لم يسلم سوق القيسارية الممتد تاريخه لـ500 سنة من قصف العدوان الإسرائيلي المستمر على قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر 2023، يأتي ذلك في إطار خطة محكمة من قِبل إسرائيل "لاقتلاع التاريخ الفلسطيني"، والقضاء على تراث المدينة العريقة الذي يتفوق بعقود طويلة على تاريخ دولة الاحتلال، المقامة على أنقاض فلسطين التاريخية إبان النكبة في العام 1948.
جذور تسمية سوق القيسارية
بحسب معجم دمشق التاريخي– قتيبة الشهابي صدر: 1420هـ/1999م- تُطلق تسمية القيسارية، اليونانية الأصل، وجمعها قياسر وقيساريات على الأسواق المغطاة بأروقة، والمحاطة بصحن مكشوف تلفّه الدكاكين والعطارات، كما تضم بعض القيسريات أماكن لإيواء عابري السبيل.
القيسارية على طراز العمارة الإسلامية
كان شكل "القيسارية" في العصور الإسلامية اللاحقة عبارة عن شوارع تجارية في قلب المدن القديمة، تحميها أبواب خارجية، وتضم عدداً من الحوانيت، وكانت كل قيسارية مستقلة بذاتها عن القيسرية التي تحاذيها، ويمكن أن تأخذ شكلاً مستطيلاً أو مربعاً، فيها تصطف الدكاكين، ويعلوها طابق لسكن التجار، وأحياناً يكون أعلاها مسجد، تمارس حرفاً تراثية مثل الحدادة والنجارة والخط العربي وإصلاح الأحذية، والدباغة وغيرها..
سوق القيسارية عبر الحضارات
يقع سوق القيسارية أقدم أسواق مدينة غزة الأثرية تحديداً في حي الدرج بالبلدة القديمة، ويرجّح أغلب المؤرخين أن تاريخ إنشائه يرجع إلى العصر المملوكي (1260-1517م)، أو علّه يكون آخر الآثار الباقية منه، علماً أنه لا يمكن تحديد تاريخ دقيق لإنشاء هذا السوق لعدم احتوائه على لوحة تأسيسية تؤرخ له.
القيسارية في العهد الروماني
وفقاً لمدير العلاقات العامة والإعلام في وزارة السياحة والآثار، طارق العف، تعد القيسارية "أحد أشكال المنشآت التجارية الحرفية الصناعية، التي ذاع صيتها في العهد الروماني، تحديداً في حقبة القيصر الروماني أغسطس قيصر، الذي توسعت في عهده تجارة الحرير الطبيعي الآتية من الصين عبر طريق الحرير، التي أقيمت في عهد سلالة "هان" الصينية، وكانت تربط مناطق العالم القديم تجارياً منذ عام (130 ق.م.) وحتى عام (1453م)، عندما أنهت الإمبراطورية العثمانية التجارة مع الغرب وأغلقت الطرق، وقد كانت غزة تقع على شبكة طريق الحرير التجارية القديمة، ما أهّلها لأن تكون من المدن الرائجة في تجارة الذهب.
وقد كتب المؤرخون والرحالون والجغرافيون المسلمون عن هذه المدن منذ القرن الثالث الهجري، على غرار ابن عبد الحكم، وابن حوقل، والبكري.. وغيرهم ممن وصلتنا آثارهم، لاحظوا هذه الحقيقة الحضارية بدقة أثناء مرورهم بها.
القيسارية سوق الذهب
يُطلق العامة تسمية "سوق الذهب" على القيسارية لامتلائه بدكاكين تتاجر بالذهب، ويتردد أن قاضي غزة الشيخ شمس الدين زنكي الحمصي أمر بصقله في عام 1476م، كما يشاع أنه في بدايته كان عبارة عن تجمع لعدد من التجار يأتون إليه من عدة مناطق عبر الخيل، ليضعوها في الأماكن التي أصبحت فيما بعد دكاكين مختصة في صناعة الأحذية والجلود، ثم محلات الذهب.
وأثناء حكم المماليك في فلسطين كان القيسارية جزءاً من السوق الكبير، بيد أنه تم تدمير معظم المنطقة من قِبل الجيش البريطاني خلال الحرب العالمية الأولى.
وقبل الخمسينيات كان الناس والتجار يشترون الذهب من مصر، في حين كانت صناعة الذهب في غزة لا تزال مقتصرةً على "الخاتم والحلق"، ولم تزدهر تجارة الذهب في غزة سوى خلال السبعينيات، مع بدء العمل داخل الأراضي المحتلة سنة 1948، حيث كان العمال يشترون الذهب لادخاره كـ"ملاذ آمن".
كان العديد من تجار الذهب الفلسطينيين في تلك الفترة يسافرون إلى إيطاليا، وأحضروا ماكينات متطورة وبدأوا بصنع أساور "الحية" (قلادة)، المعروفة بأسورة مهر العروس آنذاك، حين كان سعر غرام الذهب من 5 إلى 7 دنانير.
بعد 1993 أنشئت مديرية للذهب، بهدف المحافظة على قيمة وجودة الذهب، بأن يكون العيار سليماً 100%. وفي أواخر التسعينيات ألزمت المديرية الصائغين بعمل فحص لديها وختمه للتأكد من العيار، ويمكن القول إن صناعة الذهب في غزة صارت طبق المواصفات العالمية.
عمارة القيسارية
تعلو البوابة الغربية لمدخل السوق قباب دائرية، تمتد عبر ممر حجري، مضاءة بواجهات لامعة، عند دخولك للسوق سوف تقابلك دكاكين صغيرة متراصّة، قد يبلغ عددها العشرين، وبين المحلات توجد ممرات ضيقة لا تسع أكثر من شخصين، حتى تصل على بعد 100 متر من المسير إلى نهاية السوق والباب الغربي الذي كان يُغلق فيما مضى.
القيسارية نبض حياة المدن
من مميزات اعتماد القيسارية التخطيط لعمارة المدن، إنه يمنح المنطقة المحيطة بالمساجد الكبرى في المدن الإسلامية حركة تجارية واجتماعية.
وفي القيسرية تُباع الأثواب وأواني الفضة والنحاس التقليدية والزرابي، كما تحتوي على تحفٍ قديمة وقطع أثرية وعطور متنوعة.
ولا تزال جوامع كعقبة بن نافع في القيروان بتونس، ومسجد عمرو بن العاص في مدينة الفسطاط، والجامع الأموي بدمشق، والمسجد الأعظم بقرطبة، ومسجدي المولى إدريس والقرويين بالمغرب، محاطةً إلى اليوم بالقيسريات التي تدور حولها حركية الحياة الاقتصادية.
ترميم القيسارية
جراء التغييرات التي أحدثها مُلاك ومستأجرو المحلات التجارية، حيث كانوا يقومون بطمس جدرانها الأصلية بمواد الإسمنت الأسود والرخام والجرانيت، تشوهت معالم السوق الأثرية، وزاد الأمر سوءاً تحديثه بديكورات هجينة على عمارته، وهو ما يبدو جلياً للوهلة الأولى عند دخول السوق.
ويُذكر أن الكلية الجامعية في غزة شرعت سنة 2021 بترميم وتطوير سوق القيسارية، بهدف الحفاظ على المكان الأثري المهدد بالاندثار.