يمثل هنري كيسنجر (1923-2023) شخصيةً استثنائية ومثيرة للانتباه من جوانب عدة، منها سيرته الذاتية المهنية الحافلة بالأحداث، ورُؤاه السياسية اللافتة، وتجاربه المتعددة في دول عدة، وإدارته للكثير من الملفات، فهو السياسي والدبلوماسي والخبير الاستشاري الجيوسياسي، والمنظِّر ذائع الصيت.
ليس هذا المقال تعداداً لمناقبه، أبداً، وإنما هو رأي متأسس على الواقعية السياسية التي مارسها الرجل طيلة حياته، ودون شك قد نتفق أو نختلف في تقييم مسيرته بين المبدئية والبراغماتية، وبين السياسة المراوِغة أو المتجرِّدة من إنسانيتها، وبين النكران الجاحد لحق أهلنا في فلسطين والانحياز المطلق للفكرة الصهيونية، وبين نجاحه في إيجاد موقع له لم يستطع أحد أن يدانيه، وليس بعيداً عن كل ذلك تحديد مستوى الجودة فيما قدَّم وكتب ونظَّر له.
لكن وباختصار لا نرى مواقف الرجل غريبة، ليس تبريراً، ولكن توضيحاً، ذلك أنه كان معبراً بشكل متطابق جداً مع مرجعيته الفكرية التي ينتمي لها، فهو ابن منظومته الغربية المتسلطة والمتخادمة مع الفكرة الصهيونية المتوحشة، والساعية دوماً ودون كلل أو ملل مع تنوع الأساليب إلى إخضاع العالم العربي والإسلامي وتفتيته. أما حسم الأمر من قِبل البعض بوصمه بالعمالة والوحشية و.. و.. إلخ فهو يفقد الفرصة للانتفاع منه ومن تجربته وفق منظورنا وحاجتنا.
وعموماً ليس هذا موضوعنا، فقد شعرت وأنا أتلقَّى خبر وفاة كيسنجر وأراجع سيرته بحاجتنا الماسّة إلى أمثاله في واقعنا العربي والإسلامي، إلى كيسنجر الخاص بنّا، والذي يتسم بالنظر الثاقب، والتخطيط المتقن، والسعي المحموم لإنزال الأفكار على أرض الواقع، مع الانحياز الصادق والالتزام الصارم بهوية الأمة وقضاياها العادلة.
كم نحن بحاجة إلى من يرسم لنا مساراتنا، ويضع التصورات المستقبلية، ويستشرف ملامح الغد القادم، يقول لنا كيف نكون خيرَ أمة كما أرادنا الله تعالى، وكيف نحافظ على تلك الخيرية، وكيف نخوض معركة الوجود ونحمي مشروع النهضة القادمة.
ويرسم المحاور والخارطة كاملة، ويحدد موقعنا ومحورنا الأكثر فاعلية ونفعاً، ويرسم مشروع النفاذ الآمن من بين التحديات دون أن نغفل ذاتنا أو نخسر هويتنا أو نعرضها لخطر الاستئصال والمحو، فيكون مستشاراً أصيلاً وأميناً داخل منظومتنا الأصيلة، وذا كلمة مسموعة بدلاً من جيوش المطبلين الغرباء.
ويزوّد مكتبتنا- التي لا تزال معتمدة في هذا المجال على الفكر الغربي- بأدبيات عن النظام العالمي والموقع العربي والإسلامي فيه، وعن تحليل ماضينا ووضع خرائط الطريق لتصحيح حاضرنا، ويختم نتاجه بأن يقدم وصفته لكيفية استعادة زمام القوة، من أجل بثّ رسالة إعمار الأرض التي خرَّبها الأشرار.
ولا شك أن هناك الكثير من الكفاءات والمراكز في عالمنا، ولكنها بالعموم متناثرة في جهودها، محدودة في اهتماماتها، منفية عن مواقع القرار والتأثير فيه.
لا بد لنا ونحن ننشد ترميم حالنا من يهندس لنا بناءنا الجديد، ونحن للأسف الأكثر زهداً بعقولنا ومفكرينا، الذين نضيق عليهم ونحاربهم لحسابات مصلحية ضيقة، فمن يأتي بنا بعقل مثل كيسنجر ليعيد ترتيب أوراق الفاعلية والتقدم إلى الأمام؟!
وأخيراً ألسنا بحاجة إلى استذكار كيسنجر دوماً بمواقفه الحادة وانحيازه غير الموضوعي، ليس تشنيعاً كما يُفعل اليوم، ولكن ليحفزنا على الأقل من أجل امتلاك كل ما ذكرناه في أعلاه، ووضع أقدامنا- بدلاً من الإمعان في اللوم- على خارطة التأثير من جديد.
هذا كيسنجرهم.. فأين هو كيسنجرنا؟!
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.