في الكهوف رسم الإنسان الحجري عن صراعه مع الوحوش، الصراع الذي سيكون رافداً للأسطورة والحكايا البشرية. يُطرح هنا سؤال حول قيمة الفن، وما أهميته في حياة البشر؟ ولماذا هو حاضر بشكل مبكر في تاريخ الإنسان وربما قبل التأريخ وولادة حضاراته؟ تحاول الفلسفات أن تبرر وجوده المؤكد باضطراب العلاقة بين الذات والموضوع، وعن الاغتراب كإعادة إنتاج الرؤية الدينية عن الإنسان المطرود من الجنة، المغترب في أرض التيه.
أبناء الجنة الذين قيدتهم الطبيعة عن سمو الروح فصاروا يستجدون العلياء في عالم الخيال، الخيال الذي سيشكل عالمنا من سياسة واقتصاد وحتى العادات اليومية، الذي يفتح أفقاً ويغلق آخر، عالم الإنسان اللامادي والذي يتجلى ويتجسد، أو العكس عالم المادة الذي يتجرد ويتحول إلى فكرة.
هكذا هو الفن يعبّر عن علاقة تبادلية، يشكل عالمنا ونشكله، فلا تدري من الذي ابتدأ، لا تدري هل عصفور الشمس الفلسطيني رمز فلسطيني أم جرى ترميزه، أضيف له المعنى وحُمل بأكثر من تشريح جسده الحيوي والوظيفي، ليضاف إلى حياته البيولوجية حياة حيوية أخرى، حياة الرمز والأيقونة محملة بالمعنى والكثافة، وفتارة تحسبه رمزاً منذ أن كانت فلسطين في العصور الجيولوجية الغابرة، أم أننا منحناه الآن معناً بنضال التحرير ليصير له حياة أخرى تحمل كل معاني فلسطين؟!
إلى أين؟.. فلسطين أم البدايات
بعمر الثامنة عشرة يخرج ابن اللد من أرضه مهجراً إلى الضفة، مع أسرته وأخيه الصغير "توفيق"، تتراءى لهم اللد كالطيف تدنو وتبعد، أخوه يشكو العطش، لا ماء.. كربلاء، ويشتد بهم الجوع في ذلك الدرب الذي لا ينتهي، كل النهايات بداية لمأساة جديدة، كفلسطين كلما حسب أن الصبح اقترب، لاح كنجم الشعرى لا تناله إلا الأنظار، ولا يقضي منه وطراً سوى الشعر.
يشكو توفيق من أعراض نقص الماء، صعوبة في التنفس، وهبوط حاد، يحتضر يجرون يمنة ويسرة علهم ينقذونه بشربة ماء، يصيحون بصوت عباس، ويضربون الأرض كهاجر، وهيهات أن تحل المعجزات، يموت توفيق ليفجر روح الفن الفلسطيني، مانحاً حياته لشعب يحب الأغاني كثيراً، يحب الحياة.
وُلد الرسام إسماعيل شموط في مدينة اللد مارس/آذار 1930م، فرد من عشرة إخوة لبائع خضار، برزت موهبته قبيل النكبة على يدي داوود زلاطيمو الفنان الفلسطيني الذي اتخذ من اللد معرضاً فنياً لبعض رسوماته، وتردد عليها وهناك التقى إسماعيل شموط وتتلمذ على يديه.
هجر شموط إلى الضفة وفي الطريق توفي أخوه الأصغر، ليرتحلوا بعدها باتجاه غزة ليستقر في مخيم خان يونس، وهناك سينفذ أول معرض فني له في مدرسة 1949، فيشار إليه للدراسة الفنون الجميلة في القاهرة وبالفعل يذهب ليستأنف تعليمه هناك، ويعود عام 1953م ويفتتح أول معرض رسم في فلسطين ما بعد النكبة مع أخيه جميل، وفي العام التالي سيفتتح جمال عبد الناصر معرضاً له هو زميلته تمام الأكحل في القاهرة، سيتزوج من الفنانة تمام بعدها بخمسة أعوام.
يعتبر إسماعيل شموط رائد فن الرسم التشكيلي الفلسطيني، أسس مع آخرين اتحاد الفنانين التشكيليين الفلسطينيين وتولى أمانتها، وكذا تولى أمانة اتحاد التشكيليين العرب. وانضم إلى منظمة التحرير وأسس قسم الفنون فيها في ستينيات القرن الماضي.
تميز فنه في الخمسينات وحتى أوائل الستينات بتجسيد مأساة النكبة، طابع حزين اللون والنغم، فقد جسد رحلته إلى الضفة ثم غزة مهجراً من اللد في لوحة إلى أين؟، وجسد وفاة أخيه من العطش في لوحة "جرعة ماء".
مع بداية العمل المقاوم في الستينات ودّع البؤس شموط، ورسم للربيع وللغد الآتي، وانتهى بنكبة ثانية بعد معاناة المقاومة في أيلول الأسود وتل الزعتر وصولاً إلى اجتياح بيروت، ليعود لكآباته، قبل أن يودع ذلك كله لعالم الخيال والرومانسية، عن فلسطين الرمز لا عن الرسم المقاوم بالمواجهة والتحدي، بل الرسم المقاوم بإثبات الهوية والتركيز عليها.
توفي شموط في ألمانيا عام 2006، فيما نال العديد من الجوائز واحتفي به كرائد للفن التشكيلي الفلسطيني، وكذلك كنموذج حي بأعماله للتحولات النفسية والشعورية للفلسطيني؛ إذ شب شموط قُبيل النكبة، عاش في مدينة اللد، وزار القرى ويعرف عن فلسطين الانتداب وفلسطين النكبة الكثير.
ومعدنه ترابي ولكن جرت في لفظه لغة السماءِ
يحكي الرسام التشكيلي والنحات سليمان منصور في الثمانينات عن تحقيق إسرائيلي معه وفنانين آخرين لاستخدامهم ألوان علم فلسطين في لوحاتهم، وأصدروا لهم أمراً بألا يستخدموها مع بعضها في لوحة واحدة وإلا تعرضوا للأسر.
كانت جذوة المقاومة الشعبية تسري في الأجساد كالقشعريرة، من الجميل أن ندرك أن هذه القشعريرة ظهرت في الفن أولاً، وأدركتها إسرائيل مبكراً، فقومية المشروع الصهيوني الذي يقوم على العرق واليهودية والأرض ثلاثتهم لا تنفصل، ينفي أي وجود وامتداد بين الشعب الفلسطيني والكنعاني وأرضه، لذا جرى تدمير الهوية البصرية والمكانية لفلسطين بشكل متعمد وممنهج، كما أشار إلى ذلك إيلان بابيه في كتابه التطهير العرقي، حيث روج عالمياً لإسرائيل الخضراء، تلك التي تقتلع شجر الزيتون وتجلب مكانه غابات من الصنوبريات.
يحكي إيلان عن أن الصنوبريات مثل الشعب الأوروبي الذي زرع في أرض غير أرضه لم تتحمل تلك الشجرات البقاء في مناخ حار وجاف نسبياً فماتت تلك الأشجار، وحكي عن زيتون يشق شجر الصنوبر لنصفين متبرعماً من قلب اللحاء.
واللوحات كشجر الزيتون شقت سردية جلاب الصنوبر عن أرض بلا شعب أو بشكل أدق بلا هوية، كان أبرز هؤلاء الفنانين سليمان منصور، الذي بلغ العالمية برسمته العتال الفلسطيني الذي يحمل الوطن كاملاً على ظهرة المسماة "جمل المحامل"، وجمل المحامل هو الذي يحمل البضائع والشخصين، أي الجمل المتين القوي، وقيل عن وصف الرجل بجمل محمل أو جمل ذي قبة، أي إنه يحفظ الحديث ولا ينساه ولا يتغير عنده لطول الزمن، وهكذا هي لوحة سليمان منصور التي صارت أيقونية عن الفلسطيني الذي لا ينسى ولا يتغير لون أو طعم الذكرى في مخيلته… عن فلسطين المفتاح الذي لا يصدأ.
كان الرسم حاضراً في دحض أحقية الصهيوني بالأرض، وتفكيك سرديته، كما كان فعلاً مقاوماً بالتقاط أيقونات تفكك الأكاذيب الإسرائيلية، في عام 1976م قتلت إسرائيل الطالبة لينا النابلسي بعد مشاركتها في مظاهرة وهي عائدة من المدرسة، تُركت لينا على الأرض لتنزف، التقطت العدسات ذلك المشهد، حاربت إسرائيل ذلك المحتوى ومنعته من الظهور، التقط سليمان منصور مشهد الإعدام الميداني للطفلة، لتصبح صورة أيقونية شاهدة على جرائم الاحتلال.
بعد سنين سوف أكتشف أن حضور القرية في وجداني ومخيلتي الأدبية والشعرية أقوى بكثير مما يتوقع من شخص لم يكن يزورها إلا في المناسبات السنوية القليلة. ولعل ذلك لأن حضورها مقترن بحضور فلسطين ورموز الأرض الشاخصة في شواهدها الطبيعية الريفية. فالفلسطيني يقرأ هويته على جذوع السنديان والبلوط والزيتون القديم، ويستمع إلى صوتها في مزامير الرعاة وأغاني الحصادين وصياح الديكة وصهيل الخيول، ويشتم رائحتها في معاصر الزيتون ودخان الطواحين وأزهار النرجس، ويتذوق طعمها في "المسخن" والزعتر الجبلي والنعناع البري.
وليد سيف .. شاهد ومشهود
هكذا كان الفن كشجر الزيتون في لوحات الفنانين التشكيليين الفلسطينيين في الثمانينات، ومع بزوغ فجر الانتفاضة الأولى، قرر الفنانون الفلسطينيون التخلي عن الألوان الزيتية؛ لأنها تأتي عبر الاحتلال واستخدام مواد الأرض كالنبت الأخضر، والتراب.
ساهم منصور في اختيار رموز للهوية الفلسطينية بل بلورتها، كان من ذلك عصفور الشمس الفلسطيني، حيث اعتبره رمزاً للحرية الفلسطينية، والانفكاك من الاحتلال والرقابة الدائمة، يستخدمها فنانون آخرون مثل لوحة عصفور الشمس لإسماعيل شموط.
الهوية في الأسر
في عام 1984 تعرض الفنان التشكيلي فتحي غبن للأسر وذلك جراء لوحة الهوية، التي استخدم فيها ألوان العلم الفلسطيني، وجسد الغضب الشعبي في هيئة حصان يعلو إلى السماء، هذه فلسطين التي ستبنى بالغضب والثورة، كان ذلك تعبيراً عن شيء ما يختلج في الصدر، وبدأ يتشكل عبر عن نفسه عبر الفن واللوحات، قبل أن ينطلق طوفاناً في الانتفاضة الأولى.
فهمت إسرائيل اللوحة مما دعاها لاعتقال الفنان فتحي غبن، والذي لم يكمل تعليمه بسبب الفقر، لكنها امتلك أسلوباً رائداً يختلف عن رسامي فلسطين، وهو الاهتمام العميق باللون وإيلاؤه اهتماما مبالغاً فيه، ظهر ذلك في لوحته التي جسد فيها معركة "عين جالوت" والتي عمل عليها لأربع سنوات متواصلة.
مثلت الهوية الفلسطينية هذه المرة في مزيج الألوان الذي تطور مع تطور الفنان، وأخذ أبعاداً فنية تكاد تتجاوز فلسطين بقدر مع تحافظ على هويتها والتي ستجدها حاضرة في جميع أعماله إما تاريخاً وإما لوناً أو ترميزاً لعالم يدور في الخيال أو ربما الوجدان كما في الهوية، فلسطين هنا دائماً وأبداً.
الناصرة: مكونات القومية الفلسطينية
تعتبر لوحات الفنان التشكيلي نبيل العناني هي أوضح الأعمال الفنية التي تعبر عن مكونات الهوية الوطنية الفلسطينية، حيث تحضر المرأة كممثلة لفلسطين، ذات مسحة مسيحية نسبة لمريم العذراء عليها السلام، وللمسيح ابن الناصرة في فن نبيل.
وبين ذلك العالم يحضر الإسلام بتاريخه وتراثه، ففي لوحة الرؤية سنجد فلسطين المرأة، مؤطرة بشعر المتنبي "تجري الرياح بما لا تشتهي السفن" تشير لتراث الإسلام، وبجوارها قصيدة "مديح الظل العالي لمحمود درويش" التي تجسد ارتباط اليوم بالأمس، ومن ورائهما أرض فلسطين التي احتضنت ذلك كله عبر التاريخ، وفي اللحظة الحالية، الأرض حاضرة بالبيوت الريفية وشجر الزيتون الرمز، على مروج مدرجة كمرج بني عامر وقراه.
كذا سنجد لوحاته كلها تركز على الأرض والثقافات التي شكلت القومية الفلسطينية تاريخياً، وربطها ببعضها بعضاً، فجاءت لوحاته الأكثر تعبيراً عن مكونات القومية الفلسطينية، وإبرازها إذ لم يكن تشكيلها وبلورتها لتخلد في الأذهان، وتتحول فلسطين الخيال إلى فلسطين الحقيقة الكاملة، ليس في نزف الحبر وتضرج ريشة الرسام بألوان العلم الحمراء.
إن كل رمز لفلسطين وتعبيراً عنها ليس كصورة فوتوغرافية عنها، وإنما هو ترميز لها وتحميلها بالمعاني، فتحولت شجرة الزيتون تعبيراً عن سكان الأرض الأصليين، وعصفور الشمس الفلسطيني عن الحرية من الاحتلال، الحصان الغاضب عن الانتفاضة التي تشتعل في نفس كل فلسطيني، والألوان تأخذك إلى مروج الأرض المقدسة، وهكذا حتى تزدحم الصورة الواحدة بالمعاني، بل يزدحم الرمز الواحد حتى في اسمه كجمل المحامل، الذي لا ينسى فلسطين ولن يبدل.