منذ اندلاع العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة بعد طوفان الأقصى، في 7 أكتوبر/تشرين الأول سنة 2023، والذي لا يزال مستمراً إلى اليوم، انتشرت العديد من مقاطع الفيديو على مواقع التواصل الاجتماعي لأطفال غزاويين بعيون مرعوبة جراء الصدمة التي يعيشونها خلال الحرب.
إلا أن هذه الحالة لها اسم علمي يطلق عليه "نظرة الألف ياردة"، وهي حالة يمكن أن يصاب بها العديد من الأشخاص حول العالم، والتي قد تصل إلى العمى، وتحدث عادة عند تعرضهم لصدمة أو مشاهد صعبة في حياتهم، وعادة ما تكون عن الجنود أو الأشخاص الذين عايشوا الحروب أو صدمات صعبة.
يمكن أن تؤثر الصدمة على الشكل الخارجي للإنسان الذي يعكس المشاعر الداخلية له، فمثلما للفرح تعبيرات خاصة تظهر على محيا الشخص، فللحزن والصدمات المفعول نفسه، إلا أنها قد تكون خطيرة في بعض الحالات.
على الرغم من أن الصدمة قد تظهر أحياناً بشكل غير ملموس، إلا أن هناك علامات ظاهرة، مثل ظاهرة نظرة الألف ياردة. ترتبط هذه الظاهرة غالباً بالمحاربين القدامى، وتصف هذه العبارة التعبير المستقل الذي قد يظهر لدى الأفراد الذين يعانون من صدمة ناتجة عن التجارب القتالية أو صدمات أخرى أو حالات صحية عقلية مشابهة.
لتبدأ التساؤلات حول ما هي هذه النظرة؟ وما معناها في علم النفس؟ وما تأثيرها على الأطفال وطرق علاجها؟
ما هي نظرة الألف ياردة؟
عند التحديق لمسافة الألف ياردة، يعبّر الفرد عن حالة تفكك خالية من المشاعر، تنشأ أحياناً نتيجة للتوتر الشديد أو التفكك النفسي. يطلق على هذه الحالة مصطلح "تحديق الألف ياردة"، الذي أصبح مرادفاً للصدمة القتالية وصدمة القذيفة في الوسط العسكري.
يرتبط مصطلح "نظرة الألف ياردة" بشكل خاص بكبار السن، وهو يشير إلى علامة تحذيرية تدل على أن حواسهم أصبحت مثقلة بالخوف والصدمة لفترات طويلة. يظهر هذا التحديق عندما يصبح الجهاز العصبي غير قادر على معالجة الضغوط النفسية بشكل فعال.
على مرّ السنين، اختلفت التسميات لهذه الظاهرة، ولكن العلوم الطبية كان لها دور بارز في فهم التقدم السريع لتلك التأثيرات النفسية الناتجة عن الحروب. يُطلق عليها أحياناً اسم "صدمة القذيفة"، أو "رد فعل الإجهاد القتالي"، أو "إرهاق المعركة"، وأحياناً "اضطراب ما بعد الصدمة".
وبغض النظر عن التسمية السريرية، تظل الظروف المحيطة بهذا التحديق كما هي إلى حد كبير، مُظهرة الآثار العميقة للتجارب الحربية والصدمات النفسية على الفرد، خاصة في مرحلة الشيخوخة.
تمت تسمية هذا التعبير بناءً على لوحة فنية بعنوان "Marines Call It That 2000 Yard Stare" للفنان توم ليا. نشرت اللوحة لأول مرة في مجلة لايف في عام 1945، حيث تصور جندياً من الحرب العالمية الثانية يقف أمام ساحة معركة مدمرة ويحدق للأمام بنظرة منفصلة.
مع مرور الوقت، أصبحت "نظرة الألف ياردة" تعبيراً يستخدم لوصف التفكك النفسي الذي يمكن أن يطرأ على الأفراد بسبب تجارب الحروب والصدمات النفسية.
عندما يتجاهل شخصٌ مسافة الألف ياردة، يظهر ذلك بتعبير منفصل وخالٍ من المشاعر على وجهه، ويمكن أن يكون غير مدرك للأحداث من حوله. يتّسم هذا الانفصال بطبيعته النفسية، حيث يؤثر على إدراك الفرد ووعيه وذاكرته وحتى التحكم في حركته.
تشير الدراسات النفسية إلى أن الانفصال هو نوع من الاستجابة للتوتر، يؤثر على جوانب متعددة من حياة الفرد. يمكن أن يكون هذا الانفصال طفيفاً كالتقسيم إلى درجات أعلى من الشدة، مثل اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD) واضطراب الهوية الانفصامية (DID).
عندما يتم فصل شخص عن البيئة المحيطة به، قد ينجم عن ذلك شعور بالانفصال، سواء عن الذات أو عن العالم المحيط به. يمكن أن يظهر هذا الانفصال بمظاهر متعددة، منها مشاعر الخدر الجسدي والعاطفي، وذكريات الماضي، ما يتسبب في ظهور الفرد كغير مركز أو منفصل أو منعزل.
التفكك المتكرر يمكن أن يكون ناتجاً عن العديد من حالات الصحة العقلية. فعلى سبيل المثال، قد ينجم اضطراب الإجهاد الحاد واستجابة الجسم للضغط الناتج عنه عن ظهور الشخص في حالة من الذهول أو الارتباك.
يُعَدّ الانفصال أيضاً واحداً من الأعراض الموثقة للاضطرابات النفسية مثل اضطراب ما بعد الصدمة، واضطراب الشخصية الحدية (BPD)، والاضطرابات النفسية الأخرى. هذه الحالات يمكن أن تكون متعددة الأوجه وتتطلب فهما عميقاً لتأثيراتها على الفرد.
تاريخ نظرة الألف ياردة
حسب موقع "medium" الأمريكي في عام 1968، استطاع المصور البريطاني دون ماكولين أن يلتقط لحظة مميزة بشكل استثنائي عندما التقط صورة لجندي مجهول من مشاة البحرية الأمريكية خلال معركة مدينة هيو في حرب فيتنام.
كان هذا الجندي يجلس دون حركة، ممسكاً بسلاحه، ووقف عند نقطة حيث تظهر عليه علامات الخوف والصدمة لفترات طويلة، لدرجة أن الجهاز العصبي لم يعد قادراً على معالجة تلك الصدمات.
ماكولين، وهو مصور فني، اقترب بعناية فائقة من الجندي والتقط سلسلة من 5 لقطات. تظل هذه اللقطات تاريخية، حيث لم يتغير تعبير الجندي الحجري أبداً؛ ولم يرمش عينيه مرة واحدة.
هذا التحديق البارد والمنفصل الذي يعبر عن إعياء عقلي عميق أُطلق عليه مصطلح "نظرة الألف ياردة". وقد وقعت حوادث مماثلة عبر التاريخ، حيث يظهر الإنسان بوضوح، في مواجهة الصدمات والخطر، في عينيه التعب والصمت الناتجين عن الصدمة.
المؤرخ اليوناني هيرودوت سجل حادثة مشابهة قبل قرون، حيث أصيب جندي أثيني بالعمى فجأة خلال معركة ماراثون في عام 440 قبل الميلاد بعد أن شاهد صديقيه يقتلان أمامه. ولكن، كان هناك تحول في الفهم لاحقاً، حين تم لاحقاً اكتشاف أن العديد من الجنود الذين كانوا ضحايا للصدمة لم يكونوا قريبين من القذائف المتفجرة.
تاريخياً، ظهر مصطلح "صدمة القذيفة" للمرة الأولى في عام 1915 عندما وضعه الكابتن البريطاني تشارلز مايرز خلال الحرب العالمية الأولى لوصف حالات الجنود الذين كانوا يعانون من أعراض غريبة وشديدة نتيجة للقتال، مثل ارتعاشات الجسم والتأتأة والخدر الحسي.
ورغم أن "صدمة القذيفة" كانت تشمل أحوالاً متنوعة، فإنها أظهرت تأثيرات جسدية خطيرة نتيجة للتعرض المستمر للقصف.
في الحروب اللاحقة، مثل الحرب العالمية الثانية، شهد العديد من الجنود تأثيرات نفسية كبيرة بسبب الضغوط النفسية والمعاناة المستمرة. "إرهاق المعركة" أصبح تشخيصاً جديداً للجنود الذين تعرضوا للصدمات النفسية بعد فترات طويلة من الخدمة، ما أثر على العديد منهم بشكل دائم.
تأثير هذه النظرة على الأطفال
قد تكون الإصابة بنظرة الألف ياردة خطيرة على الأطفال، خاصة عندما يعايشون الحروب أو يرون مشاهد صعبة في سن متقدمة، ما يمزج النظرة مع الخوف وعدم القدرة على استيعاب ما يحدث حوله خلال تلك الفترة.
يظهر أن الأطفال أيضاً يستخدمون ظاهرة الانفصال كوسيلة للتعامل مع مواقف صادمة أو مؤلمة قد تطرأ في حياتهم. تماماً كما تظهر نظرة الألف ياردة عند البالغين، يمكن للأطفال أن يبدوا خلال هذه الحالات كمشاهدين يعانون من الخدر والانفصال.
في دراسة أجريت عام 2017، قام الباحثون بفحص السمات المشتركة لدورات الانفصال التي قد يمر بها الأطفال بسبب تجارب صادمة. أظهرت نتائج الدراسة أن الأعراض الشائعة خلال فترات الانفصال تشمل التباعد والانغلاق والابتعاد. وكان من المألوف أيضاً أن يظل الأطفال ساكنين جسدياً ومنعزلين خلال تلك الحالات.
على الرغم من أن الانفصال يُعتبر استجابة طبيعية للتوتر لدى الأطفال، إلا أنه يمكن أن يكون تجربة مخيفة لهم ولأولياء الأمور. في حال كان الطفل يعاني من حالات الانفصال المتكررة، فيجب التواصل مع الطبيب أو المعالج لمناقشة خيارات العلاج.
إلى اليوم لا يوجد علاج خاص بنظرة الألف ياردة، إلا أن المصاب بها قد يتجاوزها عند العودة للحياة الطبيعية وتلقي العلاج النفسي الخاص للخروج من الأزمة التي مر منها في فترة معينة.