أثار تصريح أحمد بنداري، رئيس غرفة عمليات متابعة الانتخابات الرئاسية في مصر، الذي ذكر فيه أن نسبة التصويت في انتخابات الرئاسة المصرية بلغت 45% من إجمالي الناخبين المقيدين في اليوم الثاني لها، حالة من الجدل حول حقيقة حجم هذه المشاركة في وقت أشارت فيه تقارير إعلامية إلى أن قطاعاً واسعاً من المصريين لا يهتم بهذه الانتخابات.
وبحسب ما ذكره بنداري، فإن هناك قرابة 30 مليون مصري قام بالتصويت في هذه الانتخابات التي انطلقت يوم الأحد 10 ديسمبر/كانون الأول 2023، وأن هذا الرقم "أكثر من المتوقع لدرجة نفاد بطاقات الاقتراع في بعض اللجان، وتم تزويدهم ببطاقات جديدة وصناديق إضافية"، على حد تعبيره.
لذلك قام "عربي بوست" في اليومين الثاني والثالث من الانتخابات، بجولة ميدانية على المقرات الانتخابية في بعض المحافظات رصد خلالها حجم المشاركة ومحاولة فهم حقيقة ما يحدث من اصطفاف طوابير طويلة من الناخبين المصريين أمام بعض مراكز الاقتراع قبل ساعتين من الموعد المحدد (من التاسعة صباحاً وحتى التاسعة مساءً).
كان من الواضح أن مشهد الزحام والإقبال من قبل الناخبين أمام بعض المقار الانتخابية لم يخلُ من رسالة سياسية للخارج قبل الداخل بأن المصريين يختارون رئيسهم بإرادة حرة من خلال انتخابات نزيهة. لكن خلف هذا المشهد كانت هناك تساؤلات عديدة عن حقيقة المشهد ومن يقف وراءه، وهل ذهب الناخب بإرادته أم مورس عليه ضغط من جهة ما؟
500 جنيه غرامة للمتخلفين عن التصويت بدون سبب
في منطقة الطوابق بحي الهرم في محافظة الجيزة، اصطف عدد من الناخبات أمام مدرسة الزهور الابتدائية للإدلاء بأصواتهن منذ الصباح الباكر. لكن أميرة، التي تعمل في مجال الشؤون القانونية بإحدى الوزارات السيادية، ظهرت عليها علامات التململ أثناء وقوفها، مبدية حالة من الاستياء.
عندما سألها "عربي بوست" عن موقفها، وافقت على التحدث بعد كثير من التردد، موضحة أنها جاءت لإبطال صوتها بعدما فقدت الأمل في التغيير، مؤكدة أن ما يحدث "تمثيلية هزلية".
وأضافت أميرة أنها كانت ستمتنع عن التصويت من الأساس، لكن "هناك تعليمات مشددة تلقيتها من مديري في العمل بأنه سيقابل ذلك بخصم جزء من الحوافز الشهرية"، على حد قولها.
وأوضحت المحامية أن الخصم لن يقف على الحوافز فقط، فهناك المادة 57 من قانون مباشرة الحقوق السياسية رقم 45 لسنة 2014، التي تتضمن نصاً بتوقيع غرامة قدرها 500 جنيه، كعقوبة لمن يتخلف عن الإدلاء بصوته في الانتخابات، وهو مفعل وسارٍ حتى الآن.
وكشفت المحامية عن أن الوزارة التي تعمل بها كانت تدرس كيفية تطبيق الغرامة على المقاطعين، وكل من يوجد اسمه بقاعدة بيانات الناخبين، وتخلف بغير عذر عن الإدلاء بصوته، وأن هناك توجهاً لتولي وزارة الداخلية تحصيل تلك الغرامات من المواطنين، على حد قولها.
الانتخابات الرئاسية والرشاوى
المشهد الانتخابي الذي رصدته "عربي بوست" لا يخلو بشكل واضح مما يسمى "الرشاوى الانتخابية". فقد فوجئ المدير المالي لأحد المراكز السياسية البحثية بمجرد خروجه من لجنته الانتخابية بمدرسة بلال المشتركة بمنطقة الشرابية بشبرا، بشخص يكتب على يديه رقم اللجنة التى أدلى بصوته فيها، ثم ذهب نحو أحد الضباط المسؤولين عن تأمين العملية الانتخابية، والذي طلب بطاقته ونظر فيها ثم اعتذر له وخاطب الشخص بأن يتركه ينصرف بعد مسح يده.
انتاب المدير الفضول، وعندما استفسر من أحد الناخبين عما حدث، علم أن الشخص يتبع حزب "مستقبل وطن"، ثم أشار له إلى خيمة وراء المقر الانتخابي، يذهب إليها الناخب بعد الإدلاء بصوته، وهناك "متعهد" يرى الرقم المكتوب على يد الناخب ويعطيه 200 جنيه.
ذهب المدير إلى الخيمة المنصوبة، لكن شعر بصدمة بسبب مشاجرات بالأيدي وألفاظ نابية بين ناخبين ومن يطلقون عليه "متعهد الانتخابات"، وهو المسؤول عن منح 200 جنيه المتفق عليها، إذ فوجئ الناخبون أن المتعهد يصرف لكل ناخب مئة جنيه فقط مبرراً نقض الاتفاق بأن كل يوم له سعر مختلف عما قبله.
من شبرا إلى حي الهرم التابع لمحافظة الجيزة، لم يختلف المشهد كثيراً. لكن هذه المرة كما قالت هناء في حديثها مع "عربي بوست" إنها أخذت ورقة بعد الإدلاء بصوتها كي تتسلم كيسي سكر من أحد المحال الاستهلاكية.
لكن عندما ذهبت هناء، ربة المنزل، إلى المكان وجدته مغلقاً وأمامه تجمهر عدد من الناخبين الذين جاءوا مثلها من أجل الحصول على السكر. علت الأصوات منددة بفضح ما يجري بعدما خدعهم متعهد حزب "مستقبل وطن".
يأتي هذا رغم تصريحات قالها عدد من المسؤولين نفت ذلك، إذ أعلن المستشار محمود فوزي، رئيس الحملة الرسمية للمرشح الرئاسي عبد الفتاح السيسي عدم رصد أي خروقات متعلقة بشراء الأصوات.
وبالمثل قال المستشار حازم بدوي رئيس الهيئة الوطنية للانتخابات، فيما قال ضياء رشوان، رئيس الهيئة العامة للاستعلامات في مصر، إن تقديم أموال أو سلع مقابل الأصوات يعد جريمة جنائية يعاقب عليها بالغرامة أو السجن، لكنه لم يشر إلى وجود مخالفات خلال عملية التصويت التي انتهت مساء الثلاثاء 12 ديسمبر/كانون الأول.
تجمهر من أجل الصورة المشرفة
كان من اللافت أيضاً في المشهد الانتخابي ما لاحظته "عربي بوست" من تكرار وجود نفس الأشخاص أمام أحد المراكز الانتخابية ليومين متتاليين. فعندما ذهبنا في اليوم الثالث، في محاولة لالتقاط بعض الصور، علم "عربي بوست" أن بعض الأشخاص المتجمهرين أمام اللجنة الانتخابية يعمل بمصلحة الضرائب العقارية، وهناك موظفون بدوائر حكومية، فضلاً عن موظفين بنقابة التجاريين وشركات تابعة للهيئة العامة للبترول.
وعندما استفسرنا من أحدهم عن سبب تواجدهم، أوضح أنه تم صرفهم مبكراً عن المواعيد الرسمية ليهتفوا أمام اللجان، على الرغم من أنهم أدلوا بصوتهم في لجان أخرى، والجميع رحب بذلك بسبب وجود أتوبيسات وميكروباصات تتبع أحد رجال الأعمال نقلتهم إلى المقر الانتخابي ووزعت عليهم أعلام الجمهورية وصوراً للرئيس السيسي.
لم يظهر على أحد الموظفين الذين تحدثوا إلى "عربي بوست" أي مشاعر سلبية تجاه هذا الأمر، قائلين إنها صورة مصر أمام العالم، و"لا بد من تكاتفنا لكي تكون صورة مشرفة لبلدنا"، على حد تعبير أحدهم.
انصرف الموظف بعدما نادى عليه زميل له ليتسلم وجبة طعام فاخرة من أحد المطاعم المصرية يتم توزيعها على الناخبين، واستطاع "عربي بوست" التقاط صورة لهم.
حديث الناخب عن صورة البلد والأمن والاستقرار تداولها الكثيرون، وفسرها ناشطون سياسيون بأن السلطات المصرية حريصة على إبراز صورة مشرفة لتلك الانتخابات وحثت الناس على التصويت باعتباره واجباً وطنياً، ودخلت دار الإفتاء المصرية على الخط بالرد على سؤال أحد المواطنين حول من لا يذهب للإدلاء بصوته في الانتخابات بأنه يكون آثماً لأنه كتم الشهادة.
وأضاف مصدر سياسي في أحد أحزاب المعارضة، أن الأهم من ذلك أن السلطات سمحت لمنظمات المجتمع المدني المحلية والأجنبية بمراقبة العملية الانتخابية، موضحاً أن الحكومة اهتمت بتصدير مشهد للشركاء الدوليين للتدليل على استقرار البلد وأن هناك التفافاً حول الرئيس الذي ينتخبه الشعب.
وأوضح أن هذا ظهر جلياً في توجيه دعوة رسمية من حزب المصريين الأحرار برئاسة الدكتور عصام خليل إلى وفد رفيع المستوى من سفارة الصين الشعبية لمتابعة الانتخابات الرئاسية من مقر غرفة العمليات المركزية؛ بمقر الحزب الرئيسي بحي مصر الجديدة.
الحشد لاسترداد صورة الشرعية المفقودة
مصدر أمني رفيع قال لـ"عربي بوست"، شريطة عدم ذكر اسمه، إن وجود حشد كبير يبرز ما تمثله تلك الانتخابات من أهمية، فبالرغم من أن النتيجة معروفة للجميع ومحسومة لصالح الرئيس السيسي إلا أن الحشد هو الأهم بالنسبة لشرعية قيادة النظام.
وكشف المصدر أن الأجهزة الأمنية كان لديها "تقارير" (لكنه تراجع عن الكلمة واستبدلها بـ"هواجس") من شهرين ونصف بأن ملايين المواطنين غاضبون وأنهم سيقاطعون الانتخابات بسبب تشككهم في إمكانية الرئيس الحالي إحراز تقدم على مستوى معاناتهم اليومية مع غلاء الأسعار وزيادة التضخم وعدم مواءمة الدخل مع حجم الإنفاق وأن نتيجة هذه الانتخابات ستكون لها تداعيات واضحة، على ضغوط الأزمة الاقتصادية التي يعاني منها الشعب.
يستكمل المصدر بالقول إن المسؤولين اجتمعوا مرات عديدة بطلب من الأجهزة للتشاور والبحث عن طريقة تعيد الثقة للعملية الانتخابية لدى جموع المصريين وكيفية إخراجهم للاصطفاف في طوابير لمدة طويلة دون كلل للتصويت طواعية، لكن المسألة كانت صعبة، خاصة أن هناك انتخابات سابقة فشلت فيها الأجهزة الأمنية، ولم تستطع الحشد لممثل الحكومة كما حدث في نقابة المهندسين والصحفيين، وكان هناك اتفاق ضمني على امتصاص جزء من الغضب الشعبي؛ بأية تكلفة.
وأوضح المصدر أن الحرب على غزة قلبت الموازين، وتصدرت المشهد لدرجة اقتناع المواطنين أن استمرار هيمنة الرؤية الأمنية وتقويض المعارضة وتحجيمها هي الطريق الآمن للحفاظ على البلد أمام تحديات كبرى إقليمية واقتصادية، وأن البلد يحتاج إلى رجل دولة من مؤسسة عسكرية، على حد تعبيره.
سألنا المصدر عما يتم تداوله بأن هناك توجيهات أو إكراهاً للحشد للنزول للمقار الانتخابية، خصوصاً، أن "عربي بوست" رصدت استدعاء رئيس مباحث أحد الأقسام الشرطية أحد المستأجرين لساحة انتظار بشارع شبرا وسط العاصمة المصرية، وطالبه بحشد عدد لا يقل عن 200 فرد للإدلاء بأصواتهم في الانتخابات. واللافت أنه تم استدعاء ذات الشخص أثناء جمع التوكيلات وطالبه رئيس المباحث بإحضار بطاقات 2000 شخص خلال يومين، لكن المستأجر لم يستطِع الحصول على هذا الرقم الضخم من البطاقات وأخبر الضابط أنه تحصل على 100 بطاقة فقط، وكانت النتيجة عمل محضر مخالفات اشتراطات أمنية وتوقيع غرامة عليه.
تلك الواقعة لم تفاجئ المصدر الذي أشار إلى أن أقسام الشرطة لديها قوائم بأسماء الناخبين وهناك "توجيهات عليا" بالحشد والحث على المشاركة، ولم ينفِ أن هناك إكراهاً للبعض على المشاركة قائلاً: "تلك الانتخابات مختلفة عن الانتخابات السابقة بسبب الهجوم الشديد الذي نال من صورة الرئيس المصري وبالتبعية هز مكانة مصر بالخارج، والحشد هو الأهم بالنسبة لتلك المرحلة الحاسمة، وستكون بمثابة رسالة قوية لشرعية النظام داخلياً وخارجياً، وهو ما يحتاجه النظام بسبب الخسائر الاقتصادية".
وأوضح أن السيسي زادت شعبيته بعد تبنيه مواقف صارمة من ملف التهجير، فضلاً عن أنه لم يخضع لابتزازات سياسية أو ضغوط اقتصادية ولم يلِن للمشاهد الإنسانية التي استخدمتها إسرائيل لحث أهل غزة على الاستنفار ضد مصر، على حد تعبيره.
وأشار المصدر إلى أن هناك سائقي ميكروباص وتكاتك و"سياس" وعمال يومية وبسطاء لن يصلح معهم العزف على الوتر الأمني أو المتاجرة برفض التوطين في سيناء، لذلك كانت هناك توجيهات مشددة لحثهم على النزول أو تعبئتهم بالشبكات التقليدية من خلال مستقبل وطن أو حماة الوطن أو جمعيات رجال الأعمال.
وقبل أن يختم المصدر حديثه، سألناه عن سبب اختفاء صبري نخنوخ الرئيس الحالي لمجلس إدارة فالكون للأمن أكبر شركة حراسة في مصر من المشهد الانتخابي رغم ظهوره بقوة أثناء عمل التوكيلات، وكانت إجابته مقتضبة: "لا مجال لاستفزاز الشارع، فهناك حالة غليان من سوء الحالة الاقتصادية".
"التنافسية" لا تنطبق على الانتخابات الحالية
مصدر بأحد الأحزاب المعارضة أكد لـ"عربي بوست" أن كلمة "تنافسية" التي يستخدمها البعض لوصف الانتخابات الحالية، لن تنطلي على أحد، لأن المرشحين الثلاثة جاءوا بالتنسيق مع الأجهزة الأمنية، وتساءل كيف يعلن مرشح تأييده ودعمه للرئيس الحالي؟ وأين البرامج والمناظرات لنقتنع أن هناك منافسة؟
وأوضح المصدر أنه لا يوجد بينهم من يعرقل فوز الرئيس السيسي بفترة ولاية ثالثة، مشيراً إلى أن المعارض أحمد طنطاوي هو المرشح الحقيقي الوحيد الذي كان يضفي على الانتخابات صفة التنافسية والمصداقية، لكن تم التضييق عليه لمنعه من استكمال التوكيلات اللازمة للترشح والإطاحة به من السباق الرئاسي قبل أن يبدأ، وتتم الآن محاكمته بتهمة التزوير وتداول أوراق تخص الانتخابات دون إذن السلطات.
ويرجع المصدر مشهد الإقبال في بعض الدوائر الانتخابية إلى عدة أسباب، منها أن آلاف المواطنين يجدون أن صوتهم له قيمة، بينما هناك كثيرون لديهم قناعة أن ما يجري ليس انتخاباً، بل تفويض للجيش واختيار للدولة المصرية من قبل الشعب بسبب حجم التحديات الحالية على المستويين المحلي والإقليمي وأنهم لا يصوتون لشخص بعينه.
وأوضح أن توتر الوضع على الحدود غير المشهد الانتخابي برمته وأضفى إلى الانتخابات الجارية مكانة وقيمة لم تكن لتنالها في حال عدم نشوب الحرب، بل إن الأزمات الاقتصادية الطاحنة التي يمر بها المصريون انزوت وتوارت مقابل مفاهيم أخرى مثل الأمان والاستقرار بسبب ازدياد المخاوف من امتداد الحرب في غزة إلى حرب إقليمية، ومن رحم تلك المخاوف تبدلت قناعة المواطنين من الالتفاف حول رئيس مدني (في حالة وجوده) إلى أن البلاد بحاجة لقائد ذي خلفية عسكرية، وبالتبعية صب ذلك في مصلحة الرئيس السيسي.
وحذر المصدر من لفت الأنظار بعيداً عن الأزمات الداخلية واتخاذ الحرب الدائرة حجة لاستعادة الشعبية استناداً إلى قاعدة إذا أردت أن توحد شعباً فأوجد عدواً خارجياً؛ لأن عواقب هذا الاتجاه سوف تظهر مستقبلاً في شكل انهيار داخلي، خاصة إذا كان العدو مفتعلاً أو يمكن تجنبه.
وكان المصريون بالخارج قد أدلوا بأصواتهم في مطلع الشهر الجاري ووفقاً للهيئة الوطنية للانتخابات، يبلغ تعداد من يحق لهم التصويت في الانتخابات حوالي 67 مليون ناخب فوق سن 18 عاماً من إجمالي عدد السكان البالغ 104 ملايين نسمة.
ويبلغ عدد لجان الاقتراع الفرعية على مستوى الجمهورية 11 ألفاً و631 لجنة تقع بداخل 9376 مركزاً انتخابياً تخضع لإدارة وإشراف الهيئة الوطنية للانتخابات.