تشجع على مصير أكثر تدميراً للقطاع، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The Washington Post الأمريكية.
الدعوات لتنفيذ تطهير عرقي في غزة وصلت للمطالبة باستخدام القنبلة النووية
إذ دعا أعضاء في الائتلاف اليميني الذي يتزعمه رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، إلى إلقاء قنبلة نووية على قطاع غزة المكتظ بالسكان، وتسوية القطاع بالأرض، وإفقار شعبه لدرجة لا يكون أمامهم أي خيار سوى الرحيل عن وطنهم.
والأسبوع الماضي وحده، ظهر برلماني من حزب الليكود الذي يتزعمه نتنياهو على شاشة التلفزيون وقال إنه من الواضح لمعظم الإسرائيليين أنه "لا بد من تدمير جميع سكان غزة". وبعدها، قالت سفيرة إسرائيل لدى بريطانيا للإذاعة المحلية، إنه لا حل آخر أمام بلادها سوى هدم "كل مدرسة، وكل مسجد، وكل منزل" في غزة لتدمير البنية التحتية العسكرية لـ"حماس".
ومؤخراً، وصف وزير الأمن القومي الإسرائيلي المتطرف إيتمار بن غفير، مسألة تهجير الفلسطينيين من القطاع بأنها "مسألة الساعة"، وشدد بن غفير على ضرورة تشجيع الهجرة الطوعية من غزة، مدعياً أن مئات الآلاف من الفلسطينيين يرغبون في ذلك، على حد زعمه.
وهذا الخطاب المتكرر يشكل جزءاً من الدعوى المؤلفة من 84 صفحة التي تقدمت بها حكومة جنوب أفريقيا إلى محكمة العدل الدولية، وتتهم إسرائيل فيها بارتكاب أعمال ترقى إلى مستوى الإبادة الجماعية أو الإخفاق في منعها. ورغم إدانتها لهجوم حماس في 7 أكتوبر/تشرين الأول، تقول قضية جنوب أفريقيا إنه "لا يمكن لأي هجوم مسلح على أراضي دولة مهما كانت خطورته- حتى الهجوم الذي ينطوي على جرائم وحشية- (حسب وصفها) أن يقدم أي مبرر لانتهاك اتفاقية الإبادة الجماعية".
الحملة العسكرية على غزة دمرت 355 ألف منزل
وتوضح الدعوى أن الحملة العسكرية الإسرائيلية في غزة "ألحقت دماراً بمناطق واسعة من غزة، منها أحياء كاملة، وألحقت الضرر أو دمرت ما يزيد على 355 ألف منزل فلسطيني"، وهذا حوّل مساحات شاسعة من الأراضي إلى مناطق غير صالحة للسكن لفترة طويلة من الزمن في المستقبل. وتلفت شكوى جنوب أفريقيا إلى أن السلطات الإسرائيلية امتنعت عن حظر "التحريض المباشر والعلني على الإبادة الجماعية" من مجموعة من الساسة والصحفيين والمسؤولين الإسرائيليين.
وهذا يشمل شخصيات يمينية متطرفة مثل وزير المالية بتسلئيل سموتريتش ووزير الأمن القومي إيتمار بن غفير، اللذين لا يفعلان الكثير لإخفاء رؤيتهما لغزة مُطهَّرة عرقياً. إذ قال سموتريتش في مقابلة مع إذاعة الجيش الإسرائيلي يوم الأحد 31 ديسمبر/كانون الثاني: "ما علينا أن نفعله في قطاع غزة هو أن نشجع الهجرة. لو أن غزة تضم 100 ألف أو 200 ألف عربي وليس مليوني عربي، فالمناقشة برمتها عن اليوم التالي ستكون مختلفة تماماً".
وكتب بن غفير، ليل الثلاثاء، عبر منصة "إكس": "الولايات المتحدة هي أفضل أصدقائنا، لكننا سنقوم قبل كل شيء بما هو لصالح دولة إسرائيل.. هجرة مئات الآلاف من غزة ستسمح للسكان في الغلاف (البلدات الإسرائيلية القريبة من حدود القطاع) بالعودة إلى منازلهم والعيش بأمان، وستحمي جنود الجيش الإسرائيلي".
وأدان مسؤولون أمريكيون وغربيون آخرون هذه التصريحات ووصفوها بأنها "تحريضية وغير مسؤولة". لكن هذه الإدانات لا تفعل الكثير لتغيير لهجة الصراع. وحاول نتنياهو نفسه إقناع مصر ودول أخرى باستقبال اللاجئين من غزة، وهو أمر غير مقبول لدول كثيرة في الشرق الأوسط.
كما أكد نتنياهو قال إنه لن يسمح بعودة السكان المهجرين إلى شمال غزة.
هل يتبنى مجلس الحرب الإسرائيلي هذه الدعوات؟
وهذه الدعوات الإسرائيلية إلى التطهير العرقي والاستيطان الإسرائيلي في غزة قد لا تعكس الموقف الفعلي لمجلس الحرب الإسرائيلي. فوفقاً لتقارير، يقول المسؤولون الإسرائيليون إن مقترحات نقل سكان غزة تنبع من الضرورات السياسية لائتلاف نتنياهو واعتماده على الأحزاب اليمينية المتطرفة للحفاظ على سلطته".
وقال شخص مطلع بشكل مباشر على المحادثات داخل الحكومة الإسرائيلية لصحيفة واشنطن بوست، تحدث شريطة عدم الكشف عن هويته، لأنه غير مخول له مناقشة الموضوع: "المحترفون في الجيش والمؤسسة الأمنية يعرفون أن هذا ليس ممكناً. يدركون جيداً أنه لا مستقبل بدون وجود سكان غزة في القطاع تديره حكومة تضم السلطة الفلسطينية".
لكن نتنياهو وحلفاءه لا يزالون غامضين بشأن النهاية المتخيلة في غزة. ويؤكد المحللون أن هذا الغموض يعمق المخاوف من نوايا إسرائيل مع جيرانها العرب، بما يشمل دولاً خليجية أقامت مؤخراً علاقات صداقة مع الدولة اليهودية.
وكتب مايكل كوبلو وديفيد هالبرين من منتدى السياسة الإسرائيلية: "لن يتخذ أحدٌ الخطوات التي ستسبق أي اتفاقيات تطبيع جديدة حين يرفض نتنياهو مطالب الدول العربية بعملية سياسية تقوم على حل الدولتين ويصر أيضاً على أن تمول إعادة إعمار غزة، دون طرح أسئلة أو وضع شروط".
وأضافا: "لن تُردع إيران ووكلاؤها حين يطرح مسؤولون أمريكيون رفيعو المستوى رؤيتهم لغزة ما بعد الحرب مراراً وتكراراً، ويتكالب أعضاء الحكومة الإسرائيلية على استوديوهات التلفزيون لتقديم تفنيدات علنية". وقالا إنه من الضروري أن تدفع إدارة بايدن الإسرائيليين إلى مواجهة هذه الحقائق.
وفي الوقت نفسه، كتبت مجموعة من الإسرائيليين البارزين، من ضمنهم مشرعون سابقون وباحثون ومثقفون، رسالة مشتركة يوم الأربعاء 3 يناير/كانون الثاني، تدين السلطات القضائية الإسرائيلية؛ لعدم كبحها جماح خطاب الإبادة الجماعية واسع النطاق. وكتبوا: "للمرة الأولى تتحول الدعوات الصريحة إلى ارتكاب جرائم مروعة بحق ملايين المدنيين، إلى جزء شائع ومتكرر من الخطاب الإسرائيلي. واليوم، باتت الدعوات من هذا النوع مسألة يومية في إسرائيل".
ولكن بصرف النظر عن إشارة صحيفة The Washington Post الأمريكية، إلى أن تصريحات التطهير العرقي هذه للاستهلاك السياسي من المتطرفين المأزومين وأن المستوى التنفيذي والعسكري، لا يتبناها، فإن الحكومة الحالية يهيمن عليها هؤلاء المتطرفون، وقد أثبتوا مع نتنياهو أنهم قادرون على تنفيذ وعيدهم باستهداف الأقصى وتوسيع الاستيطان وتشجيع المستوطنين على العنف، رغم تحفظات المستويين الأمني والعسكري، وأنه يمكنهم أن ينفذوا تهديداتهم الجديدة بشأن التطهير العرقي.