بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 وضع جيش الاحتلال الإسرائيلي خططاً لغزو قطاع غزة وأهدافاً كبيرة مثل "تدمير حركة حماس بالكامل"، وعلى هذا النحو بدأ الغزو العسكري من عدة محاور، لكن بعد نحو 80 يوماً لم يحقق الجيش الإسرائيلي أياً من أهدافه بعد، مثل تحرير الأسرى لدى حماس والفصائل الأخرى، أو وقف إطلاق الصواريخ على المدن والبلدات، أو حتى تدمير المقاومة نفسها.
وحماس ليس لديها "جيش" بكل معنى الكلمة، لكن الذراع العسكرية لها "كتائب القسام" تتألف إلى حد معقول من آلاف المقاتلين الفدائيين جيدي التنظيم (وذوي تمويل لا بأس به). وهنا، الجيش الإسرائيلي لا يخوض حرباً مضادة لحماس، فمن الأفضل أن نفهم أن ما تفعله إسرائيل هو "حرب احتلال" لقطاع غزة، كما يقول موقع responsible statecraft الأمريكي.
"إسرائيل تخوض حرب احتلال"
غادر الاحتلال الإسرائيلي قطاع غزة عام 2005، والآن يحاول العودة له كمحتل فعلي. ولا يعني هذا التوصيف أن الجيش الإسرائيلي سيبقى في غزة على المدى الطويل. قد يفعلون، وقد لا يفعلون. ويقول موقع responsible statecraft إن وصف "حرب احتلال" هو مناسب للوضع العسكري الصعب والخطير الذي يواجهه الجيش الإسرائيلي اليوم في غزة، وليس "مكافحة التمرد" كما تقول حكومة نتنياهو.
لأن هذه الحالة من الحروب من الصعب التعرف على "المتمردين" أو المسلحين بين الناس، الذين ربما يتمتعون بدعم السكان المحليين. ومهما كان ميول السكان السياسية، فإن المحتلين يعتقدون أن القوات الأجنبية الغازية يجب أن تعود إلى حيث أتت. وقد لا يكون المدنيون مقاتلين نشطين، ولكن من المرجح أن يقدموا المساعدة للمقاومين على أسس وطنية مثلاً.
ومن هذا المنطلق، فإن حروب الاحتلال -التي يطلق عليها قوى الاحتلال في كثير من الأحيان اسم "حروب مكافحة التمرد"- كانت شائعة وقاتلة في العصر الحديث. ولا يحتاج المرء إلا أن يتذكر البريطانيين في ماليزيا، والأمريكيين في فيتنام، والفرنسيين في الجزائر، والسوفييت في أفغانستان، والأمريكيين في العراق وأفغانستان. وفي هذه الحالات، كان من الصعب التعرف على المقاومين، ولكن -وهو أمر مهم للغاية- كان الكثير من السكان المحليين مُعادين لقوات الاحتلال، وهذا الوضع جعل العمليات العسكرية أكثر صعوبة، وجعل في النهاية الجيوش الغازية تخسر معاركها في كل مرة، كما يقول الموقع الأمريكي.
حروب الاحتلال لا يمكن الفوز بها.. فيتنام مثالاً
إن أفضل مثال على حرب الاحتلال التي يعرفها الأمريكيون جيداً هو غزو فيتنام، وهي حرب توضح مدى صعوبة خوض مثل هذه المعارك، ناهيك عن الفوز بها. منذ البداية، قالت الولايات المتحدة إنها تخوض حرباً لـ"مكافحة التمرد في فيتنام الجنوبية"، وإن هذه الحرب "نوع مختلف" كما أطلق عليها البنتاغون والإدارات الرئاسية المتعاقبة.
ولم تغزُ الولايات المتحدة فيتنام الشمالية، وقالت إنها لم تأتِ لتغزو فيتنام الجنوبية. لكن ما فعلته واشنطن هو أنها غزت فيتنام، حيث أرسلت الولايات المتحدة 2.6 مليون عسكري إلى فيتنام الجنوبية على مدار الحرب، وفي ذروة العمليات كان هناك أكثر من نصف مليون جندي أمريكي في فيتنام، جاؤوا ليحتلوا بشكل أساسي جزءاً كبيراً من فيتنام الجنوبية.
ويقول الموقع الأمريكي إن أحد الأماكن التي احتلتها الولايات المتحدة كانت مقاطعة كوانج نجاي على الساحل الشمالي الشرقي لفيتنام الجنوبية، المكان الذي وقعت فيه مذبحة ماي لاي في 16 مارس/آذار 1968 التي جمع فيها الجيش الأمريكي القرويين العُزل وقام بإضرام النار في بيوتهم وقتل كافة السكان، ولقي ما بين 300 و500 فيتنامي مدني مصرعهم في هذه المجزرة.
في هذه الحادثة، قامت القوات البرية الأمريكية في كوانج نجاي بمطاردة الفيتكونج، "المتمردين" في نظرية "حروب مكافحة التمرد". لكنهم واجهوا أيضاً سكاناً من الفيتناميين الجنوبيين الذين كانوا مُعادين بشدة للأمريكيين. ويقول الجيش الأمريكي إن السكان المحليين قاموا بالقنص عليهم، وزرعوا الأفخاخ المتفجرة والألغام، ودعموا المقاومة المناهضة لأمريكا.
أدركت القوات الأمريكية عداء السكان الفيتناميين في كوانج نجاي، وفي أعقاب مذبحة ماي لاي، أجرى الجيش الأمريكي تحقيقاً لمعرفة "الخطأ" الذي حدث في استراتيجيتهم لـ"مكافحة التمرد". وسأل المحققون الجناة عن سبب قتلهم المدنيين، وكثيراً ما رد الجنود بالقول إنهم لا يعرفون أنهم "مدنيون".
كان الفيتناميون في كوانج نجاي، كما زعمت القوات الأمريكية، جميعهم "متعاطفين مع المقاومة" وبالتالي خطرين. ومن المهم أن ندرك أن الجنود الأمريكيين كانوا يقولون "إن جميع المدنيين كانوا يشكلون تهديداً محتملاً علينا".
لا أحد يفضّل الاحتلال أو يحب أن يتم غزو أرضه
وفي غزة، يجد الجيش الإسرائيلي نفسه في وضع مماثل لما يواجهه الجيش الأمريكي في مقاطعة كوانج نجاي. ويتواجد الإسرائيليون هناك اسمياً في مهمة لـ"مكافحة التمرد". ولكن في الواقع، لقد احتلوا غزة وارتكبوا مجازر بها ضد المدنيين. وكما أن حماس لا تريد وجود جيش الاحتلال هناك، فسكان غزة الذين يعانون تحت وطأة هجوم الجيش الإسرائيلي لا يريدون وجود الاحتلال. بالتالي لا توجد مبالغة عند القول إن سكان غزة يكرهون الجيش الإسرائيلي. وذلك لأن الاحتلال والغزو لم يكونا ليحسّنا وضع الفلسطينيين بالتأكيد، على عكس ما يروج له بعض الإسرائيليين.
وبحسب استطلاعات رأي محلية أجريت مؤخراً، فقد ارتفعت شعبية حماس بين الفلسطينيين، الذين يرى معظمهم أن حماس كانت "على حق" في مهاجمة إسرائيل في السابع من أكتوبر. وقال جميع الذين شملهم الاستطلاع تقريباً -97%- إن الإسرائيليين يرتكبون جرائم حرب في غزة.
هذه هي الحقيقة، وجود سكان مُعادين للاحتلال بشكل موحد تقريباً، يجعل العمليات العسكرية للجيش الإسرائيلي صعبة للغاية ومستحيل الفوز بها. وبحسب وجهة النظر الرسمية الأمريكية، يتعين على القوات الإسرائيلية أن تحارب حماس، ولكن يتعين عليها أيضاً أن تشعر بالقلق إزاء المدنيين الفلسطينيين المعادين الذين يعيشون تحت احتلال الجيش الإسرائيلي. إن مخاطر القيام بعمليات عسكرية في مثل هذا السياق عديدة، ولكن الأهم هو أن الجيش الإسرائيلي سينظر إلى سكان غزة المعادين له على أنهم "متعاطفون مع حماس" مع نتائج مأساوية.
ويقول الموقع الأمريكي إن المخاطر الكامنة في "حرب الاحتلال" تجلت بوضوح في 15 كانون الأول/ديسمبر عندما قتل الجيش الإسرائيلي ثلاثة رهائن إسرائيليين في مدينة غزة. ووفقاً للجيش الإسرائيلي، فإن القوات الإسرائيلية "حددت عن طريق الخطأ ثلاثة رهائن إسرائيليين على أنهم يشكلون تهديداً"، على الرغم من أنهم كانوا غير مسلحين وكانوا يلوّحون بالعلم الأبيض، وقتلتهم.
ومضى الجيش الإسرائيلي ليوضح أن "عمليات القتل انتهكت قواعد الاشتباك الإسرائيلية". بالطبع فعلوا ذلك، ولكن هذا يغفل النقطة الأساسية: من وجهة نظر القوات البرية الإسرائيلية، فإن جميع سكان غزة، بغض النظر عن مدى براءتهم، يُنظر إليهم على أنهم يشكلون تهديداً. وينطبق هذا بشكل خاص على الذكور من مختلف الأعمار، وجميع الرهائن الإسرائيليين الثلاثة المقتولين كانوا من الذكور في سن الخدمة العسكرية.
تاريخياً، لم تنتهِ حروب الاحتلال بشكل جيد بالنسبة للمحتلين. عادةً، يعاني المدنيون المعادون الذين تعتبرهم قوة الاحتلال "متعاطفين"، معاناة هائلة. وتغادر قوة الاحتلال مهزومة. وكان هذا هو الحال في الجزائر وفيتنام (مرتين) وأفغانستان (مرتين). ويجب أن يدرك الجيش الإسرائيلي هذه الحقيقة جيداً، حيث خاض حرب احتلال في جنوب لبنان وخسرها بشكل متقطع في الفترة من عام 1982 إلى عام 2000. لكن يتعين علينا أن نرى، هل تعلم الإسرائيليون حقاً هذا الدرس؟ حتى لا يبدو كذلك.