"لقد حصلتُ على معلومات من جنود وضباط يقاتلون في قطاع غزة منذ بدء الحرب، وتوصلت بناءً عليها إلى استنتاج مفاده أن المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي والمحللين العسكريين في الاستوديوهات التلفزيونية يعرضون صورةً كاذبة، وذلك فيما يتعلّق بآلاف القتلى الذين يسقطون من حماس، وبالمواجهات وجهاً لوجه بين قواتنا وقواتهم"، هذا ما يقوله اللواء (احتياط) يتسحاق بريك، المسؤول السابق عن "ديوان المظالم" في الجيش الإسرائيلي لمدة عقد، والكاتب بصحيفة Haaretz الإسرائيلية.
"لا يوجد حل لأنفاق حماس"
يقول اللواء بريك، الذي أصبح بعد تقاعده عام 2018 معروفاً بأنه أشد المنتقدين لخطط واستعدادات الجيش الإسرائيلي ووزارة الدفاع، والذي حذر منذ سنوات من أن "الجيش الإسرائيلي فقد الروح القتالية"، إن عدد أفراد أو مقاتلي حماس الذين قتلهم الجيش الإسرائيلي على الأرض خلال هذه المعركة أقل من المُعلن بكثير. ويضيف بريك: "نحن لا نخوض غالبية معارك هذه الحرب وجهاً لوجه كما يزعم المتحدث العسكري والمحللون، بل يسقط غالبية القتلى والجرحى من جانبنا نتيجة قنابل حماس وصواريخها المضادة للدبابات".
وحول الأسباب، يقول بريك إن مقاتلي حماس يخرجون من فتحات الأنفاق لزراعة القنابل، ونَصب الأفخاخ المتفجرة، وإطلاق الصواريخ المضادة للدبابات على عرباتنا المدرعة، ثم يختفون عائدين إلى الأنفاق من جديد. وليس لدى الجيش الإسرائيلي في الوقت الراهن أي حلول سريعة للمعركة ضد حماس، التي يختبئ غالبية أفرادها في الأنفاق.
ومن الواضح أن متحدث الجيش وكبار مسؤولي الدفاع يريدون تقديم الحرب على أنها انتصار كبير قبل أن تتضح الصورة. ولهذا يجلبون مراسليهم العسكريين لدى مختلف القنوات التلفزيونية الكبرى إلى غزة من أجل التقاط "صور النصر". وهذه أكثر حرب مُصورة شنتها إسرائيل على الإطلاق، وربما أكثر حرب مصورة في تاريخ العالم بأسره.
لكن صنع صور النصر قبل أن نقترب من تحقيق أهدافنا قد يكون ضاراً بشدة، وذلك إذا فشلنا في تحقيق أهدافنا بالكامل في النهاية، أي تدمير قدرات حماس وتحرير الرهائن، لهذا كان من الأفضل أن نتحدث بتواضعٍ أكبر، يقول بريك.
"الجيش يكذب.. والمحللون الإسرائيليون كذلك"
يقول اللواء يتسحاق بريك في مقاله بصحيفة هآرتس: يذكرني ما يحصل بتصريحات المراسلين والمحللين في القنوات الكبرى أنفسهم، وكذلك الجنرالات المتقاعدين، عندما قالوا إن الجيش الإسرائيلي هو الأقوى في الشرق الأوسط، وإن الأعداء قد ارتدعوا قبل ضربة حماس لنا في جنوب إسرائيل. ومن المؤسف أن هؤلاء المراسلين، والمحللين، والجنرالات المتقاعدين أنفسهم يواصلون اليوم الكذب واختلاق صورٍ من النوع نفسه، وكأنهم لم يتعلموا شيئاً.
يقول بريك إن تدمير أنفاق حماس سيستغرق سنواتٍ عديدة، وهذا سيكلف إسرائيل الكثير من الأرواح. وقد اعترف الجيش الآن بوجود مئات الكيلومترات من الأنفاق في أعماق الأرض وبفروع متعددة، فضلاً عن أن بعض الأنفاق ينقسم إلى عدة طوابق، تحتوي على العديد من المواقع المناسبة للقتال، حيث حفرت حماس تلك الأنفاق على مدار سنوات وعقود، وحصلت على مشورة خبراء بارزين، وتربط تلك الأنفاق بين طول غزة وعرضها، كما تصل القطاع بشبه جزيرة سيناء أسفل مدينة رفح، كما يزعم بريك.
ويضيف: هيمنت علينا لسنوات طويلة فكرة أن حماس قد ارتدعت. ولهذا أُلغِيَت كافة خطط القتال في غزة وأنفاقها بالتبعية، إلى جانب كافة الأدوات اللازمة لفعل ذلك. وهذا يفسر سبب عدم جلوس خبرائنا لدراسة، وتخطيط، وتصنيع المعدات المناسبة للحرب تحت الأرض، ولهذا نحاول ارتجال الحلول اليوم أيضاً، لكن تلك الحلول لن تمنحنا استجابةً فعالة.
"لا يمكن منع حماس من إعادة بناء نفسها بعد هذه الحرب"
يقول بريك إن العديد من الضباط المقاتلين في غزة أخبروه بأنه سيكون من الصعب للغاية- وربما من المستحيل- منع حماس من إعادة بناء نفسها، حتى بعد كل الدمار الذي ألحقه الجيش الإسرائيلي بقواعدها وبقطاع غزة بشكل عام.
وسيتطلب هذا إبقاء قوات كبيرة في غزة لسنوات عديدة مقبلة، والاستمرار في قتال مقاتلي حماس، الذين سيخرجون من الأنفاق ليطلقوا صواريخهم المضادة للدبابات ويزرعوا القنابل وينصبوا الأفخاخ المتفجرة ويُلحقوا الكثير من الخسائر بالجيش الإسرائيلي.
وسنحتاج بالتبعية لمغادرة المناطق الحضرية، والتدخل بأسلوب جراحيٍّ أكثر، من خلال المداهمات والغارات الجوية المبنية على معلومات استخباراتية دقيقة. فهل سيستطيع الساسة وكبار مسؤولي الدفاع أن يتكيفوا مع سيناريو كهذا، الذي سيقودنا لحروب استنزاف؟
اللواء يتسحاق بريك تنبّأ بهجوم "طوفان الأقصى"
يُذكر أن اللواء بريك (75 عاماً) قد تنبّأ بهجوم يشنه آلاف المسلحين الفلسطينيين على مستوطنات غلاف غزة على غرار عملية "طوفان الأقصى"، كما أنه تنبأ بهجوم فلسطيني عارم في المستقبل القريب على المستوطنين في الضفة الغربية.
ويعرف بريك بأنه خبير عسكري "لا يُشق له غبار" في إسرائيل، فهو من أعلم الناس بالمشاكل التي تتعلق بمدى جاهزية الجيش الإسرائيلي، وكتب في ذلك لسنوات طويلة، وقد التقاه رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو أكثر من مرة منذ بداية العدوان على قطاع غزة.
وقاد بريك سلاح المدرعات بين عامي 2009 و2018، ثم تولى قيادة "مفوضية شكاوى الجنود" أو "ديوان المظالم"، التي تتلقى الملاحظات العامة حول الجيش ووضعه ووضع الجنود وشكاواهم الشخصية والمتعلقة بخدمتهم العسكرية، ومشاكل الاستعدادات وتراجع الروح المعنوية للجيش.
وأنهى بريك خدمته برتبة لواء بعد 34 سنة قضاها في السلك العسكري، وبعد تسريحه كان يحذر من جوانب كثيرة من الخلل في الجيش والتبذير والفساد. وعرف بانتقاده الشديد لمستوى أداء الجيش، وأعد تقريراً عام 2018 عن المشاكل الصعبة التي يواجهها جيش الاحتلال على المستويات اللوجيستية والتكنولوجية والتنفيذية، وطالب بتشكيل لجنة تحقيق للكشف عن حقيقة الواقع السيئ في الجيش، وعدم تقديم صورة حقيقية عن هذا الواقع للمستوى السياسي.
بعد الحرب على غزة عام 2021، التي أطلقت عليها حركة المقاومة الإسلامية "حماس" معركة "سيف القدس"، اعتبر بريك أن المقاومة الفلسطينية حققت الانتصار. وإزاء ذلك شدد بريك على ضرورة أن ينفذ الجيش عملية برية كاسحة، يتم خلالها ضرب المقاومة في عمق القطاع فوق الأرض وتحتها، معتبراً أن الغارات الجوية لا يمكنها القيام بذلك وحدها.
وقال إن خوف إسرائيل من خوض معركة برية قد يقتل فيها عدد كبير من الجنود، يحرمها من تحقيق إنجاز على الأرض، معتبراً أن "من يخشى أن يقتل في الحرب لا يحقق الانتصارات".
لكن هذه الرؤية تغيرت جذرياً خلال العدوان الإسرائيلي على غزة بعد السابع من أكتوبر، حيث وصف الجنرال المتقاعد المتحمسين للاجتياح بالمغرورين الذين لا يفقهون شيئاً في الحرب. متسائلاً عن الإنجاز الحقيقي المطلوب الذي يبرر دخول الجيش الإسرائيلي إلى قلب مدينة غزة، على افتراض أن الهدف النهائي هو القضاء على حكم حماس والجهاد في غزة.