منذ أن صرّح الرئيس الأمريكي جو بايدن بأن إسرائيل "بدأت تفقد الدعم" بسبب "القصف العشوائي" في غزة، وصفت وسائل الإعلام في جميع أنحاء العالم الولايات المتحدة بأنها تدفع، دون جدوى، إسرائيل لتغيير تكتيكاتها في الحرب على القطاع وترتيباتها السياسية المفضلة لما بعد انتهاء القتال. وحتى الآن لا يبدو أنَّ هذا الضغط المُفترَض كان له تأثير كبير، الأمر الذي أدى إلى جدل بأنَّ الولايات المتحدة إما غير قادرة، أو غير راغبة في فرض تحول في السياسة الإسرائيلية.
الحقيقة تقول إن أمريكا لا تمارس الضغوط على إسرائيل
يقول موقع Responsible Statecraft الأمريكي إنه من المستحيل معرفة ما هي التهديدات التي يطلقها خلف الكواليس موكب المسؤولين الأمريكيين الذين كانوا يسافرون إلى إسرائيل خلال الأسابيع القليلة الماضية، هذا إن وُجِدَت. علاوة على ذلك إذا نظرنا إلى ما يختلف عليه الجانبان- وهو متى يجب أن تنتهي حملة القصف الجنوني على وجه التحديد، أو كيف سيتولى طرف ثالث مُفترَض إدارة غزة مؤقتاً في المستقبل- فسنجد من الناحية العملية القليل من الأمل في التوافق على هذه الأمور بين الولايات المتحدة وإسرائيل.
وهذا واضح تماماً من خلال المؤتمرات الصحفية المختلفة التي عُقدت في الأيام الأخيرة في البيت الأبيض، ووزارة الخارجية، والسفارة الأمريكية، ولا سيما حول مسألة كيفية صياغة قرار مجلس الأمن لتجنب استخدام حق النقض الأمريكي مرة أخرى.
لكن السبب الأقوى للشك في أنَّ الولايات المتحدة لا تمارس قدراً كبيراً من الضغوط على إسرائيل هو غياب بعض الحقائق، ببساطة لا يظهر الأشخاص الذين يديرون السياسة الخارجية للولايات المتحدة أي مؤشر على النظر إلى التحول في السياسة الإسرائيلية، باعتبارها مسألة تتعلق بالمصلحة الوطنية للولايات المتحدة.
متى تغير أمريكا سياساتها مع الحلفاء المقربين مثل إسرائيل؟
الحقيقة هي أنَّ المسؤولين الأمريكيين لن يكونوا على أتم استعداد لتغيير السياسة، بما في ذلك تجاوز الحلفاء المقربين، إلا عندما يرون أنَّ المصلحة الوطنية الأمريكية صارت على المحك، كما يقول موقع Responsible Statecraft الأمريكي.
والمثال الكلاسيكي على ذلك هي سحب الرئيس الأمريكي كينيدي صواريخ جوبيتر من حلفائه في الناتو، تركيا وإيطاليا، ضمن صفقة أزمة الصواريخ الكوبية عام 1962، وكذلك فرض الرئيس ترامب عقوبات على تركيا بسبب التوغل في شمال سوريا عام 2019.
لذلك، إذا لم تكن هناك علامات على أنَّ الولايات المتحدة تهدد إسرائيل بشأن غزة، فمن غير المرجح أن يكون ذلك بسبب مخاوف البيت الأبيض من مواجهة نتنياهو ورفاقه؛ بل بالأحرى لأنَّ الإدارة ترى أنَّ الولايات المتحدة لا تتحمل إلا تكلفة ضئيلة في السير ببطء نحو تغيير طفيف في السياسة.
بعبارة أوضح، ليس هناك ما يكفي من المخاطر لتبرير اللجوء للضغط على إسرائيل. وسواء فيما يتعلق بالعلاقات الدولية أو السياسة الداخلية، فإنَّ الوضع الراهن لا يجلب الكثير من السخط، ولرؤية ذلك فكر في العوامل التالية.
أمريكا لا تشعر بالضغط لتغيير سياساتها حول الحرب على غزة
بحسب تعبير من يوصف بأنه "مسؤول كبير في الإدارة الأمريكية"، لا ينظر بايدن ومستشاروه إلى "الوضع الإنساني" في غزة على أنه يضع الولايات المتحدة في موقف يتطلب تغييراً ملحوظاً في السياسة. ولا نشير هنا إلى وجهات النظر الخاصة لهؤلاء الأفراد، بل إلى الكيفية التي يؤثر بها الدعم الأمريكي لما تفعله إسرائيل في غزة على المكانة الدولية للولايات المتحدة. والإجابة هي التأثير ليس كبيراً.
على سبيل المثال، سرعان ما أضاف وزير الخارجية أنتوني بلينكن، بعدما وصف محنة الناس في غزة بأنها "مؤلمة"، أنَّ هذا هو السبب وراء ضرورة رؤية نهاية سريعة وفعالة للعمليات الإسرائيلية، وفعل كل ما هو ممكن لتقليل الضرر الذي يلحق بأولئك الذين وقعوا في مرمى النيران بسبب حماس".
وقد يتصور المرء أنَّ هذا التقليل من السخط الذي تشعر به شعوب وحكومات الدول الأخرى أو الرأي العام يرجع إلى شعور سياسي واقعي بأنَّ حقوق الإنسان والمخاوف الإنسانية تأتي في مرتبة ثانوية، حتى أثناء عمليات الإبادة الجماعية.
ومع ذلك، فإنَّ هذه النقطة تتعلق بالضغط الملحوظ من خارج الولايات المتحدة، ومن وجهة نظر واشنطن لا عمليات القتل الجماعي ولا معظم المواقف الأخرى تؤدي إلى ضغوط كبيرة بما يكفي لتغيير سياسة الولايات المتحدة. ويرجع هذا جزئياً إلى أنَّ الولايات المتحدة في "وضع فريد"، فمعظم خصومها أضعف اقتصادياً من تهديدها، في حين أنَّ أولئك الذين يتمتعون بثقل اقتصادي هم في الغالب حلفاء أو عملاء لها، كما يقول الموقع الأمريكي.
إغفال العواقب
لكن ذلك يرجع أيضاً إلى سمة أكثر جوهرية في السياسة الخارجية الأمريكية. عندما يختار صناع السياسات مسار العمل فإنهم يميلون إلى إغفال العواقب السلبية الأطول أمداً. ومن الأمثلة الكلاسيكية على ذلك القرار الذي اتخذه الرئيس بوش بغزو العراق وحل جيش صدّام حسين.
ونظراً لهذا الاتجاه، فإنَّ المزاعم حول الأضرار الدبلوماسية المستقبلية الناجمة عن الفشل في اتخاذ إجراءات صارمة ضد إسرائيل ستُقابَل بلا شك بردود فعل أشبه بمقولة الاقتصادي الإنجليزي جون كينز الشهيرة: "على المدى الطويل سنموت جميعاً".
وفي هذا الصدد، من المهم الإشارة إلى أنَّ الأمثلة التاريخية المذكورة أعلاه وما شابهها، التي شنّت فيها الولايات المتحدة حملةً قمعيةً على حلفائها كانت مدفوعة بردود أفعال على الأحداث الجارية، وليس حسابات طويلة المدى.
وهكذا، بالنسبة لصانعي السياسة الأمريكيين، فإنَّ الرد على الاستياء من الدول الأخرى بشأن سياستهم في غزة يشبه آراء سكارليت أوهارا في فيلم "ذهب مع الريح": "غداً سيكون أفضل".
ماذا عن السياسة الداخلية للولايات المتحدة؟
على هذه الساحة، تؤدي خيوط متعددة من الجدالات إلى النتيجة نفسها: بالنسبة لبايدن ومستشاريه، لا توجد أسباب سياسية واضحة لتغيير السياسة الأمريكية بشأن غزة.
بدايةً، من المحتمل جداً أن تكون هناك توجهات قوية داخل مجموعة صنع السياسات معارضة للحديث حول قضايا السياسة الداخلية، بافتراض أنَّ بايدن، باعتباره محترفاً منذ فترة طويلة، قادر على إصدار مثل هذه الأحكام بمفرده.
وثانياً، من المرجح أن تكون هذه الأحكام تعود إلى أنَّ السياسة الحالية تنقسم بالفعل بين أنصار السياسات المتشددة وأنصار السلام؛ وهذا الفريق الأخير، إذا واجه في النهاية الاختيار بين ترامب وبايدن، فسوف يضطر لتقبل الأمر والتصويت للحزب الديمقراطي. وعلى أية حال، لا تُكسَب الانتخابات الرئاسية الأمريكية على الإطلاق استناداً إلى أجندات السياسة الخارجية.
لكن بطبيعة الحال، لا تترك هذه الحسابات هامشاً كبيراً للخطأ، فحتى الزيادة البسيطة في معدلات الامتناع عن التصويت بين الدوائر الانتخابية الديمقراطية الأساسية يمكن أن تثبت أنها قاتلة في مختلف الولايات ذات الآراء المتأرجحة بين الحزبين.
ولهذا السبب فإنَّ عدم استخدام حق النقض في مجلس الأمن، والتأكيد المتكرر على "العمليات الموجهة"، والقضايا الإنسانية، وحل الدولتين، والأهم من ذلك، انتقادات حلفاء بايدن المقربين لنتنياهو التي حظيت بتغطية إعلامية جيدة ما هي إلا محاولات لإعادة التأطير للسياسة الأمريكية على أنها أقل معاداة للفلسطينيين. ومع استمرار الحرب فمن الممكن أن يوافق البيت الأبيض على فرض شروط متواضعة على استخدام المساعدات العسكرية، وإن كان ذلك مع تضمين استثناءات حتى لا تُطبَّق الشروط حقيقةً.
وتُظهِر هذه التحركات، التي يمكن تشبيهها برقصة الكابوكي الكلاسيكية حيث تندمج الكلاسيكية والدراما، بوضوح، أنَّ صُنّاع السياسة في الولايات المتحدة لا يشعرون إلا بضغوط قليلة، سواء محلية أو خارجية، لتغيير سياستهم بشأن غزة. وفي غياب تحركات إضافية فورية، مثل الامتناع المنظم عن التصويت في الانتخابات التمهيدية الرئاسية، فإنَّ السيناريو الأكثر ترجيحاً هو استمرار قتل الآلاف والأوضاع اليائسة للملايين من الفلسطينيين، كما يقول الموقع الأمريكي.