بنيامين نتنياهو يمثل خطراً على إسرائيل، لكنه ليس الخطر الوحيد، فالتطرف والمستوطنون وأمور أخرى تمزق الكيان داخلياً، فكيف كشفت الحرب على غزة "عورات" الاحتلال؟
الإجابة جاءت في تحليل لصحيفة Haaretz الإسرائيلية يلقي الضوء على المخاطر الحقيقية التي تهدد دولة الاحتلال، وهي مخاطر كانت قائمة منذ ما قبل عملية طوفان الأقصى العسكرية يوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول.
و"طوفان الأقصى" هو الاسم الذي أطلقته حركة المقاومة الإسلامية (حماس) على العملية العسكرية الشاملة، التي بدأت فجر السبت 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، رداً على "الجرائم الإسرائيلية المتواصلة بحق الشعب الفلسطيني". ففي تمام الساعة السادسة صباحاً بالتوقيت المحلي في فلسطين، شنّت "حماس" اجتياحاً فلسطينياً لمستوطنات الغلاف المحاذية لقطاع غزة المحاصَر، حيث اقتحم مقاتلون من كتائب عز الدين القسام البلدات المتاخمة للقطاع، في ظل غطاء جوي من آلاف الصواريخ التي أُطلقت من غزة باتجاه تل أبيب والقدس ومدن الجنوب.
ووسط حالة الذعر والصدمة التي انتابت الإسرائيليين، وانتشار مقاطع فيديو وصور لدبابات ومدرعات تابعة لجيش الاحتلال، إما محروقة أو تحت سيطرة المقاومين الفلسطينيين، وأسر العشرات من جنود من جيش الاحتلال والمستوطنين وسيطرة فلسطينية كاملة على مستوطنات، أعلنت دولة الاحتلال أنها "في حالة حرب"، للمرة الأولى منذ حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973.
الحرب على غزة
ترى الصحيفة العبرية أنه بعد مرور 85 يوماً على هجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول، وبعد قرابة 3 أشهر، يمكننا افتراض أننا اجتزنا الخطر الذي يهدد وجود إسرائيل المادي، وذلك في المستقبل القريب على أقل تقدير.
"لكن هذا لا يعني أن جميع المخاطر التي تهددنا قد اختفت. إذ تزايدت هذه المخاطر في الواقع، بل كانت موجودة منذ ما قبل السابع من أكتوبر/تشرين الأول. تتمثل تلك المخاطر في تفكيك الحكومة الديمقراطية الإسرائيلية وتمزيق النسيج الاجتماعي للدولة. ويبدو من المستبعد أن نتعرض للهزيمة نتيجة تهديدٍ وجودي من عدو خارجي، حتى بعد هجوم حماس. لكن احتمالية أن تتحول إسرائيل إلى مجتمع لا يضمن الحقوق الجوهرية الأساسية صارت احتماليةً أكثر واقعية.
إذ يرى العديدون ممن نزلوا إلى الشوارع خلال العام الماضي أن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو هو المسؤول عن تآكل ديمقراطية إسرائيل. وعلى هذا الصعيد، يشعر الكثير منهم بالتفاؤل حيال المستقبل اليوم، حيث تم القضاء على الإصلاحات القضائية الخاصة بوزير العدل ياريف ليفين، كما تُظهر استطلاعات الرأي أن حزب الليكود الخاص بنتنياهو لم يعد يملك سوى 20 مقعداً في الكنيست. وبهذا لم يعد التهديد الذي تواجهه ديمقراطية إسرائيل قائماً.
لكن من يراقب الواقع عبر عدسةٍ لا تقتصر على "رفض بيبي (لقب نتنياهو)" سيدرك أن المجتمع الإسرائيلي "آخذٌ في التعفُّن بوتيرة متسارعة خلال الأشهر الأخيرة، دون أية مؤشرات على انحسار تلك الوتيرة".
"عنف" شرطة إسرائيل
يُعد مكتب المدعي العام من أوائل الجهات المخيّبة للآمال. فمع بدء الحرب على غزة، شن المكتب حملة تطهير للشبكات الاجتماعية من المنشورات التي قيل إنها تحريضية. لكن أظهر التطبيق العملي لتلك الحملة أنها تستهدف الشباب العربي حصراً، وأغلبهم من الأشخاص المجهولين الذين كان تعبيرهم عن الفرح بهجوم حماس لا يصل إلى جمهور كبير.
إذ تعرّض العشرات للمحاكمة، رغم أن واقع الأمور يقول إن الشبكات الاجتماعية مليئة كذلك بالتحريض من جانب المتطرفين اليهود، الذين يُعربون عن مشاعر مشابهة لأولئك الذين تعرضوا للاعتقال أو التحقيق أو الإدانة. ويكفي إجراء بحث على تويتر للعثور على منشورات تقول أشياءً مثل: "من العار أننا لم نغتصبهم أيضاً".
يبدو أن التحريض مسموح به عندما يكون في خدمة الموجودين على رأس السلطة، ولهذا لا عجب في أن المعلقين يخرجون على الهواء للمطالبة بقتل نساء وأطفال غزة من أجل الانتقام، دون أن تحرك النيابة العامة أو الشرطة في إسرائيل ساكناً.
وبعيداً عن المدعين العامين الإسرائيليين، تحوّلت الشرطة الإسرائيلية إلى أداةٍ لقمع الحقوق الأساسية تعسفياً. إذ جرى تقييد حق التظاهر، وخاصةً لعرب الداخل الذين يحاولون التظاهر ضد الحرب. فقد منعت الشرطة إقامة مسيرات في سخنين وأم الفحم بدعوى أنها لن تتمكن من ضمان سلامة المتظاهرين.
فضلاً عن هذه الإخفاقات المؤسسية، غمرت الأسلحة البلاد في ظاهرةٍ ستضطر إسرائيل للتعايش مع آثارها لسنوات طويلة مقبلة. حيث جرى توزيع عشرات الآلاف من البنادق والمسدسات منذ بدء الحرب، وذهب الكثير منها لمستوطني الضفة الغربية.
ووقعت بعض تلك الأسلحة في أيدي جماعات عنيفة مثل جماعة رافي حاييم-كيدوشيم، الرئيس السابق لعائلة كيدوشيم الإجرامية في هرتسليا. كما حصلت على تلك الأسلحة إحدى الميليشيات المرتبطة بإيتمار بن غفير (وزير الأمن الداخلي) في مستوطنة حريش، وفقاً لما ذكرته الصحفية روني سينغر في تقرير لقناة Kan. وأثار ذلك التقرير بعض الضجة، لكنه تعرض للتجاهل بدرجةٍ كبيرة. بينما يتركّز انتباه الجميع على الحرب الآن. وهكذا يبدو شكل المجتمع الذي يتعفّن من الداخل، بحسب هآرتس.
كما ضمنت المحكمة العليا للشرطة حرية استخدام سلطتها تعسفياً عند التعامل مع المظاهرات، ومن المؤكد أن هذا لن يغير شيئاً في واقع عنف الشرطة غير المنضبط.
إذ سجلت عدسة الكاميرا لحظة اعتداء فردين من شرطة الحدود على المصور العربي مصطفى الخروف في القدس الشرقية قبل أسبوع ونصف، وذلك لمجرد التنفيس عن غضبهما، بينما غض زملاء الثنائي الطرف عن تصرفهما. ولم يشعر أحد بالصدمة عندما وجّه لهما وزير الأمن القومي عبارات تشجيعية. فيما طغت العناوين الرئيسية للقتلى في غزة على خبرٍ كهذا أيضاً.
الصحافة في إسرائيل
ويرصد تحليل الصحيفة العبرية مظهراً آخر من مظاهر التعفن الداخلي، واصفاً التداعيات التي عانتها الصحافة الإسرائيلية على مدار الشهرين ونصف الماضيين بأنها "الأكثر رعباً على الإطلاق"، فقد انحازت وسائل الإعلام إلى جيش الاحتلال الإسرائيلي وأفعاله بالكامل. ورغم ما جرى ويجري من جنون مطبق أدى إلى محو جزء كبير من سكان غزة من فوق وجه البسيطة، إلا أن أحداً لا يجرؤ حتى على إثارة أبسط شكٍ في إمكانية إنقاذ أي من تلك الأرواح. ويبدو أن قاعدة القانون الإنجليزي التقليدي التي تقول إن "الملك لا يرتكب أي أخطاء" أصبح معمولاً بها في إسرائيل أيضاً.
ببساطة لم تعد التقارير الدقيقة والمبنية على الحقائق، التي تشكل أساس الصحافة، مهمةً بالنسبة للمعلقين. ويتجلى خير دليل على ذلك في المؤتمر الصحفي الذي عقدته يوشيفيد ليفشيتز، الأسيرة التي أطلقت حماس سراحها. حيث روت يوشيفيد قصةً لا تتوافق مع السردية الإسرائيلية وتحدثت عن المعاملة الإنسانية التي تلقتها من خاطفيها. وانتقد المعلقون في الاستوديوهات الرقابة العسكرية لأنها سمحت لامرأة في عقدها التاسع بأن تقول الحقيقة، لمجرد أن تلك الحقيقة تتعارض مع الرواية الرسمية.
بينما تتمثل أسوأ ظاهرةٍ في العجز عن انتقاد الجنود حتى عندما يخربون البنايات، ويرشون رسوم الحائط، ويحطمون الأغراض دون داعٍ وبصورةٍ علنية، أو عندما يقررون فتح النار على منزل مليء بالرهائن في كيبوتس بئيري. كما احتفى مذيعو قنوات الأخبار بالصور المهينة لمن وصفوهم بأنهم "إرهابيين" مجردين من ثيابهم ولا يرتدون سوى الملابس الداخلية. ثم اضطروا لاحقاً للاعتراف بأن غالبية هؤلاء المعتقلين لم يكونوا من أفراد حماس، بحسب "مصادر عسكرية".
في الوقت ذاته، تتجاهل وسائل الإعلام التقارير عن وفاة معتقلين فلسطينيين في السجون الإسرائيلية منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول، باستثناء حالةٍ واحدة أفضت إلى تحقيق جنائي ولم تلقَ سوى الحد الأدنى من التغطية. ولا عجب في أن المحلل التلفزيوني زفي يهيزكيلي شعر بأنه يستطيع المطالبة بقتل 100 ألف غزاوي بلا تمييز بين مقاتلي حماس والنساء والأطفال، وذلك من أجل الانتقام ودون أن يخشى إيقافه عن الظهور في التلفزيون ولو لمدة يومين.
وقد بدأ الإسرائيليون يدفعون ثمن التطرف وغياب العدالة أمام القانون، والعنف غير المنضبط هنا وهناك. إذ دفع يوفال كستيلمان الثمن بحياته، وكذلك فعل الأسرى الثلاثة الذين أُطلقت عليهم النيران بالخطأ في غزة.
ففي يوم 15 ديسمبر/كانون الأول، أعلن جيش الاحتلال مسؤوليته عن قتل الرهائن الثلاثة، والخميس 28 ديسمبر/كانون الأول نشر الجيش النتائج التي توصل إليها، وخلص إلى أنه "لم يكن هناك أي قصد خبيث في الحدث، الجنود نفذوا الإجراء الصحيح حسب تقديرهم للحدث في تلك اللحظة".
وقال البيان إن رئيس أركان الجيش الجنرال هرتسي هاليفي "شدد على الأهمية القصوى للالتزام بالإجراءات النموذجية للعمليات". وأضاف: "في الحالة التي لا يوجد فيها تهديد مباشر ولا يظهر تحديد الهوية عدواً واضحاً، هناك حاجة للحظة من الفحص قبل إطلاق النار، إذا سنحت الفرصة".
وأحدث مقتل الرهائن الثلاثة عندما اقتربوا من القوات الإسرائيلية في حي الشجاعية بمدينة غزة صدمة بين الإسرائيليين. وخلص التحقيق إلى أنه خلال أيام القتال العنيف، لم تكن هناك معلومات استخباراتية تشير إلى أن الرهائن كانوا محتجزين في مبانٍ تعرضت فيها القوات لإطلاق نار كثيف.
وقال الجيش إن اللقطات أظهرت أن الرهائن خلعوا قمصانهم، وأن أحدهم كان يلوح بقطعة قماش بيضاء. وتبين أنهم رهائن فقط بعد فحص جثثهم. ولم تفسر القوات استغاثة الرهائن طلباً للمساعدة بشكل صحيح واعتقدت أنها فخ من المسلحين في محاولة لاستدراجها إلى كمين. وقال هاليفي: "فشل الجيش الإسرائيلي في مهمته لإنقاذ الرهائن في هذه الواقعة".