محاولة إسرائيل بدعم أمريكي لـ"تدمير حماس" ليست فقط تبدو صعبة المنال، ولكنها هذه المحاولة وما يصاحبها من حرب وحشية قد تأتي بنتائج عكسية ليست فقط على إسرائيل بل المنطقة والغرب.
هكذا حذر تقرير لموقع Responsible Statecraft الأمريكي التابع لمعهد معهد كوينسي لفن الحكم المسؤول، بناء على قراءة لتاريخ المنطقة القريب.
خبراء غربيون وإسرائيليون يحذرون من أن محاولة تدمير حماس ستأتي بنتائج عكسية
هذا الرأي يتبناه محللون إسرائيليون وقادة غربيون، فلقد عنوَن الصحفي الإسرائيلي اليساري جدعون ليفي عنوان مقال له مؤخراً في صحيفة هآرتس بالقول "إسرائيل ترعى الجيل القادم من الكراهية ضد نفسها".
إذ دعا الكاتب الإسرائيلي قرَّاءه إلى "أن ينظروا إلى الكراهية التي زرعت في قلوب جميع الإسرائيليين تقريباً من خلال هجوم واحد"، وأن يفكروا في الأمر. وما الذي يمكن أن تفعله مذبحة أسوأ وأطول أمداً بالسكان الفلسطينيين.
أطفال غزة سيتحولون إلى جيل جديد للمقاومة
"هؤلاء الأطفال لن يسامحوا الجنود الإسرائيليين أبداً. "إنك تثير جيلاً آخر من المقاومة"، حسبما قال أب فلسطيني، قُتل ابنه الصغير على يد الجنود الإسرائيليين، لليفي.
ومؤخراً، حذر وزير الدفاع البريطاني السابق بن والاس، من أنه من خلال تجربة البريطانيين مع الاضطرابات في أيرلندا الشمالية، فإن "التطرف يتبع القمع" وأن "الرد غير المتناسب من قِبَل الدولة (أو الاحتلال) من الممكن أن يخدم كأفضل ضابط تجنيد لدى منظمة متمردة".
وتصدر وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن مؤخراً عناوين الأخبار بتحذيره إسرائيل من أن "الدرس المستفاد ليس هو أنه يمكنك الفوز في حرب المدن من خلال حماية المدنيين". "الدرس المستفاد هو أنه لا يمكنك تحقيق النصر في حرب المدن إلا من خلال حماية المدنيين".
وقال: "كما ترون، في هذا النوع من القتال، فإن مركز الثقل هو السكان المدنيون. وإذا دفعتهم إلى أحضان العدو، فإنك تستبدل النصر التكتيكي بهزيمة استراتيجية".
يعلق تقرير Responsible Statecraft قائلاً: "ينبغي لتصريحات أوستن، التي أدلى بها في ديسمبر/كانون الأول، أن تكون تنبيهاً لمجموعة كبيرة من المسؤولين والمعلقين الإسرائيليين والغربيين الذين يصرون على أن "الحل العسكري" في التعامل مع حماس هو السبيل الوحيد أمام إسرائيل لضمان أمنها على المدى الطويل، وأنه على إسرائيل تدمير حماس، مهما استغرق الأمر، ومهما كانت التكلفة، وأنه إذا سمح لها بالبقاء، فإنها ببساطة ستختار لحظة أخرى في المستقبل للهجوم، ولن يعرف المواطنون الإسرائيليون السلام أبداً.
بالطبع لا يحاول الإسرائيليون ومؤيدوهم الإشارة إلى أن السبيل الوحيد للأمن للإسرائيليين هو أن ينهوا حصار غزة، والاعتداءات على الأقصى وسكان الضفة والاستيطان، وأن يذهبوا للتفاوض الجد مع الفلسطينيين خاصة أن حماس رغم تمسكها بعدم الاعتراف بإسرائيل أعلنت استعدادها للالتزام بهدنة طويلة إذا قبلت إسرائيل بدولة فلسطينية على حدود 1967 وعاصمتها القدس وحل مسألة اللاجئين.
كما أن وزير الدفاع الأمريكي رغم محاولته إبداء الحكمة، فإن دعوته لإسرائيل لكسب السكان تبدو ساذجة تماماً، فهو يفترض أن استمرار حرب إسرائيل ولكن بوتيرة أقل وطأة على المدنيين في غزة سوف تدفعهم للتعاون مع الاحتلال، متناسياً أن مقاتلي حماس بالنسبة لأهل غزة هم أبناؤهم وأشقاؤهم وأنها بالنسبة للشعب الفلسطيني أن الفصائل الفلسطينية المقاومة هي طليعة مسلحة تحاول استعادة الحقوق التي فشلت المفاوضات التي عقدت برعاية أمريكية في استعادتها بل ساهمت هذه المفاوضات في توفير التغطية لتبديدها.
ويقول الموقع: "أوستن ليس سوى صوت واحد بارز في الأشهر الأخيرة أشار إلى خلل منطق الإسرائيلي الرامي إلى تدمير حماس، وذكّر العالم بأنه عندما تترك دولة ترتكب سلسلة من المذابح البشرية بدعوى محاربة الإرهاب، فإن الغضب والمرارة واليأس الناتج عن ذلك يغذي المشاعر ذاتها".
رئيس الأركان الأمريكي قلق من تداعيات الوحشية الإسرائيلية
عندما سُئل رئيس هيئة الأركان الأمريكية المشتركة الجنرال تشارلز براون جونيور مباشرة عما إذا كان يخشى أن يؤدي ارتفاع أعداد الضحايا المدنيين إلى ظهور أعضاء جدد في حماس في المستقبل، أجاب: "نعم، هذا صحيح للغاية".
وقال رئيس الشاباك السابق يعقوب بيري لصحيفة نيويورك تايمز: "سنقاتل أبناءهم خلال أربع أو خمس سنوات".
وقد دعمت الأجهزة الأمنية في الولايات المتحدة وحول العالم بالفعل هذه التحذيرات. وحذر مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي كريس وراي الشهر الماضي من أن الدعم الأمريكي للحرب الإسرائيلية دفع العديد من المنظمات الإرهابية إلى الدعوة لشن هجمات ضد الأمريكيين والغرب، كما "أثار بشكل كبير التهديد بشن هجوم" داخل الولايات المتحدة.
هذا بالإضافة إلى النصائح والنتائج الاستخباراتية التي توصلت إليها مختلف الوكالات الحكومية الأمريكية التي تحذر من تهديدات موثوقة من قبل مجموعات مثل القاعدة وحزب الله رداً على الدعم الأمريكي للحرب.
وبالمثل، دقت وكالات التجسس الألمانية والبريطانية ناقوس الخطر بشأن احتمال أن تغذي الحرب التطرف المسلح، مستشهدة بتهديدات محددة صادرة عن الجماعات الجهادية والمتعاطفين معها.
هناك سبب وجيه لتصديقهم. وفي وقت سابق من هذا الشهر، قتل رجل فرنسي يبلغ من العمر 26 عاماً رجلاً وأصاب اثنين آخرين في هجوم بسكين ومطرقة في وسط باريس، قبل أن يخبر الشرطة أنه غاضب من أن "الكثير من المسلمين يموتون في أفغانستان وفلسطين"، حيث يعتقد أن فرنسا متواطئة فيما يحدث في غزة.
شعبية حماس والمقاومة قفزت في المنطقة كلها
ومع اعتبار تونس رائدة لبقية المنطقة (من أعلى البلدان في المنطقة من حيث التعليم)، وجدت سلسلة من استطلاعات الباروميتر العربي أن نسبة التونسيين الذين يفضلون المقاومة المسلحة ضد الاحتلال الإسرائيلي قد ارتفعت بشكل كبير في الأسابيع الثلاثة التي تلت هجوم حماس في 7 أكتوبر/تشرين الأول وبداية الهجوم العسكري الإسرائيلي على غزة.
وبالفعل، تعرضت القوات الأمريكية في العراق وسوريا للهجوم ما مجموعه 97 مرة منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول، في حين شن المتمردون الحوثيون الذين يسيطرون على معظم أنحاء اليمن سلسلة من الهجمات الناجحة على السفن التجارية في البحر الأحمر.
وفي الوقت نفسه، أدت الحرب لزيادة كبيرة لشعبية حماس في فلسطين.
وتُظهِر استطلاعات الرأي أن شعبية الحركة ارتفعت في كل من غزة، وخاصة في الضفة الغربية الأكبر حجماً، حيث تعززت مكانتها بفعل الأحداث التي وقعت في الأشهر القليلة الماضية، كما ارتفع دعمها الشعبي بأكثر من 30 نقطة. ومن ناحية أخرى، ضعف موقف القوى التي يصفها الغرب بأنها أكثر اعتدالاً في الأوساط الفلسطينية ويراهن على التحالف معها، حيث تفضل أغلبية ساحقة من الفلسطينيين استقالة الرئيس محمود عباس، بينما تفضل أغلبية أصغر تبلغ الثلثين تقريباً حل السلطة الفلسطينية التي يحكمها، حسبما ورد في تقرير الموقع الأمريكي.
حروب أمريكا أثبتت أن القمع يولد مقاومة
لا ينبغي لأي من هذا أن يكون مفاجئاً أو مثيراً للجدل. لقد أظهرت حروب الولايات المتحدة، التي دامت أكثر من عقدين من الزمن بدعوى محاربة الإرهاب الطبيعة الهدّامة لمثل هذه الاستراتيجية.
لقد أشار المسلحون المحليون بانتظام إلى العمليات العسكرية التي تقوم بها الولايات المتحدة والحكومات الغربية الأخرى في الشرق الأوسط على مر السنين لشرح دوافع العنف الذي يقومون به فالقمع والاحتلال يولدان مقاومة.
وبعد عقد أو أكثر من اغتيال أسامة بن لادن، فضلاً عن قتل أو القبض على مجموعة أخرى من المتآمرين والقادة الإرهابيين في هجمات 11 سبتمبر/أيلول أثناء تحييد الجماعات الإرهابية مثل داعش، تواصل القوات الأمريكية الانخراط في القتال البري ضد من تصفهم بالإرهابيين في تسع دول على الأقل.
وفي الوقت نفسه، تفجرت الهجمات الإرهابية في أفريقيا بنسبة زيادة قدرها 75 ألفاً% منذ بدأت الولايات المتحدة عمليات مكافحة الإرهاب هناك قبل عقدين من الزمن، كما ارتفع عدد الجماعات العابرة للحدود في أفريقيا التي تصنفها أمريكا إرهابية من الصفر في وقت أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001 إلى العشرات، مع وجود مركز مكافحة الإرهاب في أفريقيا. أعلنت الأكاديمية العسكرية الأمريكية "وست بوينت" أن القارة الأفريقية هي "المركز العالمي الجديد للعنف الجهادي" اعتباراً من صيف 2021.
وكل هذا لا بد أن يثير قدراً كبيراً من التشكك في مزاعم القيادة الإسرائيلية بأن القضاء على عدد قليل من كبار زعماء حماس وقتل مقاتليها على حساب التسبب في معاناة إنسانية شديدة من شأنه أن ينهي مشاكلها الأمنية.
تدمير حماس قد يكون مستحيلاً ولكن لو تحقق فإن البديل أخطر على إسرائيل وقد يمثل مشكلة للعالم
ورغم أنه من الواضح أن هدف تدمير حماس بعيد المنال تماماً، وقد لا يتحقق في الأغلب، فإن الموقع الأمريكي يفترض أنه حتى لو تمكنت إسرائيل ومؤيدوها من الولايات المتحدة من تدمير حماس، كما يقولون، فإنهم سيواجهون نفس المشاكل بالضبط من جماعة أو أكثر تحمل اسماً أو أسماء مختلفة، ولكن بنفس النهج القائم على الكفاح المسلح.
وما يتجاهله الغرب بما في ذلك تقرير الموقع الأمريكي، أن حماس حركة تحرر وطني عقلانية، وأنها بقدر ما أثبتت فاعلية وكفاءة في محاربة إسرائيل فاقت الجيوش العربية وقوى مثل حزب الله، ولكنها أيضاً رشدت النضال الوطني الفلسطيني، عبر عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية مثلما فعلت منظمة التحرير الفلسطينية في الأردن ولبنان، كما أن حماس حصرت صراعها مع إسرائيل داخل حدود فلسطين التاريخية، ولم تقم بأي عملية أو تحرك حتى بسيط في أي دولة خارجية، رغم تصنيفها كتنظيم إرهابي في الدول الغربية، والحقيقة أن ذلك جعلها تلقى احتراماً دولياً، وجعل أغلب دول العالم ترفض تصنيفها كحركة إرهابية كما يريد الغرب، بل إن دولاً كبرى ومهمة مثل روسيا، وتركيا ومصر وماليزيا تتعامل معها، علماً بأن بعض الحركات اليسارية الفلسطينية نفذت عمليات داخل بعض البلدان العربية والأوروبية.
وحماس غير مدرجة في قائمة الجماعات الإرهابية التي حددتها الأمم المتحدة، ورفض مجلس الأمن والأمم المتحدة مراراً، دعوات أمريكية لإدانة هجمات حماس ضد إسرائيل دون شجب الأخيرة، بل إن دولة أوروبية لها تاريخ عريق في العمل الإنساني مثل النرويج لا تدرج حماس ضمن المنظمات الإرهابية.
كما أن حماس أثبتت دوماً بقدر ما هي حركة صعبة المراس في القتال، والتفاوض فإنها تلتزم بما اتفق عليه وقادرة على إلزام الفصائل الفلسطينية الأخرى على تنفيذه، وسبق أن أشاد الرئيس الفلسطيني محمود عباس، عندما كان رئيساً للوزراء في عهد الرئيس الراحل ياسر عرفات بالتزام حماس باتفاقات وقف إطلاق النار التي تبرم بوساطته مع إسرائيل خلال انتفاضة الأقصى، بينما كانت كتائب شهداء الأقصى التابعة لفتح والجهاد أقل التزاماً وانضباطاً.
بالتالي لو فرض أن تمكن نتنياهو من تحقيق حلمه بـ"تدمير حماس" كجماعة متماسكة، ومع الغضب الذي تسببه جرائمه في غزة، فإن بديل حماس قد يكون مجموعات متطرفة غير عقلانية، خاصة أن هناك وجوداً للسلفية الجهادية في غزة.
حماس أبقت السلفية الجهادية تحت السيطرة ومنعتهم من إقامة إمارة بغزة
وباعتبارها اللاعب الأقوى في غزة، تمكنت حماس منذ فترة طويلة من إبقاء الجهاديين السلفيين تحت السيطرة ومراقبة العديد من الفصائل المسلحة الأخرى للحفاظ على القانون والنظام.
وأظهرت حماس أنها يمكن أن تلجأ للقوة لمواجهة أي محاولة لإقامة إمارة سلفية بغزة مثلما فعلت مع عبد اللطيف موسى زعيم جماعة سلفية تدعى "جند أنصار الله"، أعلنت قيام إمارة إسلامية بغزة عام 2009.
فإخراج حماس من المعادلة، يهدد بإغراق غزة في حالة من الفوضى المطولة، نظراً للافتقار المستمر إلى أي خطة قابلة للتطبيق لمرحلة ما بعد الصراع، والدور المهم الذي تلعبه حماس في مجال الحكم والأمن في مختلف أنحاء قطاع غزة.
لا وقف إطلاق نار دون حماس التي تمثل حائط صد ضد اختراق داعش للقضية الفلسطينية
وبدون قيام حماس بتطويق مقاتلي القطاع للتوصل إلى اتفاق آخر لوقف إطلاق النار، فإن إسرائيل تخاطر بالتورط في معركة طويلة الأمد دون وجود إستراتيجية خروج واضحة -وهو بالضبط ما تريد تجنبه، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The Times البريطانية.
ومن شأن أي مقاومة خارجة عن سيطرة حماس أن تؤدي أيضاً إلى تعقيد الخطط الدولية لدفع المسار السياسي لتحقيق الاستقرار في غزة وإعادة السلطة الفلسطينية إلى السلطة.
وكما حدث في أعقاب سقوط نظام البعث بزعامة صدام حسين في العراق، فإن فصائل أخرى، وبعضها أكثر تطرفاً، سوف تستغل الفراغ الأمني لتعزيز مواقفها، ويجب تذكر أن داعش قد ظهرت نتيجة الغزو الأمريكي للعراق.
والمفارقة أنه بينما انتشرت داعش في بقاع العالم الإسلامي خاصة المضطربة وتوغلت حتى بين المغتربين العرب بل والمسلمين الغربيين الجدد، فإنها تقريباً لم تجد طريقاً إلى فلسطين، بفضل دور حماس وحركات التحرر الفلسطيني الأخرى، التي تقدم خطاباً وطنياً ودينيا، صلباً، ولكن مرناً، ولا ينزع للتطرف (لكن داعش وجدت طريقاً للمخيمات الفلسطينية في سوريا ولبنان حيث يتضاءل نفوذ حماس والجهاد).
فحماس تصدت بقوة لداعش وأشباهها، في غزة، وكذلك دارت بين مجموعات مقربة من حماس في سوريا، مثل جماعة أكناف بيت المقدس وبين داعش معارك ضارية، ويجب تذكر أن فلول داعش ما زالت تحوم في سيناء المصرية، وبالتالي حماس تمثل في الحقيقة حائط صد منيعاً أمام محاولة داعش لغرس أفكارها الوحشية في التربة الفلسطينية لتمتزج مع الغضب الفلسطيني من المظلومية التي تعرض لها هذا الشعب، والتي تضاعفت أضعافاً مضاعفة خلال الحرب الحالية.
تشير جميع الأدلة بوضوح تام إلى أن محاولة تدمير حماس سوف تؤدي إما إلى تقويتها أو إيجاد بديل أقل عقلانية ويصعب التفاوض معه.
ولذا يقول موقع Responsible Statecraft: "هذا يعني أن الحل الحقيقي الوحيد هو التسوية السياسية طويلة الأمد التي يرفضها المسؤولون الإسرائيليون ويفتخر نتنياهو الآن بأنه عرقلها لعقود من الزمن".